Rihla Fi Zaman Nuba
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Genres
الشجر المستحب دائما لعمل الفحم هو أنواع السنط المختلفة التي تعطي أجود أنواع الفحم وأكثرها كمية. النخيل والدوم لا يستخدمان إطلاقا، وقد يضطر الأمر إلى استخدام أشجار الجميز والطرفا؛ لأن فحمهما قليل النار، وقد يلجأ الصانع إلى خلط بعض أخشابهما مع خشب السنط، يقطع الشجر بالبلطة والمنشار، ويراعي البائع والمشتري عدم قطع أشجار متجاورة؛ لكي تعطى الفرصة للأشجار المتبقية للنمو القوي بعد تقليمها وتنظيفها من النباتات الفطرية والنمو السرطاني للشجرة، وبهذا الحس التقليدي كان البائع والمشتري يطبقان نظام المحافظة على «الغابة»، التي تنادي به الهيئات العلمية الآن - ويضرب به أصحاب المصالح عرض الحائط.
يقطع الخشب بعد ذلك إلى قطع متساوية الطول، بين مترين ومترين ونصف المتر، وترص القطع من الجذوع إلى جانب بعضها، وتلك من الفروع إلى جانب آخر، ثم تحفر حفرة بطول أقصاه عشرة أمتار - والأغلب أنها أقل من ذلك بعض الشيء - وعمق حوالي متر، ويلاحظ أن أحد طرفي الحفرة يكون مدببا ضيقا، بينما الطرف الآخر فهو عريض بمقياس معين هو ثلث متر عرضا لكل متر طولي في الحفرة؛ أي إن الحفرة التي طولها ستة أمتار، يكون طرفها العريض أقل من مترين قليلا، ويراعى عند الحفر أن يكون الطرف المدبب في مواجهة الريح؛ لكي يساعد على انتشار النار تدريجيا في كل جسم الكتلة الخشبية المرصوصة، وترص الأخشاب في الحفرة بنظام معين: الخشب الصغير في الأسفل، ثم المتوسط فوقه، والكبير في الأعلى؛ بحيث يرتفع الكوم كله بمقدار متر ونصف فوق سطح الأرض، وبذلك يصبح سمك «الكابينة» 2,5 متر، يغطي الجزء فوق الأرض بقش من النباتات الصحراوية وأجولة قديمة وروث الماشية، وتترك فتحات صغيرة في أجزاء مختلفة لكي يخرج منها الدخان. يترك الخشب عند الطرف المدبب عاريا دون غطاء، ويشعل فيه النار، وحين تسري إلى الداخل يلقى فوق النار طبقة من القش كي تخمد النار وتترك الفرصة للجذوة أن تتقد وتسري في الخشب بهدوء وبطء، والجذوة البطيئة تساعد على تحول بطيء لكل العناصر التي تجعل نوع الفحم جيدا وثقيلا؛ بحيث يزن الجوال نحو 150كجم، أما إذا كانت الجذوة سريعة فجوال الفحم الناتج لا يزيد عن مائة كيلوجرام، وتستمر الجذوة في الكابينة الواحدة الكبيرة نحو شهرين. الصانع الذي يقوم بالعمل يتقاضى نصف الفحم المنتج، وكان سعر الكيلو نحو قرشين في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. (9) أنشطة أخرى
هناك مجموعة من الأنشطة والحرف اليدوية لكنها نادرة، والكثير منها صناعات منزلية؛ كالسلال وعمل الشعاليب، وطلاء البيوت ورسم الزينات بالألوان على حوائط المنازل والغرف، فضلا عن طحن الذرة بالمهراكة في أحيان، كذلك عمل اللبن الرايب والسمن وخياطة الملابس.
أعمال النجارة والحدادة وخياطة الملابس يقوم بها أشخاص قليلون موزعون في قرى متباعدة؛ بحيث يخدم الواحد من هؤلاء الحرفيين سكان مجموعة من العمديات، يأتون إليه كلما احتاجوا إلى إنتاجه، أو يأتي إليهم حسب الطلب.
التجارة المحلية محدودة في صورة دكان في النجع أو عدة دكاكين، حسب عدد السكان، بالإضافة إلى الجمعية التعاونية التي كانت تصرف للسكان السلع التي تدعمها الدولة في ظل النظام الناصري، وليس للدكاكين مواعيد عمل معينة، إنما هي تفتح حين يأتي شخص يريد سلعة ما. البيع بالآجل حتى تأتي التحويلات الشهرية، وبعض التجار ينقلون سلعهم في مركب ينتقل من قرية إلى أخرى، والغالب أنهم يحملون سلعا بعضها كبير الحجم كالدقيق وصفائح الكيروسين. (10) «البوستة» وسيلة الانتقال الأساسية
شريان الانتقال في النوبة هو النيل، وتسير فيه عدة خطوط ملاحية، المنتظم منها هو السفينة «الإكسبريس»، التي تسير مباشرة بين الشلال ووادي حلفا، وسفينة البوستة التي تخدم كل القرى النوبية مرة كل أسبوع، وهي ذاهبة من الشلال إلى الجنوب، ومرة أخرى في عودتها إلى الشلال، وهذه هي وسية الانتقال الأساسية في النوبة المصرية بالنسبة للأشخاص وكثير من السلع المجلات، والأهم البريد والتحويلات المالية؛ ومن ثم سميت البوستة نسبة إلى أكثر ما يهم السكان المقيمين في بلاد النوبة، وتتوقف البوستة نحو شهرين هما يونيو ويوليو؛ ربما لضحالة الماء في النهر وتيار الفيضان المحدود في هذين الشهرين، وحينما تتوقف البوستة تنقطع صلة النوبة المنتظمة بالخارج، ويسعى الناس إلى تدبير أمورهم العاجلة قبل توقف البوستة، لكن المضطر يركب أحد الصنادل التي تمخر عباب النيل باستمرار والتي تسمى «دلتا»، وإلى جانب السفن المنتظمة، وهي تابعة لسكك حديد السودان، هناك أنواع أخرى من السفن الخاصة، منها صنادل الدلتا التي تعمل أساسا في النقل التجاري بين مصر والسودان وقرى النوبة المصرية، وهناك سفن وزارة الصحة التي هي عبارة عن عيادات متنقلة ترسو في مواقع معينة لمدة معينة ؛ لتخدم سكان مجموعة من القرى، وهناك عائمات حكومية تجرها وابورات قوية تابعة للتعليم أو الآثار أو الإدارة، فضلا عن لنشات كثيرة مختلفة الأحجام والقوة.
لكن أقدم وسائل النقل النهري هي القوارب الشراعية بأنواعها وأحجامها المختلفة، وهذه موجودة بكثرة، ولا تنتقل بالضرورة مسافات طويلة إلا فيما ندر، وهناك قوارب شراعية متوسطة الأحجام، وقوارب تجديف، في معظم القرى والنجوع النوبية؛ نظرا لأن معظم القرى تقع على الضفتين؛ مثل أمبركاب أو سيالة أو توشكى شرق وغرب، ويحتاج الأمر إلى اتصال بين جناحي القرية من حين لآخر، وخاصة في المناسبات المهمة: الميلاد والختان والزواج والوفاة.
الفصل السادس
بعض أشكال الحياة الاجتماعية
بنية المجتمع
Unknown page