وإنك لترجع إلى كتابات محمد المويلحي، فلا تلبث أن تلاحظ إذا التفت إلى هذه العادة القلمية عنده، أنه أقل كتاب عصره إساغة للكلمات المطروقة من هذا القبيل، إلا على سبيل النكتة والدعابة، وقد كانت هذه الكلمات المطروقة تتخلل المقالات في عصره بالعشرات والمئات، ولكنك تحسبها في كتابات المويلحي فلا تراها تزيد على أصابع اليدين، وقد تعمدت أن أراجعها في كتابه «علاج النفس»، وهو في أكثر من مائتي صفحة، فوجدت منها قوله: «انصرافهم بكليتهم نحو المستقبل»، أو قوله: «فترى الواحد منا إذا اضطجع فوق فراشه»، أو قوله: «إن الفضل فيها بينهم ليس للشخص»، إلى عبارات كهذه لا يخطر للقارئ أنها من قبيل اللفظ الدارج المطروق، إلا إذا علم أنها قد سلكت سبيلها إلى الشارع والسوق.
وربما كان الابتذال أبغض شيء إلى الرجل في كل خصلة من خصاله، وفي كل شاغل من شواغل حياته، فمن مراقبتي لمسلكه المطبوع قرابة سنتين أستطيع أن أفهم أنه كان - كما تقدم - يرتضي لنفسه سمتا واحدا لا يعلوه عنده سمت يظهر به الإنسان بين الناس، وذلك هو سمت السري الحكيم العزوف عن مواطن الزحام، فهو عنده أعز وأكرم من سمت الرئيس الملقب والأديب المشهور، وهو في طبيعته وراثة، قد زادها تمكنا منه أنه لم يرث من أبيه طلاقة اللسان، التي كانت تحبب إليه غشيان المجلس أو مناوشة الجلساء بالكلام، كما كان يناوشهم بالقلم على صفحات الأوراق.
وروي عن أبيه أنه مر بدكان تاجر كبير - وهو راكب - فحياه، فلم ينهض لرد تحيته ودعوته إلى النزول لديه، فمضى قليلا، ثم عاد إلى التاجر يسأله عما عنده من فناجين القهوة، حتى عرض عليه التاجر فنجانا ثمنه عشرة مليمات، فألقاه من يده على الأرض فانكسر، وناول التاجر قرشا وهو يقول ويهم بالانصراف: إن من يقيمه ويقعده قرش لا يحق له أن يترفع عن رد التحية على كائن من كان.
وقد كان عزوف محمد أشد من عزوف أبيه، وكان يلزم داره شهورا لا يفارقها، إذا صفرت يده من المال الذي يجاري به أقرانه في مجال الإنفاق خارج الدار، واستقال من وظيفته بديوان الأوقاف بعد إعلان الحرب العالمية الأولى - وهو لا يستغني عن مرتب وظيفته - لأنه أحس أن أعوان السلطان الجديد يغضون من قدره ولا يعاملونه بما هو أهله، وعكف على داره بقية حياته لا يبرحها إلا لرياضة أو عمل يلجئه إلى الخروج.
وفي اعتقادنا أن هذه الأنفة إنما كانت وليدة اعتزازه بنسبه وعقله قبل اعتزازه بأدبه وعلمه، وأن مواجهة أقرانه بهذه الأنفة قد أصبحت عدته الكبرى لحفظ مكانته بالكرامة الملحوظة، بعد أن زالت ثروة البيت التي كانت تغنيه - لو بقيت - عن إحضار هذه المناظرة في ذهنه، بين أناس من ذوي البيوتات أقدر منه على مظهر البذخ والجاه.
وأشد ما تكون هذه المناظرة حين يتنافس أبناء «الذوات» من الطبقتين المتقاربتين في ذلك العهد: طبقة «الذوات» أبناء العرب، وطبقة الذوات «أبناء الترك» أو طبقة الوجاهة «البلدية» وطبقة الوجاهة «الأتركة».
فإنك لا تقلب صفحتين من حديث «عيسى بن هشام» إلا لمست فيها هواه من أبناء البلد وسخريته - بل استجهاله واستحماقه - لنفخة الذوات من الطبقة الأخرى، وهو لا يعفي أبناء البلد من دعابته وغمزه، ولكنه يداعبهم ويغمزهم كما يفعل أبناء الأسرة الواحدة في مناوشات الدار بغير زراية ولا نقمة، وعلى غير هذا النحو كان منحاه إذا كتب عن الآخرين.
بل نحسب أنه لم يكن يألف موضوعا للكتابة إلا ما يحسب من موضوعات الناقد المترفع أو المشرف المتبسط في ساعات فراغه، فكل ما كتبه في «حديث عيسى بن هشام» فهو نظرات إلى الدنيا والناس من هذه الشرفة المطلة عليها وعليهم، وكل ما اتخذه من أدوار هذا النقد الاجتماعي، فإنما هو دور «فرجة» لا دور صناعة قلمية، مهما يبلغ من شأنها، فما بلغ في عرف مناظريه من ذوات «الأتركة» أن تقارن منزلة الوجاهة والرئاسة.
وهذه العصبية بين «ذوات» البلد وذوات «الأتركة» هي التي ضمته مع أسرته جميعا إلى معسكر الثوار وأبعدته عن معسكر «الخديو» وأعوانه من الجراكسة وخدام الدولة، وقد كان بيت المويلحي أقرب إلى بيت محمد علي منذ قيامه في الحكم من أكثر البيوتات الوطنية.
ولما فرغ من نشر «عيسى بن هشام» لم يعمد إلى إتمامه و«تقفيله» كما يقال في اصطلاح التأليف، ولكنه عمد إلى موضوع آخر من موضوعات الحكمة والتهذيب تليق بتلك الشرفة التي يستوي عليها الناقد الاجتماعي، فألف كتابه «علاج النفس» الذي طبع بعد وفاته، وساقه مساق الواعظ الحكيم للمتأدب المستمع، وإن كان قد تلطف في تقديمه فقال إنه ليس «في منزلة أوامر الطبيب للمريض، بل في منزلة دواء مجرب من مريض إلى مريض، ومن عاجز مستزيد إلى طالب مستفيد».
Unknown page