Rhetoric 2 - Meanings - Madinah University
البلاغة ٢ - المعاني - جامعة المدينة
Publisher
جامعة المدينة العالمية
Genres
-[البلاغة ٢ - المعاني]-
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Unknown page
الدرس: ١ فوائد علم البلاغة، ووجه الحاجة إلى دراستها
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراسته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهذا العلم الجديد القدر، العظيم الشأن، الذي هو بالنظر إلى سائر العلوم العربية من الأهمية بمكان، وقد زاد من أهميته أن عليه المعوّل الأكبر في تدبر معاني ومعالم ما جاء به الوحي المبين، وأن عليه المعول الأكبر أيضًا في تذوق وفهم ما خلفه أجدادنا من كنوز التراث.
ومن المهم أن تكون بداية لقائي بكم عن معرفة فوائد علم البلاغة، وبيان وجه الحاجة إلى دراستها، ثم التثنية بعد بما اعتاده علماء البلاغة قبل الخوض في دراسة مباحث علم المعاني، من حديث عن الفصاحة، وعلاقتها بالبلاغة.
إن علم البلاغة معدود من جملة العلوم الإسلامية كما أنه معدود في جميع علوم الأدب وتحتل البلاغة بين هذه العلوم مكانة سامية ومنزلة رفيعة، وموضع علم البلاغة من العلوم العربية موضع الرأس من الإنسان أو اليتيمة من قلائد العقيان، فهي مستودع سرها، ومظهر جلالها، فلا فضيلة لكلام على كلام إلا بما يحويه من لطائفها، ويودع فيه من مزاياها وخصائصها، ولا تبريز لمتكلم على آخر إلا بما يحوقه من وشيها، ويلفظه من درها، وينفثه من سحرها، ويجنيه من يانع ثمرها.
1 / 9
دراسة علوم البلاغة وقواعدها تمكن الدارس من تحقيق الأهداف والفوائد التي توخاها المؤلفون في هذا العلم، ويمكن تلخيص هذه الفوائد فيما يلي:
١ - أنها وسيلة إلى معرفة إعجاز القرآن الكريم، فإذا أغفل الإنسان علم البلاغة وأخل بمعرفة قواعدها لم يستطع أن يدرك إعجاز النظم الكريم، ولم يعرف من أي جهة أعجز الله العرب عن أن يأتوا بسورة من مثله، وكان الرأي البعيد عن الصواب رأي إبراهيم النظام صاحب مذهب الصرفة إذ قال: "إن القرآن ليس معجزًا بفصاحته وبلاغته وأن العرب كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك تصديقًا لنبيه وتأييدًا لرسوله ﷺ حتى يؤدي رسالة ربه". وقد انبرى للرد على النظام جم غفير من العلماء، منهم الجاحظ والباقلاني والفخر الرازي، وناضلوا نضالهم المحمود، الذي خلد لهم في بطون الكتب، فكتبوا الفصول الممتعة مبينين فساد رأي النظام مقررين أن إعجاز القرآن إنما كان بما حوى من وجوه بلاغية، فاق فيها كلام العرب شعرهم ونثرهم، وارتقى بذلك عن مستوى كلام البشر. وإنما كان ردهم لقوله بالصرفة من وجوه:
أولها: أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن، وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين. ثانيها: أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب، فلو كان الإعجاز بالصرفة، لكانت على خلاف المعتاد؛ أعني لكانت الصرفة إلى كل واحد ضرورة بالنسبة إليه فحسب، فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادًا له، وليس للقرآن كذلك.
1 / 10
ثالثها: وقد استدل به بعضهم على فساد القول بها، وهو قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: ٨٨) ومن المعلوم أن القرآن تحدى العرب غير ما مرة، ولو بمثل أقصر سورة منه، ثم سجل العجز عليه وقال بلغة واثقة: أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا، ولو ظاهرهم الإنس والجن، فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا، ولو كانوا أجبن خلق الله؟.
رابعها: أن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب، ويبلغ فيه الغاية القصوى، ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله، والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها، وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديًا بمعارضتها، فلو أتى الرسول بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق وكثرة دواعي التحدي؛ علم أن ذلك من عند الله بلا ريب. خامسها: أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم، كما كانت صناعتهم البيان، وديدنهم التنافس في ميادين الكلام، فكيف لا يحركهم هذا التحدي والاستفزاز؟ وكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة؟.
سادسها: أن القرآن فضلًا عما ذكر أثار حفائظهم، وسفه عقولهم وعقول آبائهم، ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك، بل وأقام حربًا شعواء على أعز ما لديهم من عقائد وعوائد، فكيف يسكتون بعد كل هذا التقريع والتشنيع ما دامت هذه المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو كان ذلك باستطاعتهم؟.
1 / 11
سابع هذه الوجوه في رد القائلين بالصرفة: أن العرب قد تفننوا واستفرغوا وسعهم في إيذاء النبي ﷺ حتى تآمروا على قتله، وأرسلوا إليه الأذى في مهاجره، فشبت الحرب بينهم وبينه في خمس وسبعين موقعة، منها سبع وعشرون غزوة، وثمان وأربعون سرية، فهل يقول عاقل: إنهم كانوا في تشاغل عما كان يتحداهم به، غير معنيين، ولا آبهين له، أو يقول: إنهم -أو واحد منهم- حال المعارضة بمقتضى دافع الصرفة؟ ثم ألم يكف القائلين بالصرفة -قديمًا وحديثًا أعني بهم السابقين وأذنابهم من المعاصرين- شهادة أعداء القرآن أنفسهم في أوقات تخليهم عن عنادهم، فتلك الشهادة التي خرجت من فم الوليد، والفضل ما شهدت به الأعداء.
ونخلص من كل هذا إلى أنه، وبدراسة الأسباب التي تكون الجملة بها بليغة، وبدراسة أنواع الأساليب الموجز منها والمطنب، وبدراسة أبواب التشبيه والاستعارة والكناية، وأبواب البديع وغير ذلك من الوجوه والألوان؛ نعرف كيف ارتفع الأسلوب القرآني إلى مستوى الإعجاز، وليس بعجيب أن يكون الهدف الأول والأسمى من دراسة علوم البلاغة الوصول إلى معرفة إعجاز القرآن، فإن علوم العربية نشأت أصلًا لتخدم هذا الكتاب المبين، وتحفظه من التحريف، وتظهر فضله على جميع الكلام الآخر. فالبلاغة من هذه الجهة لها غاية دينية تتصل بالدين والعقيدة، وهذه الغاية هي التي رأيناها عند أوائل الكاتبين في هذا العلم، بل إن كلامهم في إعجاز القرآن كان هو الدعامة التي قام عليها هذا العلم.
ثاني فوائد تعلم البلاغة وقواعدها: هو استجلاء ما في القرآن الكريم من معان وأحكام وأخبار وقضايا، فلا بد للناظر في القرآن من الإلمام بقواعد هذا العلم لمعرفة ما يدل عليه التكرار، وما ينطوي عليه الحذف، وما يفيده هذا التأويل، وغير ذلك مما يتصل
1 / 12
بقواعد هذا العلم. فالمفسر الذي يتعرض لتفسير آية من آيات الذكر الحكيم لا بد له من الإلمام بقواعد البلاغة، والفقيه المستنبط للأحكام لا بد له من معرفة قواعد البلاغة، والمتعرض لقصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم وما يتعرض لأخبار الأمم وسيرهم، لا بد لكل هؤلاء من معرفة قواعد البلاغة وأصولها.
الفائدة الثالثة: التدرب على التكلم بالبليغ من القول، فإذا أراد صاحب اللسان العربي أن ينشئ أدبًا، شعرًا كان أو نثرًا، لا يتسنى له ذلك إلا إذا ألمّ بقواعد هذا العلم، وجعله مصباحًا يهدي خطاه ويسدد قلمه بما يعرفه من تركيب الأساليب الرفيعة، وأسباب رفعتها وجمالها، أما إذا فاته هذا العلم المفرق بين كلام جيد وآخر قبيح، وبين شعر بارد وآخر رصين كان ذلك سببًا لأن يمزج الصفو بالكدر من الأساليب، ويخلط بين الرفيع والوضيع، وقد قالوا: شعر الرجل قطعة في عقله. الفائدة الرابعة: أن علوم البلاغة تعد من أمضى أسلحة الناقد الأدبي، فهي بلا شك تصقل الذوق، وتنمي في صاحبها القدرة على التفرقة بين الكلام الجيد والكلام الرديء، فهي تساعد على إدراك الجمال وتذوق الحسن في ألوان الكلام، فالناقد الأدبي وهو يتعرض لنتاج أدبي لا يستطيع الحكم على هذا النتاج إلا بمعرفة قواعد علم البلاغة، حتى يمكن إبراز ما تضمنه هذا العمل الأدبي من أسباب الجودة أو الرداءة.
أما الفائدة الخامسة لتعلم البلاغة: فهي القدرة على حسن الاختيار، فإذا أراد مؤلف أن يضع كتابًا، فإن معرفته بقواعد البلاغة تعينه على أن يختار فيه من جيد المنظوم والمنثور ما يثري به مادته العلمية، ويجعله شاهدًا على ما يسوقه من معان وأفكار.
1 / 13
الفائدة السادسة: وضع قواعد البلاغة ومعرفتها يحول دون الفوضى في الحكم والتخليط فيه، فإذا اختلف اثنان في الحكم على عمل أدبي ما احتكما إلى علم البلاغة، وكان في احتكامهما ما يرد المخطئ عن خطئه. ثم إن البيان في حد ذاته -وتلك هي الفائدة السابعة- فضيلة تسمو على كثير من الفضائل؛ ولذا يفتخر به النبي ﷺ فيقول: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» ويقول أحد الشعراء:
كفى بالمرء عيبًا أن تراه ... له وجه وليس له لسان
أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها
هذا، ومن أشهر رجال البلاغة الذين ألفوا فيها: أبو الهلال حسن بن عبد الله بن سهل العسكري، ولد في مدينة عسكر مدينة من كور الأهواز بخوزستان بين البصرة وفارس، ونشأ بها طوال حياته، ولم يبرحها إلا نادرًا. عاش حياته فقيرًا مغمورًا خامل الذهن، فلم يحظ بما هو خليق به من المجد ونباهة الشأن، كما حظي غيره من العلماء والأدباء في العصر الذي عاش فيه، وإن كان حظي بعد موته بالتقدير والاحترام بما ألف وكتب. وقد تتلمذ على طائفة من العلماء الفضلاء من أشهرهم: أبوه أبو الحسن عبد الله العسكري اللغوي، وأبو سعيد الحسن بن سعيد، وتوفي أبو هلال العسكري سنة
1 / 14
٣٩٥ عن خمسة وثمانين عامًا. ومن أشهر مصنفاته كتاب (جمهرة الأمثال) كتاب (الفرق بين المعاني) كتاب (شرح الحماسة) كتاب (الصناعتين) وهو الكتاب الذي اشتهر به واقترن به اسمه.
وكذا عبد الله بن عبد الرحمن أبو بكر الجرجاني، شيخ البلاغة، النحوي المشهور، المتكلم على مذهب الأشعري، الفقيه على مذهب الشافعي. أخذ النحو بجرجان عن أبي الحسين محمد الفارسي ابن أخت الشيخ أبي علي الفارسي، كان من كبار أئمة العربية والبيان مع الدين المتين والورع والسكون، وتوفي سنة ٤٧١ هجرية. ومن أشهر مصنفاته: (المغني في شرح الإيضاح) في نحو ثلاثين مجلدًا، و(الجمل) و(دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة). ومن أشهر المؤلفين في البلاغة: سراج الدين يوسف بن أبي بكر محمد بن علي أبو يعقوب السكاكي الخوارزمي، ولد في قرية خوارزم في عهد السلطان الرابع للدولة الخوارزمية "إيل إرسلان بن إكز". كان في أول أمره حدادًا، وبقي كذلك حتى جاوز الثلاثين، ثم انصرف إلى العلم انصرافًا كليًّا، قد تتلمذ على طائفة من العلماء الفضلاء من أشهرهم: سديد الدين بن محمد الخياطي، ومحمود بن صاعد بن محمود الحارثي، وبرهان الأئمة محمد بن عبد الكريم التركستاني، وكان يجيد اللغتين: التركية والفارسية إلى جانب معرفته التامة باللغة العربية.
وقد عكف السكاكي على تحصيل العلم والمعرفة فصار عالمًا محققًا في علوم شتى: كالبلاغة، وعلم الكلام، والفقه، والكيمياء، وعلم خواص الأرض، وأجرام
1 / 15
السماء، ولقد طبقت شهرته الآفاق حتى صار الإمام المشهور المقصود من جميع الجهات، وتوفي سنة ٦٢٦ من الهجرة. ومن أهم مصنفاته (مفتاح العلوم) (شرح الجمل) وهو شرح لكتاب (الجمل) للإمام عبد القاهر الجرجاني. من أشهر الذين كتبوا في البلاغة: جلال الدين قاضي القضاة محمد بن القاضي سعد الدين عبد الرحمن القزويني الشافعي، ونسبته إلى قزوين ترجع إلى أن بعض أجداده سكنها، وهو عربي أصيل؛ إذ تعود نسبته إلى أبي دلف العجلي قائد المأمون. ولما شب تفقه على أبيه، وعلى علماء وطنه، وقد نزل مع أبيه وأخيه بلاد الروم، وتولى القضاء في بعض أعمالها، ثم قدم دمشق مع أخيه إمام الدين، الذي تقلد وظيفة قاضي القضاة ببلاد الشام، وكان ينوب عنه.
وفي أثناء ذلك عكف على حلقات العلماء حتى أتقن علم اللغة، وأصول الفقه وعلوم البلاغة، وولي خطابة دمشق في جامعها الأموي الكبير، فلمع اسمه، وطلبه السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى القاهرة، فقدم عليه سنة ٧٢٤ وخطب بجامع القلعة بين يديه، فأعجب به وولاه قضاء دمشق وخطابتها جميعًا، ولم يلبث أن استخدمه وولاه قضاء الديار المصرية، فنبه ذكره، وطار صيته، ثم وافته المنية، فتوفي سنة ٧٣٩. ومن أشهر مصنفاته كتاب (تلخيص المفتاح) وهو تلخيص لكتاب (مفتاح العلوم) للسكاكي وكتاب (الإيضاح بتلخيص المفتاح) وهو شرح مطول لما أجمله في كتاب (تلخيص المفتاح). لكن ثمة فروقًا تميز أسلوب كلّ من عبد القاهر والسكاكي والخطيب، فلقد كان أسلوب عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) أسلوبًا بليغًا ممتازًا، يساعد على تربية ملكة البلاغة، ولا يفسدها، ولا عيب فيه إلا أنه
1 / 16
يسرف في العبارات المترادفة، حتى تطغى على تقرير القواعد، وعلى ما عني به من استخلاص أسرارها من الشواهد النثرية والشعرية. وهو فيما عني به من الأمرين الناقد الأديب والبليغ الحاذق، وقد طفر بهذا في علم البلاغة طفرة لم يسبق إليها، ولم يأت بعده من سار على هديها.
ثم جاء أبو يعقوب السكاكي بعد عبد القاهر فلمح ما أشار إليه فيما سبق، من الفروق الثلاثة بين مباحث علم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، فميز بعضها عن بعض تمييزًا تامًّا، وجعل لكل مبحث منها علمًا خاصًّا، فكان من هذه علوم البلاغة الثلاثة السابقة، ثم جاراه في تقرير قواعدها، وزاد عليه زيادات كثيرة في تقريرها، وهذا في قسم البيان من كتابه (مفتاح العلوم) وقد جرى على ترتيبه لهذه المباحث من أتى بعده من المتأخرين، فكان السكاكي عمدتهم في هذا الترتيب. ولا شك أن السكاكي بهذا يعد إلى حد ما من تلاميذ مدرسة عبد القاهر، ولكنه كان ناقدًا، ولم يكن أديبًا؛ لأن أسلوبه في كتابه لم يكن أسلوب البليغ الرصين مثل عبد القاهر؛ لأن العجمة كانت غالبة على أسلوبه، وكان الأسلوب التقريري الذي لا يعنى إلا بتقرير القواعد غالبًا عليه، فكان في أسلوبه كثير من الغموض والتعقيد، وضعف التأليف، ومثل هذا قد يفيد الناظر فيه علمًا، ولا يفيده أسلوبًا بليغًا، بل يفسد فيه ملكة البلاغة، وبهذا يكون ضرره أكبر من نفعه.
وقد جاء بعد السكاكي عالمان كبيران أرادا أن يحذوا في علم البلاغة حذوه، أولهما ابن مالك النحوي المشهور في كتابه (المصباح لتلخيص المفتاح) وثانيهما الخطيب القزويني في كتابيه (تلخيص المفتاح) و(الإيضاح لتلخيص المفتاح) وثانيهما كان كالشرح للأول. فأما مصباح ابن مالك فإنه لم يهذب كثيرًا من
1 / 17
مفتاح السكاكي في علم البلاغة؛ لأن ملكة النحو كانت غالبة عليه، وكان هذا سببًا في إعراض المتأخرين عن كتابه، وأما تلخيص الخطيب القزويني فإنه هذب كثيرًا في مفتاح السكاكي، فقدم في مباحثه وأخر، وزاد عليه ما تجب زيادته من كتب البلاغة.
وكان أسلوبه فيه أوضح من أسلوب السكاكي، ولكنه جعله أسلوبًا تقريريًّا لا يعنى إلا بجمع القواعد في أوجز لفظ حتى أسرف في الإيجاز إسراف عبد القاهر في الإطناب، وجعل من تلخيصه متنًا يحتاج إلى شروح وحواشٍ وتقارير، ولكن عيبه هذا كان موضع تقدير المتأخرين وإعجابهم، فلما فرغ من تلخيصه شعر هو أيضًا بحاجته إلى شرح، فوضع كتابه (الإيضاح) كشرح له، يجري على ترتيبه في إطناب يختصره أحيانًا من كتابي عبد القاهر، وأحيانًا من كتاب السكاكي مع شيء من التهذيب فيه، ومع كثير من النقد الذي يفصله أحيانًا، ويرمز إليه أحيانًا بقوله: "وفيه نظر" وبهذا جاء (الإيضاح) وسطًا بين إيجاز (التلخيص) وإسهاب عبد القاهر. وكان بهذا هو الكتاب المميز عن غيره من كتب البلاغة القديمة، ولا يزال حتى يومنا هذا.
ولكنه على هذا لم يرزق من الحظوة عند المتأخرين ما رزق التلخيص؛ لأنهم شغفوا بالمتون حفظًا وشرحًا، وقد نظروا إلى التلخيص على أنه متن من المتون، فشغفوا بحفظه وشرحه، وكان من السابقين إلى شرحه سعد الدين التفتازاني، فوضع له شرحًا مطولًا سماه (المطول)، وشرحًا مختصرًا سماه (المختصر)، وكان سعد الدين من علماء العجم الذين تأثروا بالسكاكي في طريقته التقريرية، وفي ضعف أسلوبه لضعف سليقته العربية، بل كان هو وأمثاله ممن أتى بعد السكاكي من علماء العجم أضعف من السكاكي ذوقًا وسليقة، فمضوا في الطريقة
1 / 18
التقريرية إلى أن وصلوا إلى نهايتها في البعد عن الذوق الأدبي، ثم أخذوا ينشرونها هنا وهناك إلى أن غزت علماء العرب وغزت جميع العلوم من عربية إلى دينية إلى غيرها من العلوم، وصارت عنايتها بتقرير عبارات المتون أكثر من عنايتها بتقرير مسائل العلوم.
ثم تهافت المتأخرون من علماء البلاغة على شرحي سعد الدين على (التلخيص) يضعون عليها الحاشية بعد الحاشية، ويضعون على الحاشية التقرير بعد التقرير، وشغف المدرسون بتلك الكتب في الجامع الأزهر وغيره من الجامعات الإسلامية في الأقطار المختلفة، يتعمقون في درسها إلى أقصى حدود التعمق، وينتقلون في درسها من المتن إلى الحاشية إلى التقرير في استقصاء غريب، وتفنن في الفهم والبحث، ولو كان هذا في صميم مسائل البلاغة لهان الخطب، ولكن أكثره في بحوث خارجة عن هذه المسائل، وفي أسلوب ركيك يفسد ملكة البلاغة، فإذا كانت فيه فائدة قليلة فإنها تضيع في هذا الخضم الذي لا فائدة فيه. وقد تأبى كتاب (الإيضاح) وطريقته السابقة على المتأخرين من علماء البلاغة، فلم يضعوا عليه من الشروح والحواشي والتقارير مثلما وضعوا على كتاب (التلخيص) اللهم إلا شرحًا ضعيفًا للإقصاء، ولما كان كتاب (التلخيص) كالأصل لكتاب (الإيضاح) كان هذا مما يدعو قارئه إلى أن يرجع في كثير من مسائله إلى ما وضع على كتاب (التلخيص) من شروح وحواش وتقارير. لكن -وهذا من شديد ما يؤسف له- إذا رجع إليها غرق في ذلك الخضم من البحوث، التي ربما ضاع به ما يكتسبه من كتاب (الإيضاح) من ذوق أدبي لأن تلك الشروح والحواشي والتقارير تغطي عليه.
1 / 19
تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة
وننتقل الآن بعد هذه الإلمامة عن جهود البلاغيين، وعن أهم ما كتب في علوم البلاغة، للحديث عن الفصاحة باعتبارها جزءًا وقيدًا في تعريف البلاغة، كما سنعرف فيما بعد، وللحديث أيضًا عن علاقتها -أي الفصاحة- بالبلاغة؛ إذ من المعلوم أن طائفة من البلاغيين ظلت حتى عصر عبد القاهر الجرجاني لا تفرق بين الفصاحة والبلاغة؛ لالتقائهما في الإبانة عن المعنى وإظهاره، وإن فرق بينهما المعنى اللغوي، ومن هؤلاء عبد القاهر الجرجاني نفسه، فإنه لم يكن يفرق بين المعنيين؛ حيث فسر الفصاحة في (دلائل الإعجاز) بأنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض على طريقة مخصوصة. ولكن طائفة أخرى من البلاغيين كانت تصر على التفريق بين المعنيين وفاء بحق المعنى اللغوي لكل منهما، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري المتوفى سنة ٣٩٥، فقد فرق بينهما موضحًا أن الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة مقصورة على المعنى إلى أن حسم هذا الأمر معاصر عبد القاهر الجرجاني ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة ٤٦٦.
الفصاحة في اللغة: هي الظهور والبيان ويوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم. فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح، والبلاغة في اللغة تنبئ عن الوصول والانتهاء والإتقان والجودة، ويوصف بها الكلام والمتكلم فقط. فيقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ، ولم يسمع كلمة بليغة إلا أن يقصد بالكلمة خطبة أو قصيدة، فيكون من المجاز أعني من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
1 / 20
ولما كانت معرفة البلاغة متوقفة على معرفة الفصاحة لكونها مأخوذة في تعريف البلاغة، وجب علينا البدء بالتعرف على ملامح الفصاحة، ولما كانت لابن سنان الخفاجي المتوفى سنة ٤٦٦ قدم راسخة في معرفة حقيقة الفصاحة، وجعلها معيارًا نقديًّا أصيلًا من المعايير البلاغية والنقدية من خلال كتابه (سر الفصاحة) فقد وجب علينا أيضًا معرفة ما أتحف به العربية من لطائف نقدية في هذا المجال؛ لنؤكد الصلة الوثيقة بين كل من الفصاحة والبلاغة من جهة، والنقد الأدبي الأصيل من جهة أخرى، ولننهي العزلة التي فرضها المتأخرون من البلاغيين على البلاغة العربية.
وإليك ما قاله ابن سنان الخفاجي في هذا المجال، أورد ابن سنان الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة) أن الفصاحة لغة: هي الظهور والبيان، ومنها قولهم: أفصح اللبن، إذا انجلت رغوته، وفصح فهو فصيح، قال الشاعر:
وتحت الرغوة اللبن الفصيح
وقال: "أفصح الصبح إذا بدا ضوءه، وأفصح كل شيء إذا وضح، وفي الكتاب العزيز: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ﴾ (القصص: ٣٤) وفصح النصارى: عيدهم، وقد تكلمت به العرب، قال حسان بن ثابت:
ودنا الفصح فالولائد ينظمن ... سراعًا أكلّة المرجان
قال: ويجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم أن عيسى ﵇ ظهر فيه. ولكن صاحب (البغية) يرى أن هذه الكلمة عبرية لا عربية، وهي بمعنى الصفح؛ لأن الله تعالى صفح في يوم هذا العيد عن بني إسرائيل، وأخرجهم مع موسى ﵇ من مصر
1 / 21
وسمي الفصيح فصيحًا كأنهم سموه بيانًا؛ لإعرابه عما عبر به عنه، وإظهاره له إظهارًا جليًّا، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» ". ثم فرق ابن سنان بين الفصاحة والبلاغة بأن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، ولكن البلاغة لا تكون إلا وصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها: بليغة، وإن قيل فيها: فصيحة. وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه؛ أي في غير موضع الإسهاب؛ لأن البلاغة -كما سنذكر- تزيد عن الفصاحة بأن بها مطابقة مقتضى الحال.
ثم بين ابن سنان أن الناس قد حدوا البلاغة بحدود، إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست حدودًا صحيحة، كقول بعضهم في تعريف البلاغة مثلًا: لمحة دالة. وقول آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وقول آخر: البلاغة أن تصيب فلا تخطئ، وتسرع فلا تبطئ. وقول من قال: البلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام. ثم بدا الكلام على شروط لفصاحة اللفظة المفردة وفصاحة الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض، فأورد ابن سنان شروطًا لفصاحة اللفظة المفردة، وجعلها أيضًا شروطًا لفصاحة الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض، بعد أن عقد صلة وثيقة بين الفصاحة والبلاغة من جهة، وبين النقد الأدبي من جهة أخرى، وهذه الشروط هي ما يلي:
أولًا: أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج؛ لأن الحروف التي هي أصوات تجري في السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك أن الألوان
1 / 22
المتباعدة المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة، وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد
ثانيًا: أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنًا ومزية على غيرها، وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة، كما أنك تجد لبعض النغم والألوان حسنًا يتصور في النفس، ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه، مثاله في الحروف: العين مع الذال مع الباء، فإن السامع يجد لقولهم: العذيب. اسم موضع وعذيبة اسم امرأة وعَذْب وعَذُب وعذبات، ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف، وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط، ولكنه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصيغة الأولى في تقديم العين على الذال بضرب من التأليف في النغم، يفسده التقديم والتأخير. وليس يخفى على أحد أن تسمية الغصن غصنًا وفَنَنًا أحسن من تسميته عُسْلُوجًا، وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشَّوْحَط في السمع، والشوحط شجر يتخذ منه القسي أو الرماح. ثالثًا: أن تكون الكلمة -كما قال الجاحظ- غير متوعرة وحشية، كقول أبي تمام:
لقد طلعت في وجه مصر بوجهه ... بلا طائر سَعْلٍ ولا طائر كهل
فإن كهلًا ها هنا من غريب اللغة، وقد روي أن الأصمعي لم يعرف هذه الكلمة، وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين، وهو قوله:
فلو كان سلمى جاره أو أجاره ... رباح بن سعد رده طائر كهل
1 / 23
ومن ذلك ما يروى عن أبي علقمة النحوي من قولهم: ما لكم تتكأكئون، وافْرَنْقِعُوا؛ لأنها كلمات وحشية. رابعًا: أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، كما قال الجاحظ أيضًا، ومثال الكلمة العامية قول أبي تمام:
جَلَّيْتُ والموت مُبْدٍ حُر صفحته ... وقد تَفَرْعَنَ في أفعاله الأجل
فإن تفرعن مشتق من اسم فرعون، وهو من ألفاظ العامة، وعادتهم أن يقولوا: تفرعن فلان إذا وصفوه بالجبرية، فأما قول أبي الطيب المتنبي:
إني على شرفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
فلا شيء أقبح من ذكر السراويلات. خامسًا: مقاييس الفصاحة عند ابن سنان الخفاجي أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة، ويدخل في هذا القسم ما ينكره أهل اللغة، ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة، وقد يكون ذلك لأجل أن اللفظة بعينها غير عربية، كما أنكروا على أبي الشيص قوله:
وجناح مقصوص تحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المقراض
وقالوا: ليس المقراض من كلام العرب وقد تكون الكلمة عربية؛ إلا أنها قد عبر بها عن غير ما وضعت له في عرف اللغة، كما قال البحتري:
تشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم
فوضع الأيم مكان الثيب، وليس الأمر كذلك، فليست الأيم هي الثيب في كلام العرب، وإنما الأيم هي التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا كما قال تعالى:
1 / 24
﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾ (النور: ٣٢) وليس مراده تعالى نكاح الثيبات من النساء دون الأبكار، وإنما يريد اللواتي لا أزواج لهن، وقد يكون من الشاذ مما أنكره أهل اللغة ما جاء به حذف من الكلمة، كما قال النجاشي:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: ولكن اسقني. وقد يكون على وجه الزيادة في الكلمة مثل أن يشبع الحركة فتصير حرفًا كما قال ابن هرمة في رثاء ابنه:
وأنت على الغواية حيث ترمى ... وعن عيب الرجال بمنتزاح
أي ببعيد عنه، وقد يكون لأن الكلمة بخلاف الصيغة في الجمع أو غيره، كما في قول الطرماح:
وأكره أن يعيب علي قومي ... خجايا الأرذلين ذوي الحِنات
فجمع إحنة على غير جمع الصحيح لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات، ومن هذا الفصل أن يبدل حرف من حروف الكلمة بغيره، كما في قول شاعر:
لها أشارير من لحم منمرة ... من الثعالي ووخز من أرانيها
يريد من الثعالب وأرانبها. ومنها إظهار التضعيف في الكلمة مثل قول الشاعر:
مهلًا أعازل قد جربت من خلقي ... إني أجود لأقوام وإن ضننوا
وأما صرف ما لا ينصرف كقصر الممدود، ومد المقصور، وحذف الإعراب للضرورة، وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث فإن هذا وأشباهه وما يجري مجراه، وإن لم يؤثر في فصاحة الكلمة كبير تأثير؛ فإنني أوثر صيانتها عنه هكذا يقول ابن سنان؛ لأن الفصاحة تنبئ عن اختيار الكلمة وحسنها وطلاوتها، ولها من هذه الأمور صفة نقص فيجب طرحها.
1 / 25
سادسًا: ألا تكون الكلمة قد عبر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فإذا أوردت، وهي غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت، وإن كملت فيها الصفات التي بيناها، ومثل هذا قول عروة بن الورد العبسي:
وقلت لقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا عندما وانى تورح
سابعًا: ألا تكون الكلمة كثيرة الحروف، فإنها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت عن وجه من وجوه الفصاحة، ومن ذلك قول أبي نصر بن نباتة:
فإياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم ... ألا إن مغناطيسهن الذوائب
فمغناطيسهن كلمة غير مرضية. ومن هذا النوع أيضًا قول أبي تمام:
فلأذربيجان اختيال بعدما ... كانت معرس عبرة ونكال
سمجت ونبهنا على استسماجها ... ما حولها من نضرة وجمال
فكلمة "فلأذربيجان" كلمة رديئة لطولها وكثرة الحروف وخروجها بذلك عن المعتاد في الألفاظ إلى الشاذ النادر. ثامنًا: أن تكون الكلمة مصغرة في موضع عبر بها فيه عن شيء لطيف أو خفي أو قليل أو ما يجري مجرى ذلك، ومثال ذلك قول الشريف الرضي ﵀:
يولع الطل بردينا وقد نسمت ... رويحة الفجر بين الضال والسلم
فلما كانت الريح المقصودة هنا نسيمًا مريضًا ضعيفًا حسنت العبارة عنه بالتصغير، وكان للكلمة طلاوة وعذوبة.
1 / 26
وأما قول أبي الطيب:
ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظل يسفح بين العذر والعزل
أي أكففت دمعي، فالتصغير فيه مختار؛ لأن العادة جارية في قلة عدد من يصحب الإنسان في مثل هذه المواضع، ولهذا كانوا في الأكثر ثلاثة، وجرى ذكر الصاحبين والخليلين في الشعر كثيرًا لهذا السبب، كما قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقص لبانات الفؤاد المعذب
وقال ابن نباتة:
قفا فاقضيان لذة من حديثه ... علانية إن السرار مريب
والذي نريد أن نخلص إليه أنه وعلى الرغم من اختلاف الأصل اللغوي لكلمتي الفصاحة والبلاغة إلا أنهما يلتقيان في الإبانة عن المعنى وإظهاره، وقد لحظ هذا كثير من البلاغيين المتقدمين، فجعلوهما في الاصطلاح شيئًا واحدًا، وعلى رأس هؤلاء البلاغيين الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) حيث عقد فصلًا في تحقيق القول على الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وما شاكل ذلك من ألفاظ مترادفة. يقول عبد القاهر: "ومن المعلوم أنه لا معنى لهذه العبارات غير وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما كانت له دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب". انتهى. ومن ذلك يتضح أن الفصاحة والبلاغة عنده بمعنى واحد، وهو رأي الزمخشري من بعده وكذلك الفخر الرازي.
وهناك رأي آخر لبعض البلاغيين المتقدمين يفرق بين الفصاحة والبلاغة في الاصطلاح تبعًا لاختلاف مدلولهما اللغوي؛ إذ يقول: الفصاحة تمام آلة البيان. هذا ذكره في (الصناعتين) فهي مقصورة على اللفظ لأن الآلة تتعلق باللفظ دون
1 / 27