كان يسافر إلى بلد الإنجليز بلباسه الأبيض الذي غزله بيده وشاله الذي صنعه على «النول» في بيته، والصندل المفتوح في قدميه. بهذا المنظر وعصاه في يده كان يجلس غاندي وسط الإنجليز ببدلهم الصوفية وأحذيتهم الجلدية وربطات العنق الثمينة، يجلس معهم دون أن يكترث بمظاهرهم البراقة؛ فهو يعلم أن تحت هذه القشرة قطاع طرق ولصوص يستنزفون خيرات بلده، وكان الإنجليز يتفاوضون معه كما يفعلون مع أي زعيم في أية مستعمرة لهم. ولم يكن من الممكن لأية مفاوضات أن تنجح؛ لأن غاندي لا يهتز لمال قارون ولا يطربه مجد ولا يخشى الموت ولا يريد من حياته سوى أن يحقق رسالته.
لم تكن رسالته في أول الأمر سوى أن يحارب الظلم والفقر بالحب والتفاني في العمل. كان وحده في البداية، ثم انضم إليه فقراء الهنود الذين ثاروا ضد ضريبة الملح واسمها «ساتايا جراها»، والتي أصبحت من بعد رمزا لكل حركة ثورية. لم يكن الإنجليز يكتفون بسلب أموال الهند بل كانوا أيضا يحملون الشعب الهندي ضرائب باهظة على كل شيء وأي شيء حتى الملح، وأصبح على ملايين الفقراء أن يدفعوا ضريبة على الملح الذي كان يشكل طعامهم الرئيسي بل الوحيد، وحينما عجز هؤلاء الفقراء عن دفع ضريبة الملح وأصبحوا مهددين بالموت جوعا فوق الرصيف تجمعوا على شكل حركة وسميت حركة ضريبة الملح.
كان غاندي صادقا في رسالته، وكان مناضلا حقيقيا يسعى ضد الظلم، لكنه مات مقتولا. وقال لي أحد شباب الهنود الذين تحدثت معه وأنا أتجول في بيت غاندي: كان غاندي صادقا، لكن الصدق وحده لا ينفع في عالم تقوم فيه السيادة على الغش والكذب والخداع، وكان مبدأ غاندي الحب، ولكن سلاح الحب كسلاح الصدق لا يصلح ضد خصوم يحملون أسلحة مسممة. كان غاندي إنسانا عظيما لكنه كان سياسيا فاشلا، وانتهى به الأمر إلى أن وافق على تقسيم الهند، هذا القرار الخاطئ والذي كان سببا في مقتله.
سألني هذا الشاب: هل زرت أشرم غاندي؟
قلت: ما هو أشرم غاندي؟
قال: هذه المباني الصغيرة المواجهة لبيت غاندي.
قلت: ومن يعيش فيها؟
قال: يعيش فيها حوالي ألف شخص من الرجال والنساء والأطفال، يعيشون على شكل «كوميون»، يتقاسمون كل شيء، ويطبقون جميع مبادئ غاندي في حياتهم داخل الأشرم. إنهم يعملون ويتعاونون معا ويقرءون ويزهدون في الحياة ولا يمارسون الجنس.
قلت: ومن أين جاءت الأطفال داخل الأشرم؟
وقال الشاب: جاءت قبل التحاق الأب أو الأم بالأشرم، لكن بعد الانضمام إلى الأشرم فليس هناك أي اتصال جسدي بين الرجال والنساء حتى وإن كانوا أزواجا قبل انضمامهم إلى الأشرم. إنهم مجموعة من الناس اختاروا أن يعيشوا معا هذه الحياة الروحية والفكرية، واستطاعوا أن يتغلبوا على شهوات الجسد.
Unknown page