وفي الصباح رأيت الدكتور «سرور» وحكيت له عما حدث، فضحك بسخرية الأطباء وقال: أنت طبيبة فلماذا تكتبين وتجرين على نفسك المشاكل؟ وها هو مقال واحد يحرمك من السفر إلى طهران وحضور هذا المؤتمر العالمي الهام!
عيناه من خلف النظارة البيضاء كعيون الأطباء؛ شبه زجاجية، بريقها من فوق السطح بغير عمق خال من العواطف. لا يعرف عن الحياة إلا المرض والجراثيم، والناس في نظره إما مرضى أو سيمرضون حتما قبل أن يموتوا، وفي كلا الحالين: المرض أو الموت، هو يقبض الثمن مقدما أو مؤخرا.
عيناه تلمع كالزجاج، و«النني» يتذبذب في حركة دائرية كالحاسب الإلكتروني، لا يكف عن النظر إلى عقارب ساعته، وفي يده حقيبته الجلدية، داخلها السماعة المعدنية وجهاز ضغط الدم والحقن والإبر، والجراب الداخلي السري تفوح منه رائحة البنكنوت واليود والدم.
منذ دخلت كلية الطب وأنا أكره الأطباء؛ مشيتهم المتغطرسة بين الممرات، طرقعات كعوبهم الحديدية فوق البلاط، أنوفهم المرفوعة بعيدا عن رائحة الجرح، عيونهم الشاخصة فوق جيب المريض، أصواتهم المعدنية فوق المنصات عن الإنسانية والرحمة.
وظل صوت الدكتور «سرور» في أذني، نبرة السخرية تؤكد فشلي، أهرب من أوساط الأطباء، ولا أجد في أوساط الأدباء راحة أو عزاء؛ فالأدباء في بلادنا يشتغلون بالصحافة، يتقاضون مرتبات من الدولة كموظفي الحكومة، يطيعون الأوامر العليا، عيونهم ناحية الحكام وظهورهم ناحية الناس والإنسانية.
وفي أعماقي منذ الطفولة رغبة في تحدي الأوامر، ووجدتني أعد حقيبتي، المؤتمر طبي عالمي، وصدر القرار المصري بسفري، وتلقيت أوراق المؤتمر من جنيف، وفي نهاية إحدى الأوراق عبارة تقول بالإنجليزية: إذا لم يحصل أحد أعضاء المؤتمر على تأشيرة الدخول إلى طهران بسبب ضيق الوقت فيمكنه الحصول عليها عند وصوله إلى مطار طهران.
وضعت هذه الورقة في حقيبتي ومعها جواز السفر والتذكرة، وفي مطار القاهرة لمحت الدكتور «سرور» من ظهره، أمام النافذة الزجاجية للسوق الحرة يشتري زجاجات الويسكي وسجائر «كنت».
وسرت نحو الطائرة بقلب ثقيل، قد أصل إلى طهران ثم أعود في الطائرة نفسها إلى القاهرة، ربما أبرقت سفارة إيران إلى مطار طهران لمنعي من الدخول، ربما يسمحون لي بالدخول ثم ينتقمون مني داخل طهران، عقلي يموج بهواجس متضاربة، وقدماي تتقدمان نحو الطائرة بغير تردد، إرادتي من حديد، لكن الرحلة تبدو لي عبثية، لماذا أعرض نفسي للخطر بغير داع؟! سؤال راقد في قاع عقلي منذ الطفولة، وللخطر في أعماقي جاذبية، ولطهران أيضا منذ الرحلة الأولى جاذبية، وجلال آل أحمد لا يزال وجهه أمامي. لا أصدق أنه مات؛ كان شابا فكيف يموت الشباب في ظروف غامضة؟
كلمة «غامضة» تثير خيالي منذ سمعتها من موظف السفارة، وفي رأسي قرار: لا بد أن أعرف. والرغبة في المعرفة كالثمرة الآثمة أكلتها حواء وجعلت آدم يأكل منها.
وفي صدري إحساس بالخوف كالهواء الثقيل، كالحزن القديم، والألم تحت المعدة، جالسة في مقعدي بالطائرة كمن تنتظر المصير وعقاب السماء والآلهة. •••
Unknown page