Reflections and Judgments on the Verse 'Do Not Have Relations with Them While You Are Devoted in the Mosques'
تأملات وأحكام في قوله تعالى ﴿ولاتباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾
Publisher
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Edition Number
العدد ١٢٨-السنة ٣٧
Publication Year
١٤٢٥هـ
Genres
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما كثيرًا.
أما بعد:
فإن الآية الوحيدة التي اتفق العلماء على ذكر الاعتكاف الشرعي فيها هي قوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ (١) فلهذا أحببت أن أتأمل في هذه الآية وأستنبط الأحكام التي تضمنتها.
وأما قوله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد﴾ (٢) فالمراد بالعاكف هو المقيم الملازم، لأنه يقابل البادي وهو الطارئ عليه حيث أتى من مكان بعيد عنه (٣) .
_________
(١) جزء من الآية ١٨٧ من سورة البقرة وتمامها ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾
(٢) الحج ٢٥.
(٣) انظر تفسير القرطبي ١٢/٣٢ وابن كثير ٣/١٤ والشوكاني ٣/٤٤٥.
1 / 99
وأما قوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (١) فهو محتمل، لأن العلماء اختلفوا في العاكفين هل هم المعتكفون أم أهل مكة أم الجالسون فيه من غير طواف ولا صلاة (٢)، وهذه المعاني متقاربة ومحتملة لأن لفظ الاعتكاف يحتملها في اللغة.
فتبقى تلك الآية هي المتفق على أن المراد بالاعتكاف المذكور فيها هو الاعتكاف الشرعي.
مناسبة الآية لما قبلها:
لما أباح الله لعباده الرفث إلى النساء ومباشرتهن ليالي الصيام فقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (٣) حصص من هذا العموم المعتكفين في المساجد بأنهم ممنوعون من هذه الرخصة فقال تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ (٤) ثم بيّن أن هذه الأحكام
_________
(١) البقرة ١٢٥.
(٢) انظر تفسير الطبري ٢/٤٢-٤٣ وابن أبي حاتم ١/٣٧٥-٣٧٦ والقرطبي ٢/١١٤ وأخرج الطبري ٢/٤٣ عن ابن عباس ﵄ أنه قال: «العاكفون المصلون» ولكنه من طريق حجاج بن أرطاه عن ابن جريج، وحجاج صدوق كثير الخطأ والتدليس كما قال عنه الحافظ في التقريب ص ١٥٢ وقد عنعن في هذه الرواية وقال عن ابن جريج: «ثقة فقيه فاضل وكان يدلس ويرسل» انظر التقريب ص ٣٦٣ وعلى هذا فالأثر ضعيف عن ابن عباس ﵄.
(٣) البقرة ١٨٧.
(٤) البقرة ١٨٧.
1 / 100
هي حدود الله التي لا يجوز لأحد أن يقربها وأن هذا البيان والتوضيح من الله تعالى لآياته للناس لعلهم يتقون، ويجعلون بينهم وبين عذابه وقاية بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
خطة البحث:
قسمت البحث إلى مقدمة وستة مباحث وخاتمة.
أما المقدمة فذكرت فيها سبب اختيار الموضوع ومناسبة الآية لما قبلها وعملي في البحث.
وأما المباحث فهي على النحو التالي:
المبحث الأول: تعريف الاعتكاف.
المبحث الثاني: حكم الاعتكاف.
المبحث الثالث: تعريف المباشرة.
المبحث الرابع: أحكام المباشرة بالجماع.
المبحث الخامس: أحكام المباشرة فيما دون الجماع.
المبحث السادس: المساجد التي يعتكف فيها.
الخاتمة وفيها أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث.
1 / 101
المبحث الأول: تعريف الاعتكاف
الاعتكاف لغة: مأخوذ من قول العرب عكف على الشيء يعكف عكوفًا إذا لازمه قال تعالى: ﴿فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ﴾ (١) أي ملازمون لها وقال عن إبراهيم ﵇ أنه قال لقومه: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ (٢) (٣) .
وشرعًا: لزوم مسجد طاعة لله تعالى (٤) .
ويقال في تعريفه: المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة (٥) .
ويسمى الاعتكاف مجاورةً كما قالت عائشة ﵂: «كان النبي ﷺ يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض» (٦) .
_________
(١) الأعراف ١٣٨.
(٢) الأنبياء ٥٢.
(٣) انظر لسان العرب ٩/٢٥٥ والقاموس المحيط ٣/١٨٣.
(٤) انظر المجموع للنووي ٦/٤٧٤ وحاشية الروض المربع ٣/٤٧٢-٤٧٣.
(٥) انظر فتح الباري ٤/٢٧١.
(٦) أخرجه البخاري ٢/٢٥٦ ومسلم ١/٢٤٤.
1 / 102
المبحث الثاني: حكم الاعتكاف
الأصل في الاعتكاف أنَّه سنَّة وخصوصًا في العشر الأواخر من رمضان (١) لما ثبت في الصحيحين عن عائشة ﵂ قالت: «كان رسول الله ﷺ يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله ثمّ اعتكف أزواجه من بعده» (٢) .
قال الإمام أحمد: «لا أعلم عن أحد من العلماء خلافا أنه مسنون» (٣) .
ولا يجب الاعتكاف إلا إذا كان نذرًا لما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر ﵄ قال: «قال عمر: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال له النبي ﷺ: "أوف بنذرك" (٤) .
_________
(١) انظر بداية المجتهد ١/٣٥٤ والمغني ٣/١٨٣ وتفسير القرطبي ٢/٢٢٢ والمجموع ٦/٤٧٤-٤٧٥.
(٢) أخرجه البخاري ٢/٢٥٥ ومسلم ٢/٨٣١.
(٣) انظر فتح الباري ٤/٢٧٢.
(٤) أخرجه البخاري ٢/٢٦٠ ومسلم ٣/١٢٧٧.
1 / 103
المبحث الثالث: تعريف المباشرة
المباشرة لغة: مأخوذة من باشر يباشر مباشرة وبشارا يقال باشر الرجل المرأة إذا جامعها أو أفضى ببشرته إلى بشرتها أو لامسها وذلك لتلاقي البشرتين (١) .
معنى المباشرة في الآية:
المباشرة في هذه الآية الكريمة تطلق على معنيين:
الأول: الجماع وهذا المعنى جاء تفسيره عن ابن عباس ﵄ حيث قال: «الدخول، والتغشي، والإفضاء، والمباشرة، والرفث، واللمس، هذا هو الجماع غير أن الله حيي كريم يكني بما شاء عمّا شاء» (٢) .
الثاني: المباشرة بشهوة دون الفرج كما قالت عائشة ﵂: «كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرها رسول الله ﷺ أن تتزر ثم يباشرها. قالت عائشة: وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله ﷺ يملك إربه» (٣) .
فهذه المبشارة دون الفرج، لأنه ﷺ يأمرها بالاتزار ولأنها حائض والحائض لا يجوز جماعها.
ومن هنا يتبين لنا أن هذا العمل - المباشرة دون الفرج - داخل في عموم
_________
(١) انظر معجم مقاييس اللغة ١/٢٥١ والقاموس المحيط ١/٣٨٦-٣٨٧ ولسان العرب ٤/٦٠-٦١.
(٢) أخرجه عبد الرزاق في المصنف ٦/٢٧٧ وصحح الحافظ إسناده في فتح الباري ٨/٢٧٢.
(٣) أخرجه البخاري ١/٧٨ ومسلم ١/٢٤٢.
1 / 104
قوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد﴾ (١) وهذا إذا كان بشهوة أما إذا كان من غير شهوة فسيأتي في المبحث الخامس أنه ليس من المباشرة المنهي عنها (٢) .
_________
(١) انظر أحكام القرآن لابن العربي ١/٩٦.
(٢) انظر ص ١٢.
1 / 105
المبحث الرابع: أحكام المباشرة بالجماع
إذا جامع المعتكف زوجه أو أمته فإنه يتعلق بهذا الجماع عدة أحكام وهي كما يلي:
أولا: تحريم الجماع، قال ابن قدامة: «الوطء في الاعتكاف محرم بالإجماع والأصل فيه قول الله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾» (١) وقال النووي: «حرام بلا خلاف» (٢) .
ثانيا: فساد الاعتكاف، وهذا بالإجماع أيضا كما حكاه ابن قدامة والقرطبي والنووي (٣) .
ثالثا: اختلف العلماء هل عليه كفارة أم لا؟ على ثلاثة أقوال:
أ- ذهب الجمهور إلى أنه ليس عليه كفارة لعدم الدليل فيبقى على الأصل (٤) .
ب- قال الحسن البصري والزهري عليه كفارة ظهار (٥) .
ج- قال مجاهد: «يتصدق بدينار» (٦) .
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لعدم الدليل على وجوب الكفارة.
_________
(١) انظر المغني ٣/١٩٧.
(٢) انظر المجموع ٦/٥٢٤.
(٣) انظر المغني ٣/١٩٧ وتفسير القرطبي ٢/٣٣٢ والمجموع ٦/٥٢٤.
(٤) انظر بداية المجتهد ١/٣٦٩ وتفسير القرطبي ٢/٣٣٢.
(٥) أخرجه عنهما عبد الرزاق في المصنف ٤/٣٦٣ وابن أبي شيبة ٣/٩٢-٩٣.
(٦) أخرجه ابن أبي شيبة ٣/٩٣ وذكر الحافظ في الفتح ٤/٢٧٢ عن مجاهد قال: «يتصدق بدينارين» .
1 / 106
المبحث الخامس: أحكام المباشرة فيما دون الجماع
المباشرة فيما دون الجماع تنقسم إلى نوعين:
* النوع الأول: المباشرة بغير شهوة.
يجوز للمعتكف أن يباشر زوجته بدون شهوة إذا أمن على نفسه كأن ترجل رأسه أو يكون ذلك على سبيل الشفقة، أو الإكرام (١) . ويدل لهذا قول عائشة ﵂: «كان رسول الله ﷺ يصغي إليّ رأسه وهو مجاور وأُرَجِّلُه وأنا حائض» (٢) وكانت لا محالة تمس بدن النبي ﷺ (٣) فهذه المباشرة ليست من المباشرة المنهي عنها في قوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ .
* النوع الثاني: المباشرة بشهوة.
لا يجوز للمعتكف أن يباشر زوجته بشهوة (٤) لقوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ ولما صح عن عائشة ﵂ أنها قالت: «السنة على المعتكف ألا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها» (٥) .
_________
(١) انظر أحكام القرآن للجصاص ١/٣٠٧ والمغني ٣/١٩٩ والمجموع ٦/٥٢٥.
(٢) أخرجه البخاري ٢/٢٥٦ ومسلم ١/٢٤٤.
(٣) انظر تفسير القرطبي ٢/٣٣٢.
(٤) انظر بدائع الصنائع ٢/١١٦ وأحكام القرآن لابن العربي ١/٩٦ والمجموع ٦/٥٢٥.
(٥) أخرجه أبوداود ٢/٨٣٦-٨٣٧ والدارقطني ٢/٢٠١ والبيهقي ٤/٣١٥ و٣٢٠ وصحح الشيخ الألباني إسناده في إرواء الغليل ٤/١٣٩.
1 / 107
ولكن اختلف العلماء هل يفسد الاعتكاف إذا باشر بشهوة أو لا على ثلاث أقوال:
القول الأول: يفسد الاعتكاف، لأن المباشرة محرمة في الاعتكاف لعينها فيفسد بها كالجماع وهذا قول المالكية وقول عند الشافعية (١) .
القول الثاني: لا يفسد الاعتكاف، لأنها مباشرة لا تفسد صوما ولا حجا فهي كالمباشرة بغير شهوة. وهذا قول عند الشافعية (٢) .
القول الثالث: إن أنزل فسد الاعتكاف وإن لم ينزل لم يفسد. وهذا قول الحنفية والحنابلة وقول عند الشافعية (٣) .
والذي يظهر أن القول الأول هو الأولى لأن المباشرة منهي عنها حال الاعتكاف، وكل ما نهي عنه بعينه في العبادة فإنه يبطلها فهي مثل الجماع، ولأن المباشرة بشهوة تنافي الحكمة التي من أجلها اعتكف الإنسان وهو أن يخلو بنفسه وأن يشتغل بعبادة ربه وأن يبتعد عن الدنيا وملذاتها.
_________
(١) انظر بداية المجتهد ١/٣٦٨ والكافي في فقه أهل المدينة ١/٣٥٤ والمجموع ٦/٥٢٣-٥٢٦.
(٢) انظر الأم للشافعي ١/١٠٥ والمهذب مع المجموع ٦/٥٢٣-٥٢٦.
(٣) انظر أحكام القرآن للجصاص ١/٣٠٧ وبدائع الصنائع ٢/١١٦ والمغني ٣/١٩٩ وزاد المحتاج ١/٥٤٣ والمجموع ٦/٥٢٣-٥٢٦.
1 / 108
المبحث السادس: المساجد التي يعتكف فيها
أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد لقول الله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ (١) . ولكن اختلفوا في المساجد التي يجوز الاعتكاف فيها على أقوال ثلاثة:
أ- يجوز الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، لأن الاعتكاف في غيره يفضي إلى ترك الجماعة وهي واجبة، أو تكرار الخروج إليها كثيرا. أما الذي لا تلزمه صلاة الجماعة، أو كان اعتكافه مدة غير وقت الصلاة كليلة فيجوز في كل مسجد. وهذا مذهب الإمام أحمد (٢) ورواية عن أبي حنيفة (٣) .
ب- يجوز الاعتكاف في كل مسجد لظاهر الآية. وهذا قول الأحناف والمالكية والشافعية (٤)، حتى قال الأحناف: لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ويكره لها الاعتكاف في مسجد الجماعة، لأن صلاتها في البيت أفضل من صلاتها في المسجد ولو لم يكن لها مسجد تجعل موضعا في بيتها تعتكف فيه (٥) .
ويجاب عن هذا: بأن الصلاة لا اعتبار بها، لأن صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة ولا يصح أن يعتكف فيه، ثم إنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكما لجواز لبثها فيه حائضًا وجنبًا (٦) . ثم إن نساء النبي ﷺ اعتكفن
_________
(١) انظر تفسير القرطبي ٢/٣٣٣.
(٢) انظر المغني ٣/١٨٨-١٨٩ والروض المربع مع الحاشية ٣/٤٧٨-٤٧٩.
(٣) انظر بدائع الصنائع ٢/١١٣.
(٤) انظر أحكام القرآن للجصاص ٢/٣٠٢ والمنتقى للباجي ٢/٧٨-٧٩ والمجموع ٦/٤٨٠.
(٥) انظر أحكام القرآن للجصاص ٢/٣٠٣ والهداية ١/١٣٣.
(٦) وانظر المغني ٣/١٨٩-١٩٠ والروض المربع مع الحاشية ٣/٤٨٠.
1 / 109
في المسجد ولا مخالف لهن من الصحابة (١) . وأما إذا خشيت المرأة الفتنة في الاعتكاف في المسجد فإنها لا تعتكف بل تبقى في بيتها (٢)، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ج- لا يجوز الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وهذا قول حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب (٣) وعطاء (٤)، وجاء عن سعيد وعطاء ما يخالف هذا القول.
واستدل من قال بهذا القول بما أخرجه البيهقي عن حديفة أنه قال لعبد الله بن مسعود: عكوفا بين دارك ودار أبي موسى وقد علمت أن رسول الله ﷺ قال: "لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام" أو قال: "إلا في المساجد الثلاثة" فقال عبد الله: لعلك نسيت وحفظوا أو أخطأت وأصابوا. الشك مني» وفي رواية أنه قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" أو قال: "مسجد جماعة" (٥) .
والراجح ما ذهب إليه الجمهور لكن يشترط لمن تجب عليه صلاة الجماعة أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة.
_________
(١) انظر المحلى ٥/١٩٦.
(٢) انظر الشرح الممتع ٦/٥١١-٥١٢.
(٣) وأخرج عنه ابن أبي شيبة ٣/٩١ أنه قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد نبي» . وأخرج عنه عبد الرزاق ٤/٣٤٦ أنه قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد النبي ﷺ» .
(٤) وعنه قال: «لا جوار إلا في مسجد جامع» ثم قال: «لا جوار إلا في مسجد مكة ومسجد المدينة ومنع من مسجد إيلياء» . وعنه أنه أجاز إتمام النذر في مسجد منى لمن نذر أن يعتكف فيه. انظر مصنف عبد الرزاق ٤/٣٤٩ وفتح الباري ٤/٢٧٢.
(٥) أخرجه البيهقي في سننه ٤/٣١٦ والطحاوي في مشكل الآثار ٤/٢٠ وابن حزم في المحلى ٥/١٩٤-١٩٥.
1 / 110
وبهذا يجتمع القول الأول والثاني ويحمل عليه ما جاء عن جماعة من السلف أن الاعتكاف إنما يكون في مسجد جماعة (١) .
ويجاب عن دليل القول الثالث بما يأتي:
١- أن أكثر الرواة رووه موقوفًا على حذيفة ﵁، كما أخرج عبد الرزاق في المصنف والطبراني (٢): أن حذيفة قال لعبد الله: «قوم عكوف بين دارك ودار أبي موسى لا تنهاهم؟ فقال له عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت وحفظوا ونسيت. فقال حذيفة: لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد إيلياء» .
وأخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والطبراني عن إبراهيم النخعي قال: «جاء حذيفة إلى عبد الله ...» فذكره موقوفًا على حذيفة (٣) . وقد قال النخعي: «وإذا قلت قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله» (٤) .
ثم إن رواته أوثق من محمود بن آدم (٥) الذي رواه مرفوعًا لأنه لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في التقريب: «صدوق» (٦) . وأوثق من محمد بن
_________
(١) أخرجه عبد الرزاق ٤/٣٤٦-٣٤٩ عن علي بن أبي طالب وعروة بن الزبير والحسن البصري والزهري وعطاء وأخرجه ابن أبي شيبة ٣/٩١-٩٢ عن علي وعروة والزهري والحكم وحماد.
(٢) أخرجه عبد الرزاق ٤/٣٤٨ والطبراني في الكبير ٩/٣٤٩-٣٥٠.
(٣) أخرجه عبد الرزاق ٤/٣٤٧-٣٤٨ وابن أبي شيبة ٣/٩١ والطبراني في الكبير ٩/٣٤٩.
(٤) انظر تهذيب التهذيب ١/١٧٧-١٧٨.
(٥) هو محمود بن آدم المروزي روى عن ابن عياش وابن عيينة وعنه البخاري فيما ذكر ابن عدي وغيره مات عام ٢٥٨ وانظر تهذيب التهذيب ١٠/٦١.
(٦) انظر تهذيب التهذيب ١٠/٦١ والتقريب ٥٢٢.
1 / 111
سنان الشيرازي (١) عن هشام بن عمار (٢) كما عند الطحاوي.
١- وقوع الشك في الرواية المرفوعة ففي رواية: "إلا المسجد الحرام". وفي رواية: «إلا المساجد الثلاثة» . وفي رواية: «مسجد جماعة» . وهذا الشك يضعف الاحتجاج بالحديث لأن الشك لا يصدر عن النبي ﷺ ولو قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» لحفظه الله علينا ولم يدخل فيه شك، وإنما الشك من حذيفة ﵁ أو من بعده (٣) .
٢- أن ابن مسعود رد على حذيفة ﵄، وابن مسعود لا يرد حديث النبي ﷺ برأيه، وإنما عنده من العلم ما يثبت به قوله: "لعلهم حفظوا ونسيت وأصابوا وأخطأت" فأوهنه في الرواية والحكم.
٣- لو سلم حديث حذيفة من هذه العلل فإنه يتعارض مع ما ثبت عن عائشة ﵂ أنها قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» (٤) وقولها السنة تريد سنة النبي ﷺ فهذا له حكم المرفوع.
فيحمل حديث حذيفة -إن صح- على أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل من الاعتكاف في غيرها لما لها من الفضل كما ذهب إليه الجمهور (٥) .
_________
(١) قال الذهبي في الميزان ٣/٥٧٥: صاحب مناكير.
(٢) هو هشام بن عمّار الدمشقي صدوق مقرء كبر فصار يتلقن فحديثه القديم أصح. مات عام ٢٤٥، وانظر التقريب ٥٧٣.
(٣) انظر المحلى ٥/١٩٥-١٩٦ ونيل الأوطار ٤/٢٦٩.
(٤) أخرجه أبو داود ٢/٨٣٦-٨٣٧ والدارقطني ٢/٢٠١ والبيهقي ٤/٣١٥و٣٢٠ وصحح إسناده الألباني في الإرواء ٤/١٣٩.
(٥) انظر أحكام القرآن للجصاص ١/٣٠٢ والمجموع ٦/٤٨١-٤٨٢ والروض المربع مع الحاشية ٣/٤٨٤-٤٨٥.
1 / 112
١- أن لفظ الآية دال على العموم لأن الألف واللام في (المساجد) لجنس المساجد؛ لأن هذا حكم للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأولئك القوم الذين أنكر حذيفة عملهم إما صحابة وإما تابعون فأخذوا بهذا العموم.
٢- كيف تترك الأمة العمل بهذا الحديث - لو صح - خلال هذه القرون المتطاولة وفيهم المحدثون والفقهاء، وقد نقلوا هذا الحديث في كتبهم، فكيف يتفق الجميع على عدم العمل به؟ (١) .
فالراجح ما ذهب إليه الجمهور وأنه يجوز الاعتكاف في جميع المساجد، ومن تجب عليه الجماعة فإنه يعتكف في مسجد تقام فيه الجماعة. أما إذا كان ممن لا تجب عليه الجماعة كالمرأة أو المريض أو الذي لا يصلي معه في المسجد أحد فإنه يعتكف في مسجده. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. والله أعلم.
_________
(١) أما سعيد بن المسيب وعطاء رحمهما الله فقد جاء عنهما ما يخالف هذا الحديث كما سبق ص ١٥ وليس أحد القولين بأولى من الآخر.
1 / 113
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛
فمن خلال هذا البحث توصلت إلى نتائج أجملها في النقاط الآتية:
١- الاعتكاف سنة وخصوصا في العشر الأواخر من رمضان ولا يجب إلا بالنذر.
٢- المباشرة المنهي عنها في الآية تشمل الجماع وما دونه إذا كان بشهوة.
٣- المباشرة بما دون الجماع إذا كانت من غير شهوة لا تدخل في المباشرة المنهي عنها في الآية.
٤- الجماع محرم على المعتكف ومفسد للاعتكاف وهذا بالإجماع.
٥- جماع المعتكف لا يوجب عليه كفارة.
٦- المباشرة بشهوة بما دون الفرج محرمة ومفسدة للاعتكاف أيضًا.
٧- الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد.
٨- من تجب عليه صلاة الجماعة فإنه لا يعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة.
٩- المرأة لا تعتكف في مسجد بيتها، لأنه ليس بمسجد لا حقيقة ولا حكما. وإنما تعتكف في المساجد التي بنيت لإقامة الصلاة.
إذا خشيت المرأة الفتنة فإنها لا تعتكف، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
1 / 114
وأسأل الله أن ينفع بهذا البحث من كتبه وقرأه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 115
مصادر ومراجع
...
المصادر والمراجع
١- أحكام القرآن لأحمد بن علي الجصاص (ت٣٧٠هـ) طبع دار إحياء التراث٥ج.
٢- أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (ت٥٤٣هـ) مطبعة الحلبي الطبعة الثانية ٤ج.
٣- إرواء الغليل للشيخ الألباني، ط المكتب الإسلامي ٨ج.
٤- الأم للشافعي ٨ج.
٥- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لأبي بكر بن مسعود الكاساني
(ت٥٨٧هـ) طبع دار الكتب العلمية.
٦- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الحفيد (ت٥٩٥هـ) طبع دار التوفيق ٢ج.
٧- تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم الرازي (ت٢٣٧هـ) تحقيق أسعد الطيب طبع مكتبة الباز الطبعة الأولى عام ١٤١٧هـ، ١٠ج.
٨- تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير الدمشقي (ت٧٧٤هـ) طبع المطبعة الفنية بالقاهرة، ٤ج.
٩- تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت٨٥٢هـ) تحقيق محمد عوامة طبع دار الرشيد سوريا عام ١٤٠٦هـ، ١ج.
١٠- تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت٨٥٢هـ) طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند عام ١٣٢٥هـ، ١٢ج.
١١- جامع البيان عن تأويل أي القرآن للإمام محمد بن جرير الطبري
1 / 116
(ت٣١٠هـ) تحقيق أحمد ومحمود شاكر طبع دار المعارف بمصر وإذا نقلت من الطبعة الأولى أشير إليها بطبعة بولاق.
١٢- الجامع لأحكام القرآن للإمام محمد الأنصاري القرطبي (ت٦٧١هـ) الطبعة الثانية، ٢٠ج.
١٣- الروض المربع شرح زاد المستقنع بحاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ت١٣٩٢هـ) الطبعة الثالثة عام ١٤٠٥هـ، ٧ج.
١٤- زاد المحتاج بشرح المنهاج للشيخ الكهوجي طبع الشئون الدينية بدولة قطر، الطبعة الأولى ٤ج.
١٥- سنن أبي داود السجستاني (ت٢٧٥هـ) تحقيق عزت الدعاس وعادل السيد طبع دار الحديث لبنان الطبعة الاولى عام ١٣٩١هـ، ٥ج.
١٦- سنن الدارقطني (ت٢٨٥هـ) طبع عالم الكتب الطبعة الرابعة عام ١٤٠٦هـ، ٤ج.
١٧- السنن الكبرى للبيهقي (ت٤٥٨هـ) طبع دار الفكر، ١٠ج.
١٨- الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ محمد بن صالح العثيمين، جمع
د/ سليمان أبا الخيل ود/ خالد المشيقع، طبع مؤسسة آسام، الطبعة الأولى عام ١٤١٦هـ.
١٩- صحيح الإمام البخاري (ت٢٥٦هـ) طبع المكتبة الإسلامية باسطنبول، ٨ج.
٢٠- صحيح الإمام مسلم (ت٢٦١هـ) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء التراث العربي، ٥ج.
٢٢ - صحيح سنن ابن ماجه للشيخ الألباني، طبع المكتب الإسلامي، الطبعة
1 / 117
الأولى عام ١٤٠٧هـ، ٢ج.
٢٢- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت٨٥٢هـ) نشر إدارة البحوث العلمية بالمملكة، ١٣ج.
٢٣- الفروع لابن مفلح الحنبلي (ت٧٦٣؟) طبع عالم الكتب الطبعة الثالثة عام ١٤٠٢هـ ٦ج.
٢٤- القاموس المحيط للفيروز آبادي (ت٨١٧هـ) طبع دار الجيل، ٤ج.
٢٥- لسان العرب لابن منظور (ت٧١١هـ) طبع دار الفكر، ١٥ج.
٢٦- الكافي في فقه أهل المدينة للإمام ابن عبد البر (ت٤٦٣هـ)، تحقيق محمد المريتاني، الناشر مكتبة الرياض الحديثة الطبعة الثانية عام ١٤٠٠هـ ٢ج.
٢٧- المجموع –شرح المهذب- لشرف الدين النووي (ت٦٧٦هـ) طبع دار الفكر، ٢٠ج.
٢٨- المحلى لابن حزم الظاهري (ت٤٥٦) منشورات دار الآفاق الجديدة ١١ج.
٢٩- مشكل الآثار للإمام أبي جعفر الطحاوي (ت٣٢١هـ)، طبع مؤسسة قرطبة، الطبعة الأولى، ٤ج.
٣٠- المصنف للإمام عبد الرزاق الصنعاني (ت٢١١هـ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي طبع المكتب الإسلامي الطبعة الثانية عام ١٤٠٣هـ، ١١ج.
٣١- المصنف للإمام عبد الله بن أبي شيبة (ت٢٣٥هـ)، تحقيق عامر الأعظمي، طبع الدار السلفية بالهند ١٥ج.
٣٢- المعجم الكبير للحافظ أبي القاسم الطبراني (ت٣٦٠هـ) تحقيق حمدي السلفي، ٢٥ج، وسقطت الأجزاء ١٣-١٤-١٥-١٦-٢١.
1 / 118