Richard Feynmann
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
قالت الكاتبة لويز بوجان ذات مرة: «اللغز الأولي الذي يصاحب أي رحلة هو: كيف وصل المسافر إلى نقطة البداية في المقام الأول؟» وفي حالة رحلة فاينمان، كالعديد من الرحلات الملحمية، كانت البداية بسيطة. لقد أكمل هو وويلر عملهما الذي يوضح أن الكهرومغناطيسية الكلاسيكية يمكن عرضها في شكل لا يتضمن إلا التفاعلات المباشرة فحسب بين الجسيمات المشحونة المختلفة، وإن كانت تحدث مع اتجاه الزمن وفي عكس اتجاه الزمن. وبهذا يمكن للمرء أن يتجنب مشكلة الطاقة الذاتية اللانهائية لأي جسيم فردي مشحون. وكان التحدي التالي هو معرفة هل هذه النظرية يمكن أن تنسجم مع ميكانيكا الكم أم لا، وهل يمكن أن تحل المشكلات الرياضية الشائكة التي أدت إلى نظرية كمية للكهرومغناطيسية.
كانت المشكلة الوحيدة هي أن نظريتهما شديدة الغرابة، التي كانت مكتظة بالتفاعلات التي تحدث في أزمنة وأماكن مختلفة لكي تكون مكافئة في تنبؤاتها لنتائج الكهرومغناطيسية الكلاسيكية، ذات المجالات الكهربائية والمغناطيسية التي تنقل تلك التفاعلات، كانت تتطلب شكلا رياضيا لم تكن ميكانيكا الكم تستطيع التعامل معه في ذلك الوقت. نشأت المشكلة بسبب التفاعلات بين الجسيمات في أزمنة مختلفة، أو كما عبر فاينمان فيما بعد عن الأمر فإن: «مسار جسيم معين في زمن معين يتأثر بمسار جسيم آخر في زمن مختلف. لذا إذا حاولت أن تصف الأمور ... وتعبر عن كنه الأوضاع الحالية للجسيمات، وكيف ستؤثر تلك الأوضاع على المستقبل، فستجد أنه من المستحيل أن تتمكن من هذا بواسطة الجسيمات وحدها؛ لأن شيئا فعلته الجسيمات في الماضي سوف يؤثر على المستقبل.» حتى هذه النقطة، كانت ميكانيكا الكم معتمدة على مبدأ بسيط. فلو أننا عرفنا بطريقة ما الحالة الكمية لمنظومة ما في وقت معين، فإن معادلات ميكانيكا الكم تسمح لنا بأن نحدد بالضبط التطور الديناميكي التالي للمنظومة. وبطبيعة الحال فإن معرفة التطور الديناميكي للمنظومة بالضبط لا يعني التنبؤ بدقة بما سنقيسه لاحقا. إن التطور الديناميكي لمنظومة كمية لا يتضمن تحديد الحالة النهائية للمنظومة بالضبط، بل تحديد مجموعة من الاحتمالات التي تخبرنا بالحالة التي من المحتمل أن تكون عليها المنظومة المقاسة في وقت لاحق.
المشكلة هي أن الديناميكا الكهربائية وفقا لصياغة فاينمان وويلر كانت تتطلب معرفة مواضع وحركات العديد من الجسيمات الأخرى في أوقات عديدة مختلفة من أجل تحديد حالة أي جسيم معين في أي وقت معين. وفي هذه الحالة، فإن الطرق الكمية القياسية لتحديد التطور الديناميكي التالي لهذا الجسيم تكون قد فشلت.
كان فاينمان قد نجح خلال خريف وشتاء عام 1941-1942، كعادته دوما، في صياغة نظريتهما بمجموعة من الطرق المختلفة، وإن كانت متساوية من الناحية الرياضية. وفي هذه الأثناء، اكتشف فاينمان أنه يستطيع إعادة كتابتها بالكامل من منظور المبدأ ذاته الذي أنكره بشدة عندما كان طالبا بالجامعة.
لعلك تذكر أن فاينمان عرف في المدرسة الثانوية أن هناك صيغة لقوانين الحركة لم تكن معتمدة على ما يحدث في وقت واحد معين، وإنما على ما حدث في جميع الأوقات: إنها صيغة لاجرانج، ومبدأ الفعل الأقل الذي وضعه.
ولعلك تذكر أيضا أن مبدأ الفعل الأقل يخبرنا أنه لكي نحدد المسار الكلاسيكي الفعلي لجسيم ما، يمكننا دراسة جميع المسارات المحتملة للجسيم بين نقطتي البداية والنهاية ثم نحدد المسار الذي له أقل قيمة متوسطة للحركة (التي تتحدد باعتبارها الفارق بين نوعين مختلفين من الطاقة الكلية للجسيم - وهما اللذان يسميان بطاقة الحركة وطاقة الوضع - مجموعة على النحو الملائم لكل مسار). كان هذا هو المبدأ الذي بدا لفاينمان أكثر أناقة وإحكاما مما ينبغي، بحيث فضل أن يحسب المسارات عن طريق دراسة القوى المؤثرة عند كل نقطة ويستخدم قوانين نيوتن. لقد بدت فكرة أنه ينبغي عليه أن يهتم بالمسار الكامل للجسيم لكي يستطيع حساب سلوكه عند أي نقطة فكرة غير فيزيائية في ذلك الوقت.
غير أن فاينمان طالب الدراسات العليا اكتشف أن نظريته هو وويلر يمكن إعادة صياغتها بالكامل في ضوء أحد مبادئ الحركة، الذي تصفه بالكامل مسارات الجسيمات المشحونة مع مرور الزمن، دون حاجة لوضع المجالات الكهربائية والمغناطيسية في الاعتبار. وبتأمل الماضي، يبدو واضحا لماذا كانت هذه الصيغة - التي ركزت على مسارات الجسيمات - ملائمة لوصف نظرية فاينمان-ويلر. فعلى أي حال فإن هذه المسارات هي التي حددت شكل نظريتهما في الأساس، وهي النظرية التي تعتمد كليا على التفاعلات بين الجسيمات التي تتحرك بطول مسارات مختلفة في الزمن. لذا، قرر فاينمان أنه لصياغة نظرية كم فإنه سيحتاج إلى معرفة كيفية استخدام ميكانيكا الكم مع منظومة كتلك التي كان هو وويلر يدرسانها، والتي يمكن تحديد الديناميكا الكلاسيكية لها بواسطة مبدأ فعل كهذا، ولكن ليس بطرق تقليدية.
أدت الفيزياء - أو على الأقل الفيزياء التي كان يتخيلها هو وويلر - بفاينمان إلى موقف ما كان يتوقع قط أن يكون فيه قبل ذلك بنحو خمس أو ست سنوات! وكان التحول في طريقة تفكيره في أعقاب جهوده المكثفة لاستكشاف نظريتهما الجديدة تحولا جذريا. لقد صار مقتنعا في تلك اللحظة أن التركيز على أحداث تقع في وقت محدد ليس هو طريقة التفكير المناسبة، وأن مبدأ الفعل - المعتمد على استكشاف مسارات كاملة عبر المكان والزمان - هو الطريقة المناسبة للتفكير. وقد كتب لاحقا يقول: «لدينا [في مبدأ الفعل] شيء يصف طابع المسار عبر المكان والزمان. إن سلوك الطبيعة يتحدد عن طريق القول إن مسار المكان والزمان الكامل الخاص بها له طابع معين.» ولكن كيف يمكن ترجمة هذا المبدأ إلى ميكانيكا الكم، التي كانت حتى ذلك الوقت تعتمد اعتمادا حاسما على تعريف المنظومة في وقت معين بهدف حساب ما سوف يحدث في أوقات لاحقة؟ وجد فاينمان مفتاح الحل خلال حفل غير متوقع لتناول الجعة في برينستون، ولكن لكي نستطيع تقدير هذا المفتاح حق قدره، علينا أولا أن نأخذ منعطفا قصيرا لنراجع الصورة التي رسمناها لعالم الكم الغامض الذي كان فاينمان على وشك تغييره.
الفصل الرابع
أليس في بلاد الكم
Unknown page