ثم استقال الشيخ من وظيفته بوزارة المعارف، بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي وإسناد نظارتها إلى المربي الكبير «عاطف بركات بك»، وأخذ في حملته على وزارة المعارف على النحو الذي يذكره قراء اللواء في تلك الأيام.
وحضرنا يوما إلى مكتب الصحافة بوزارة الداخلية، فسألنا موظف فيه: «هل صحيح أن الشيخ جاويش اعتزل عمله في تحرير «اللواء»؟»
فقال زميل صحفي: «إن صحيفة الوطن قد نشرت الخبر.» وقال زميل آخر: «إني أشك في صحة الخبر.» وقلنا جميعا: «إن دار اللواء قريبة، والسؤال هناك أيسر من الشك بغير دليل.»
ودخلنا مكتب الشيخ فوجدناه فيه، وتبين من الكلمة الأولى أن الخبر غير صحيح، ثم مضى الشيخ في كلامه من التعليق على صحيفة الوطن إلى تعليق على الصحف عامة، وعلى السياسة والأحزاب، ثم إلى الكلام عن حرية الصحافة وحرية الزعماء السياسيين.
وجلست أسمع وأنا أعجب لرجل يفهم الوطنية المصرية في نهضة المطالبة بالاستقلال، ثم ازداد عجبي حين قدم للمحاكمة، فكان دفاعه الأول أنه «غير مصري»؛ لأنه ينتمي إلى أسرة تونسية، و«تونس» خاضعة للحماية الفرنسية.
ثم ازداد العجب حين سافر إلى «الآستانة» وأنشأ فيها صحيفة «الهلال العثماني»؛ لينشر بها دعوته السياسية على الوجه الذي كان يفهمه ولم يعدل عنه بقية حياته، وبلغ غايته حين علمنا أنه أنشأ في «الآستانة» حزب «الوطن العثماني»؛ ليعارض به حزب «محمد فريد»، الذي جعل شعاره «مصر للمصريين».
وكانت صحيفة «الهلال العثماني» تصل إلينا سرا في فترات متقطعة، فكنت أسأل نفسي: هل بلغ من يقين الشيخ بمذهبه في الوطنية أن يفترض قبوله على كل مصري يسمع باسمه من بعيد؟
وعدنا إلى زي الشيخ حين سمعنا نبأ الحملة التركية على هذه البلاد، فقد قيل يومئذ إن كسوة المشيخة الإسلامية كانت في حقيبة الشيخ، وإنه قد حيل بينه وبين مصاحبته الحملة في اللحظة الأخيرة لامتعاض شيخ الإسلام هناك من حركاته حول مصر والحجاز. •••
وانتهت الحرب، ولقيت الشيخ اتفاقا قبل تعيينه مرة أخرى بوزارة المعارف، فإذا هو هو في تفكيره وتقديره عن السياسة الوطنية: «أنقرة» هي صاحبة القول الفصل في السيادة المصرية، «أنقرة» هي المرجع الأخير في الامتيازات الأجنبية، معاهدة سنة 1840 هي أساس ما نطالب به من حقوق!
قلت: «الحمد لله، لقد تغيرت مصر كثيرا في عشر سنوات، وإن لم يتغير الشيخ عبد العزيز جاويش، ومن جرى على مجراه.» •••
Unknown page