============================================================
وكان الامام المحاسبي هامة شماء في هذا المضمار.
لفظ الدنيا ... وازدرى هوى النفس.. ولم يستجب ها إلا في ميدان الحلال الخالص ... مات أبوه الثري الواسع الثراء، وأباحت الشريعة ميراثه منه حتى ولو جعه من غير وجوه الحل . ولكنه رفض أن يأخذ من ميراث أبيه شيئا وهو جائع كثير الضر محتاج إلى دانق كما يقول عنه تلميذه الحجنيد البغدادي آنذاك .
لماذا لأن أباه كان قدري المذهب. أو كان واقفيا من الخوارج. و إذا كانت الشريعة قد ترددت في الحكم بكفر القدرية أو الواقفية . فقد أصر من جانب الورع على رفض الميراث قائلا : "لا توارث بين أهل ملتين" .
وهو يؤكد رأيه في كفر القدرية أو الواقفية حينما تعلق بأبيه عند "باب الطاق" في بغداد ، وقد تجمع الناس حوله، وهو يقول له : طلق آمي ، فإنك على دين وهي على دين آخر" . كما يروي عنه تلميذه اسماعيل السراج.
ولو لم يكن ورعا يدع ما فيه شبهة، ولا يكتفي بأن يدع الحرام وحده، لتشبث خلاف علماء الشريعة في كفر القدرية أو الواقفية، واحتوى ميراثه من آبيه وهو في أمس الحاجة إليه . ولكنه الورع المثالي الذي يندر أن يوجد في غير الإمام المحاسبي إلا على فترات متطاولة من الزمان.
وهو نفسه في كتابه "المكاسب" لا يجرم ميراثا من هذا النوع، ولكنه يضيف إلى دلائل صدقه مع ربه فيما اختاره لنفسه من سبيل إليه حينما رآه تلميذه الحجنيد متهالكا على نفسه من الجوع، فدعاه إلى بيت عمه، وجهز له طعاما فاخرا، ولكنه تناول لقمة، وأخذ يلوكها ولا يسيغها، ثم قام مسرعا وخرج.
فلما قابله في اليوم التالي وسأله قال : " يا بني، أما الحاجة فكانت شديدة، ولكن بيني وبين الله علامة إذا لم يكن الطعام مرضيا عنده ارتفعت إلى أنفي منه زمنة ، أو ضرب عرق في آصبعي، فقد رميت بتلك اللقمة في دهليزكم وخرجت" .
Page 8