ولم تكن أقوال كهذه تدفع إلا لمزيد من الفجيعة والحزن.
غير أنه على سطح كل هذا كان يطفو إحساس آخر بالانبهار. الحقيقة أني رغم كل ما قلت وأعدت كانت جدية المصارعة وما فيها من بطولة لا تزال عندي موضع شك، وإن كان بمضي الوقت كان يضعف، إلا أنه أبدا لم ينعدم. لم ينعدم إلا في تلك اللحظة التي أدخلوه فيها المستشفى مشبعا بالطعنات ودوائر الدم الناضحة من ملابسه الأنيقة تتسع وتتسع، ذلك الفتى الشهم الرقيق الذي كان يلف ويدور في «الأرينا» ممتلئا بالحياة والقوة والصحة. لحظتها أدركت أن رسمه، ورسمهم جميعا لعلامة الصليب قبل دخولهم الساحة أبدا ليس من قبيل التدين أو الفأل الحسن. لحظتها أدركت سر الصفرة المتعاظمة التي كانت تكسو وجهه ووجوههم جميعا طول الوقت. إنهم كانوا أدرى الناس بما يختفي وراء كل تلك «الأوليهات» والتهليلات والحشود من السياح والإسبان والملابس المزركشة والتقاليد العتيدة؛ إذ هناك يختفي الموت وعلى أبشع صورة ... الموت بالإرادة، الموت بالحظ، الموت لأقل هفوة، الموت حتى ولو لم ترتكب هفوة.
وانبهاري كان سببه أني أدركت متأخرا ومفجوعا مخنوق الأنفاس بالحزن أنهم أبطال، وأن صديقي هذا الذي اخترته من أول لحظة بطل. ليست البطولة التي تستدعي التصفيق والتهليل، ولكنها البطولة التي تدفع للبكاء والدموع واحتقار النفس لما يمكن أن يكون مترسبا فيها من خوف الموت. ها هم كما رأيناهم، ها هو كما رأيناه، كان يدري بالخطر الأكبر الكامن ليس في هذا اليوم بالذات، ولكن في كل يوم، في كل مرة يطأ رمل الدائرة بقدمه، في كل حياته، ومع هذا لا يتراجع، ويقدم، ويلف ويدور ويواجهه حتى يسقط، سقطة حقيقية، سقطة في بحر من دمه.
كانت المصارعة والغربة واليوم والدنيا كلها قد انتهت تماما بالنسبة إلي. كل حماسي ورغبتي وقدرتي، حتى أن أفتح العين وأنظر وأعقل قد انتهت. كنت أحيا بجماع نفسي هناك على باب المستشفى داخل تلك الحجرة ذات الباب المنخفض التي نقلوه إليها. هل لا زال يتنفس؟ هل بدأ النزيف الداخلي؟ هل مات؟
وكذلك كان الجميع إنصافا للحق، كنا جميعا هكذا وكأن الخيوط التي كانت تربطنا به قد قويت فجأة وتماسكت حتى جذبت منا كل الوعي والانتباه، والصمت أيضا كان لا يزال هناك، والهمسات تخرج خافتة وتحدث خافتة.
ولكني لم أتوقع ما حدث.
وازداد ذهولي عمقا وأنا ألمح الأنظار قد بدأت تتجه شيئا فشيئا إلى الثور الذي كان هناك لا يزال واقفا، عليه ينصب حقد ستين ألف عين.
والسؤال المسيطر هو ماذا يمكن أن يحدث؟
وما حدث هو نفس ما يحدث في كل مرة؛ فليست تلك أول مرة يسقط فيها ميتادور، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة.
كان لا بد أن تستمر المصارعة.
Unknown page