تراجعت برأسي بعيدا عن النافذة، لكني داخل الطائرة ولست داخل قطار، والنافذة صغيرة مستديرة مغلقة بزجاج مزدوج، والسماء زرقاء ثابتة، والسحب بيضاء ثابتة. لا أشجار ولا أعمدة سواري تتحرك، ولا أستطيع أن أطل برأسي من النافذة، وجسدي عاجز عن إدراك الحركة، كأنني داخل علبة حديدية معلقة في الكون إلى الأبد، وحزام المقعد يلتف حول جسدي وينتهي إلى قفل معدني، ملمسه فوق صدري كالسماعة الطبية تتدلى من الخرطوم المطاطي حول عنقي، ورائحة اليود والدم في معطفي الأبيض، ولهاث المرضى في أذني كالطنين، طابور طويل يمتد حتى الزقاق المترب أمام باب المستشفى تعلوه لافتة نحاسية صدئة نقشت عليها حروف سوداء: «مستشفى الأمراض الصدرية بالجيزة»، وإلى جواري المنضدة الخشبية كالحة، والفانوس الكهربي لرؤية صور الأشعة، ثم نافذة صغيرة مفتوحة على بركة صغيرة تقذف الهواء محملا بالغبار ورائحة عفونة كالمجاري.
حملقت في الكون الواسع من خلال الزجاج المزدوج، ونظرت ناحية الأرض، أبحث بعيني عن موقع مستشفى الدرن من الأرض أو موقع الأرض من المستشفى.
من بين السحب البيضاء كزيت القطن رأيت سردابا طويلا يهبط إلى الأرض. الأرض سوداء تماما، لكن عيني التقطتا نقطة فوق الأرض أكثر سوادا، وقلت لنفسي: لا بد أنه المستشفى، والأرض أيضا ليست أرضا وإنما هو شيء له حركة ماء ولا بد أنه البحر.
من خلفي رجل عجوز يسعل، سعاله من النوع الجاف بسبب الدخان وليس الدرن، أذناي تدربتا على تشخيص المرض من نوع السعال.
كل يوم من الساعة التاسعة صباحا حتى الثانية بعد الظهر أسمع سعال الطابور الطويل، أضع السماعة المعدنية بين الضلوع البارزة وأسمع صفارة الهواء ثم خشخشة الدم والصديد، أسلط على الصدر الأشعة وأنا أقول للمريض: اكتم نفسك. وبدلا من أن يكتم نفسه، يسعل في وجهي ويملؤني بالرذاذ، أتراجع إلى الوراء بسرعة وأدس في اليد المعروقة زجاج الدواء قائلة: قرص واحد بعد كل وجبة طعام ثلاث مرات في اليوم.
يردد الصوت الخافت مع اللهاث: بعد كل وجبة طعام؟
وأقول: نعم، بعد كل وجبة طعام، ثلاثة أقراص في اليوم الواحد بعد الوجبات الثلاث!
ويأتي السؤال على شكل شهقات: الوجبات الثلاث!
وأردد: نعم، وجبات الطعام الثلاث!
ذلك اليوم كانت آخر الطابور امرأة في يدها طفل وعلى كتفها طفل، استدارت وهي تزمجر: وهل كنت أمرض بالسل إذا كانت هناك وجبات ثلاث؟!
Unknown page