وَادَّعَى المُعَارِضُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الجَمَاعَةِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عِلْمُ الله تَعَالَى مِنْ ذَاتِهِ. وَهُوَ فِي الأَرْضِ بَائِنٌ مِنْهُ.
فَإِنَّا لَا نَقُولُ كَمَا ادَّعَيْتَ أَيُّهَا المُعَارِضُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ ذَاتِهِ فِي الأَرْضِ مَنْزُوعٌ مُجَسَّمٌ بَائِنًا مِنْهُ. وَلَكنَّا نقُول: علمه وَكَلَامه مَعَهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ، غَيْرُ بَائِنٍ مِنْهُ. فَهُوَ بِعِلْمِهِ الَّذِي كَانَ فِي نَفْسِهِ عَالِمٌ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ بِكُلِّ ذِي نَجْوَى، أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْهُ بِمَنْظَرٍ وَمَسْمَعٍ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، لَا يَخْفَي عَلَيْهِ مِنْ جَسَدٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا قِيسَ خَرْدَلَةٍ مِنْ مُخٍ، أوعَظْمٍ، أَوْ عِرْقٍ دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (٨٥)﴾ [الواقعة: ٨٥] أَيْ: نَحْنُ نَعْلَمُ مِنْهُ مَا ظهر وَمَا بَطَنَ، [٢٧/ظ] ومَا غَيَّبَ (١) مِنْهُ الجُلُودُ، وَوَارَاهُ الجَوْفُ، وأَخْفَتْهُ الصُّدُورُ، وَأَنْتُم لاتُبْصِرُون، فَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ بِالعِلْمِ بِذَلِكَ، لَا بِأَنَّ عِلْمَهُ مَنْزُوعٌ مِنْهُ بَائِنٌ مُجَسَّمٌ فِي الأَرْضِ، كَمَا ادَّعَيْتَ بِجَهْلِكَ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يدَّعِي أَنَّ عِلْمَهُ فِي الأَرْضِ، لَا مَا ادَّعَيْتَ عَلَيْنَا مِنَ البَاطِلِ، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ لِحُجَّةِ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَوَجَّهُ لِحُجَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَدْرِي مَا يَنْطِقُ بِهِ لِسَانُهُ؟
وَقَلَّ مَا رَأَيْتُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ مُتَكَلِّمًا فِي العَرْشِ أَكْثَرَ لَجَاجَةً فِي إِبْطَالِهِ وَإِدْخَالِ الحَشْوِ مِنَ الكَلَامِ وَالحُجَجِ الدَّاحِضَةِ فِيهِ مِنْ هَذَا المُعَارِضِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَدْحَضَ لِحُجَّتِهِ وَأَكْشَفَ لِعَوْرَتِهِ.
فَأَقْصِرْ أَيُّهَا المُعَارِضُ، فَإِنَّ العَرْشَ لَا يُعَطَّلُ بِإِكْثَارِ حَشْوِكَ وَخُرَافَاتِ كَلَامِكَ، وَكَلَامِ المَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ، إِذْ عَقِلَ أَمْرَهُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَكَيْفَ الرِّجَالُ؟
(١) كذا بالأصل وفي «س»، ونسخ على «ع»: «غيبت».