وأخذ ڤاجنر يطوي ألمانيا الكبرى داعيا إلى مشروعه الجديد، وأكرمت برلين وفادته في حفل حضره الإمبراطور وزوجته. وتقابل ڤاجنر وبسمارك؛ غير أن رجل الفن لم يتفاهم جيدا مع رجل السياسة والواقع، وظل بسمارك حذرا من ذلك الثائر الذي ظل يذكر جهوده عام 1848م. ولم يحاول ڤاجنر من جانبه أن يطلب من بسمارك شيئا تساهم به حكومة بروسيا في مشروعه، بل كان يعلم أن جمعيات عديدة قامت في كبريات المدن الألمانية باسم جمعيات «أصدقاء ڤاجنر»، وأخذت تجمع التبرعات حتى تكمل مليونا من الفرنكات، وهو المبلغ الذي قدرت به نفقات المشروع. وكانت سرعة التبرع مثار دهشة ڤاجنر وإعجابه، ومما شجعه أن بلدية بايرويت تبرعت له بأرض المسرح بلا مقابل. وفي الوقت الذي كان فيه ڤاجنر يتم الأجزاء الأخيرة من الدراما الرباعية الكبرى، جاءته نسخة من كتاب «ميلاد التراجيدي» يهديها إليه نيتشه بقوله: «سترى أنني قد حاولت في كل صفحة أن أعبر لك عن شكري على ما أفدتني إياه. وإني لأشعر والفخر يملؤني بأن لي شأنا، وبأن اسمي سيقرن دائما باسمك.»
وفي أبريل سنة 1872م ودع ڤاجنر تريشن لينتقل إلى حيث آثر أن يقضي بقية أيام حياته. وكان استقبال بايرويت له رائعا. أما أول حفلة فكر ڤاجنر في إقامتها هناك؛ فقد عزف فيها السيمفونية التاسعة لبيتهوفن؛ وفاء منه واعترافا بجميل أستاذه العظيم، وإشارة إلى أنه منها قد بدأ.
وفي اليوم التالي لذلك الحفل، أمسك ڤاجنر بالحجر الأساس وثبته في التراب، وفي تلك اللحظة أتته برقية من الملك لودفيج الثاني يقول فيها: «أعبر لك من أعماق قلبي عن أخلص وأحر أمنيات السعادة في هذا اليوم المشهود من تاريخ ألمانيا. فليبارك الله مهمتك الكبرى في العام القادم. وإني اليوم - أكثر مني في أي وقت مضى - لأشاركك شعورك بكل روحي.»
وكان شحوب ڤاجنر مخيفا وهو يستقل عربته عائدا مع زوجته ونيتشه بعد ذلك اليوم الحافل. وقد وصفه نيتشه فيما بعد فقال: «كان ڤاجنر صامتا، يلقي من وقت لآخر نظرة طويلة إلى داخل ذاته؛ نظرة لا تعبر عنها أية كلمة ... كان قد بدأ في ذلك اليوم عامه الستين، ولم تكن كل حياته الماضية إلا إعدادا لتلك اللحظة ذاتها.»
وبعد عامين، أحس ڤاجنر بأنه قد أتم رسالته أو كاد؛ إذ اكتمل بناء مسرحه الجديد، وبني معه بيته الذي ضم قبره وقبر كوزيما فيما بعد، وهو «فانفريت
Wahnfried »، وأتم آخر صفحات «أفول الآلهة» وهي آخر حلقة في الدراما الرباعية، فكتب ڤاجنر على الصفحة الأخيرة: «تمت في فانفريت، ولن أضيف أي تعليق.» وما كان في وسع أي تعليق أن يعبر عن ذلك العمل الذي بدأ يطوف بمخيلته منذ ربع قرن من الزمان، والذي تخللته واعترضته أحداث هائلة تغلب عليها آخر الأمر بعزيمته وإصراره.
وقضى ڤاجنر عام 1875م بأكمله يعمل في مسرحه الجديد على إعداد الدراما الرباعية الكبرى، «خاتم النيبلونجن». وكان المسرح محققا لكل أغراضه؛ إذ كانت الفرقة الموسيقية تشغل مكانا لا يشاهده النظارة؛ وبذلك كانت الموسيقى تنساب حرة في خيالهم، دون أن يعوق تأثيرها مشاهدة حركات العازفين، ودون أن ينشغل العازفون أنفسهم بمشاهدة النظارة. وكانت قاعة المسرح واسعة متدرجة، ليست بها طوابق عليا ولا مقصورات؛ ففي ذلك المسرح ما يذكرنا بالمسارح القديمة إلى حد كبير، مع فارق هام هو أن المقاعد الحجرية عند الرومان قد استبدلت بها مقاعد أخرى خشبية لا يستند ذراعا الجالس عليها على شيء. وكانت القاعة تتسع لألف وخمسمائة متفرج، وعلى جانبيها رسوم تنتمي إلى أسلوب عصر النهضة. ولأول مرة ابتدع ڤاجنر طريقة فتح الستار أفقيا من اليمين واليسار، بعد أن كان يرتفع دائما إلى أعلى. وقد اقتبست كل مسارح العالم تلك الطريقة عنه.
وكان أغسطس من عام 1876م هو شهر الافتتاح، وتوالت الوفود على بايرويت من جميع أنحاء ألمانيا وخارجها، فكان خليطا عجيبا جمع بين أفراده إعجابهم وتقديرهم للفن الجديد. ووصل الملك لودفيج الثاني، ولكن غيبة ثمانية أعوام عن صديقه كانت كفيلة بأن تجعله صامتا فاترا لا يدري ماذا يقول.
وفي الليلة الأخيرة لذلك العرض الأول الذي استغرق أياما أربعة، وقف ڤاجنر يخاطب مستمعيه الذين شهدوا الدراما الرباعية للمرة الأولى قائلا: «لقد شاهدتم ما يمكننا أن نفعله بوصفنا ألمانا. ولو شئتم فسيكون لنا فن مستقل.» ثم عاد يقول: «لا أستطيع أن أقول إننا لم نجعل لأنفسنا فنا مستقلا قبل الآن، ولكن الألمان كانوا يفتقرون دائما إلى فن قومي، كذلك الذي نلمسه لدى الإيطاليين والفرنسيين، رغم الفارق بين فننا وفنهم.» وهكذا كان ڤاجنر يذكر وطنه وقومه على الدوام في لحظات انتصاره.
لم يكن الهدوء والاستقرار كافيين ليتفرغ ڤاجنر لعمله الجديد، بل كان في حاجة إلى شيء آخر؛ إلى حب جديد. حقا إن كوزيما كانت معه، ولكن كوزيما زوجته، وهو وإن كان حقا يحبها، فإنه لم يزل بحاجة إلى اقتناص حب آخر فيه مقامرة وتهيب وإلهام. وقد عاوده هذا الشعور بعنف أمام جوديت جوتييه
Unknown page