وأقبل الثور بأسرع مما يتوقعه أحد، وكأنما غذت سرعته فرحة القرب من لحظة الفوز، وبدا الموقف خطيرا إلى أبعد درجات الخطورة، وكأنما الميتادور نفسه قد أدرك مدى خطورته وسخافة إقدامه على الحركة. وتصاعدت صيحات التحذير والتأوه والاستغاثة، ولمحت المئات يضربون جباههم بأيديهم تعاسة ويأسا وإحساسا بالخسارة، ودقات القلوب، الثلاثون ألف قلب وهي تتلاحق وتتعالى مضت تنطق بما لم تكن الألسنة تجرؤ على البوح به بأنه ضاع وانتهى؛ إذ أين المفر؟ وكيف النجاة؟ والثور ينقض ولا وقت للعدول عن الحركة ولا وقت للوقوف ولا أمل في النجاة.
شيء واحد فقط يطمئنني، أن إلهامي لم يهمس لي أنه سيموت.
دليل تافه وغير علمي وسخيف، ولكنه كان كل ما لدي في تلك اللحظة لأتمسك به.
وانقض الثور على العباءة محنيا رأسه.
وانثنى الشاب بآخر ما يستطيع من مدى إلى ناحية انثناءة جعلت ساقه اليسرى تستقيم.
وهكذا مر الثور هذه المرة دون أن يصيبه بأذى.
ولكن هذا كان أمرا شبه متوقع؛ فالخطورة في الحركة التالية حين يستدير الثور في طرفة عين ويقبل مهاجما من الناحية الأخرى؛ إذ حينئذ سيأتي الهجوم من ناحية ظهره بينما هو راكع على الأرض غير قادر على الحركة أو الاستدارة. إن الرد الوحيد أن يقف ويستدير ويواجهه ليستطيع أن يحدد اتجاه هجومه ويتنحى عنه، ولكنه رد مستحيل؛ فالوقت الذي سيأخذه للقيام بكل هذه الحركات أضعاف الوقت الذي سيستغرقه الثور للاستدارة والهجوم.
هكذا كان يبدو الأمر للجمهور، وهكذا حدث لنا ذلك الصمم الغريب وكأن الآذان نفخت بهواء ساخن مضغوط.
ولم نعرف، ويبدو أننا لن نعرف إلى الأبد كيف حدث هذا؛ إذ في نفس اللحظة التي كان الثور يستدير فيها كان الميتادور الشاب قد وقف على ساقيه. وهكذا حين أقبل الثور مهاجما وجد أمامه المصارع محددا خط هجومه مستعدا للتنحي في الوقت المناسب. خيل إلي أنه في تنحية الأول حين استقامت ساقه اليسرى وقد مر الثور ارتكز على اليمنى وحشد كل قواه حتى ارتفعت به عضلاتها وكأنها آلة رافعة إلى مستوى الوقوف. ولكنه مجرد فرض؛ فالقيام بحركة كهذه في حاجة إلى قوة عظمى تسري في الساق في تلك اللحظة، قوة خارقة كالمعجزة لا يمكن لإنسان ما مهما بلغت قوة إرادته أن يستحضرها، لا بد لها أن تأتي إن كانت ستجيء من تلقاء نفسها، كأي معجزة لا تواتي الإنسان إلا في حالة الضرورة الحيوية القصوى التي يستدعيها لانتشال نفسه من لحظة موت مؤكدة.
ولم تجتح «الأرينا» كما توقع الجميع موجة تصفيق عارم، لم يتصاعد هتاف فالناس تصفق وتهتف للبطولة، أما المعجزة فالرد الوحيد عليها هو الانبهار والذهول.
Unknown page