وكان للفقهاء في هذا التاريخ الطويل سلطة لم يزعموا قط أنها سلطة إلهية يستمدونها من السماء على النحو الذي يصف به النصارى رهبانهم، بل كانت هذه السلطة سلطة بيان الشريعة التي أمر الله الناس بالرجوع إلى أهل الذكر في السؤال عنها. ولم تكن هذه السلطة مكتسبة بتعيين السياسي أو بإرادته، بل كان لها شروطها العلمية والإيمانية والتربوية التي يكون بها الفقيه إمامًا للناس، ويشهد له بذلك أقرانه من الفقهاء الذين بلغوا درجة عالية كذلك في العلم والتزكية، بسلسلة وراثية يمتد بها العلماء ليكونوا ورثة للأنبياء.
وبعيدًا عن الخوض في مفهوم السلطة (^١)، فإن سلطة الفقهاء تعني نفوذ أمرهم وكلمتهم في الناس، وذلك أن الشريعة مشتملة على الأمر والنهي والهداية العامة، والفقهاء هم المختصون ببيان أحكام الشريعة للناس، كما في قول الله ﷻ: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]. وبما أن أحكام الشريعة شاملة للحياة بشتى مناحيها ومجالاتها، فالنتيجة الطبيعية لهذا أن يكون لبيان الفقهاء واجتهادهم أثر ونفوذ في الحياة العامة.
ولما كان أخص صفات الحكم بعد الخلافة الراشدة أنه (مُلك)، فإن من صفات المُلك كـ (مُلك) أنه عقيم (^٢)، وصاحب السلطة السياسية لا يرضى منازعته في هذه السلطة، ولكنه مع ذلك محتاج إلى الفقهاء الذين لا بد له منهم في الوظائف الدينية