وغضبت الإلهة برافاتي ووضعت رأس فيل لابنها وعاش، وأصبح الإله «جانيش» له رأس فيل وجسد إنسان، ويرمز إلى الحب والخير والحظ السعيد، ويركع أمامه الهنود ليتباركوا به ويشعروا نحوه بالحب والعطف. أما الإله شيفا فهم يرهبونه ويخافون شره وغدره؛ ولهذا يغدقون عليه الأموال والطعام درءا لشره. لا يعرف هؤلاء أن هذه الأموال والطعام لا تذهب إلى شيفا وإنما إلى طبقة من الكهنة والنساك جعلوا المعبد مؤسسات تدر عليهم الخير.
ظاهرة غريبة لاحظتها في معظم المعابد ودور العبادة؛ ذلك أن معظم زوارها الذين يدفعون الهبات هم من الفقراء، رأيت رجالا ونساء يهبون طعام يومهم للمعبد ويصومون اليوم كله بغير طعام، لماذا؟ لأنهم يطلبون من الآلهة مطلبا مثل أن يرزقهم بولد أو يشفي مريضهم أو يحميهم من اضطهاد صاحب الأرض ... إلخ، وتتعدد الأسباب ويتكوم في المعبد الرزق الضئيل لآلاف الهنود الكادحين الأميين.
نسبة الأمية في الهند 60٪ بين الرجال، 80٪ بين النساء، تمر السنون وتظل مشكلة الأمية بغير علاج، كما هو الحال في بلاد كثيرة، ولكن كيف تعيش الأقلية المرفهة في المدن إذا فتح الفلاحون والكادحون عيونهم وأذهانهم؟ من أجل هذا تحافظ هذه الأقلية (التي لا تذهب إلى المعبد أبدا) على المعابد والآلهة والأديان كمؤسسات للتجهيل والتعمية بل والقمع والتخويف أيضا. •••
قرأت اليوم في جريدة الصباح شيئا طريفا؛ إن حاكم ولاية ماهر شترا (عاصمتها بومباي) - واسمه علي يافار يونج، اعترف بالأمس في خطابه وهو يفتتح أحد المعارض الكبيرة، أنه حينما كان سفيرا في فرنسا رغب في سرقة إحدى التحف الجميلة من متحف في باريس. لكنه قاوم هذه الرغبة ولم يسرق التحفة الجميلة، واستطرد هذا الحاكم الهندي يقول: لا بد أن أعترف أن هذا الإغراء بالسرقة كان أشد إغراء تعرضت له في حياتي بالرغم من أنني أميل أحيانا إلى سرقة بعض الأشياء التي تعجبني.
مثل هذا الكلام الصريح يتفق مع طبيعة الهنود البسيطة المباشرة. إنهم يعبرون عن أنفسهم أحيانا بصدق شديد يدهش الغرباء عنهم، بعض الناس يظنون أن ذلك الصدق نوع من البلاهة أو الغباء أو السذاجة. في مصر حينما يريدون التهكم بشخص ساذج صريح يقولون عنه إنه هندي، لكن احترمت صدق الهنود وصراحتهم. لقد احترمت حاكم ماهر أشترا الذي اعترف بأنه يسرق أو يميل إلى السرقة أحيانا. كثير من الحكام يسرقون دون أن يعترفوا بذلك.
والهنود أيضا - بصفة عامة - لا يجيدون المجاملة؛ فالمجاملة نوع من الكذب الاجتماعي الذي انتشر في العالم وأصبح نوعا من الرقي والتهذيب. كما أنهم لا يعرفون النفاق الوظيفي كما نعرفه في مصر، ويتعاملون مع وزرائهم وحكامهم ببساطة وبغير تلك الرعشة التي نراها دائما في اجتماعاتنا الرسمية، حضرت أحد الاجتماعات الكبيرة في دلهي ورأيت الوزير يدخل ويخرج كأنه شخص عادي ودون أن يلتف حوله أحد. وأثناء النقاش سمعت صغار الموظفين ينقدون الوزير بغير هوادة ولا رفق. وكان كل ذلك يبدو عاديا ومألوفا، وعرفت من بعد أن الهنود (وإن كانوا موظفين) تعودوا النقاش والنقد الصريح الذي لا يخشى أي رأس في الدولة. وهذا يرجع إلى تعدد الأحزاب في الهند، وإلى وجود أحزاب معارضة تنقد الحكومة وتشجع الناس على إبداء رأيها بغير خوف. •••
في نيودلهي عاصمة الهند حديقة مشهورة جميلة اسمها «لودي»، سرت فوق أحد ممراتها الحجرية بين مساحات الخضرة وأحواض الزهور، انعكست صورتي فوق سطح البحيرة الصافية، وزهرة الليلى البنفسجية على سطح الماء بدأت تغلق أوراقها مع اقتراب الغروب، كطفل يلف ذراعيه حول جسمه وينام وحيدا في العراء. شمس الغروب دافئة بحرارة الجسم تلون السحب باللون الأحمر والبرتقالي، تسقط فوق جدران المباني المغولية وتنفذ من بين ثقوب الأبواب الصغيرة المقوسة على الطراز الإسلامي. أحد الشباب وقف تحت القبة المغولية وراح يغني، الصوت جميل فيه عذوبة وقوة يتردد بين الجدران العالية والقبة المقوسة المرتفعة. لم أفهم كلمات الأغنية لكن الصوت ووجه الشاب جعلني أقف وأستمع، تجمع بعض الشباب والأطفال ورجل عجوز توقف عن السير وأخذ يستمع، عيون الأطفال تلمع كفصوص العقيق، النني الأسود بارز قوي لامع، لكن بياض العين تشوبه صفرة. معظم العيون في الهند تشوبها صفرة غريبة كعيون المرضى بالصفراء أو داء الكبد المزمن.
أحد السياح الأمريكيين توقف يسمع الغناء، تجمع حوله الأطفال، ملامحهم فيها نداء وأذرعهم ممدودة تنظر، وانكسارة الفقر والحرمان رغم تلك النظرة اللامعة الذكية المتحدية للجوع والقادرة على الانتصار حتى على الموت.
الشاب لا زال يغني تحت القبة المغولية السوداء، الصوت حزين قوي يصرخ بنداء مجهول للسماء، قرص الشمس اختفى تماما ولم يبق إلا اللون الأحمر فوق السحب وقمم الأشجار، نسمة باردة هبت وسقطت ظلال قائمة فوق البناء القديم ذي الرأس السوداء كرأس الغول، تخيلتها وأنا طفلة أسمع قصص الخرافات، وكلمة المغول تذكرني بحصة التاريخ في المدرسة وأنا في العاشرة من عمري، المغول أغاروا على الهند وحكموها ثلاثة قرون من القرن الرابع عشر حتى السابع عشر.
لم تكن مدرسة التاريخ تعرف كيف تثير خيالاتنا، كنا نحفظ عن ظهر قلب بعض الغزوات وبعض الأسماء والتواريخ بغير ترابط وبغير فهم، بقايا أبنية لا تزال هنا قائمة، مهجورة، قبابها السوداء توحي أن داخلها كان يقبع غزاة غلاظ القلوب.
Unknown page