وهذا أيضًا ضعيف، لأنه خلافُ مُقتضَى الحديث ومفهومِه، وخلافُ ما فهمَه الصحابة الذين رووه، وقَصْرٌ لهذا اللفظ العام على صُوَرٍ قليلةٍ، فإن النياحة لم تكن من عادة المسلمين بعد نهي النبي ﷺ، بل كانت قليلةً.
وأيضًا فالأحياء الموجودون أحقُّ بالتعذيب على إنكارِ المنكر من الميت العاجز، ولا اختصاصَ لتعذيبه على ما لم يَنْهَ من النياحة، بل ما يتركونه من الواجبات ويفعلونه من المحرَّمات التي لم يأمر ولم يَنْهَ عنها أعظمُ من النياحة، فتخصيصها لهذا السبب بعيدٌ.
وأيضًا فإن الناهي يَنهى فلا يُسمَع منه، وحَسْبُك بنهي النبي ﷺ ومبايعتِه للنساء، ونَهْيه نسوةَ جعفر، كما في الصحيحين (^١) عن عائشة قالت: لما جاءَ النبيَّ ﷺ نَعْيُ ابن حارثةَ وجعفرٍ وابنِ رواحة جلسَ يُعرَفُ فيه الحزنُ، وأنا أنظُر من صائرِ الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّ نساءَ جعفرٍ، وذكر بكاءهنّ، فأمرَه أن ينهاهنَّ، فذهبَ ثمَّ أتاه الثانية، فذكر أنهنّ لم يُطِعْنَه، فقال: "انهَضْ". فأتاه الثالثةَ فقال: والله لقد غَلَبنَنا يا رسول الله، فزعَمتْ أنه قال: "فَاحْثُ في أفواههنَّ الترابَ"، فقلتُ: أرغمَ الله أنفَك، لم تَفعَلْ ما أمرَك رسولُ الله ﷺ ولم تَتْركْ رسول الله ﷺ من العَنَاءِ.
ولهذا كان عمر بن الخطاب يَحثُو فِيْه الترابَ، لأمر النبي ﷺ بذلك. هذا مع قوله: دَعْهنَّ يبكينَ على [أبي] سليمانَ خالد بن الوليد ما لم يكن نَقعٌ أو لَقْلَقَةٌ (^٢).