إن الشمس المشرقة علينا من المغرب اليوم هي - والحق يقال - شمسنا، هي شمس آدابنا، هي شمس أدياننا، هي شمس مجدنا الغابر، فإن نظرتم إلى خارطة العالم تروا أن من البلاد ثلاثا آخذة منه مركز القلب، وهذه البلاد هي سوريا وفلسطين وجزيرة العرب وما بين النهرين، هذه البلاد وطننا، هذه البلاد قلب العالم، وفي هذا القلب ظهرت الأنبياء وفيه نشأت الأديان، ومن هذا القلب أشرقت على أوروبا في الأجيال الوسطى شمس العلم والفلسفة والآداب، فأنارت ظلمات الأوروبيين وخرجت بهم من مهامة الجهل والتوحش إلى واحات الرقي والعمران.
أجل إن وطننا لقلب العالم ولكن أوروبا رأسه، وإن كان القلب منشأ الخيال والنبوة فالرأس منشأ العلوم والفنون على أن النور المنبثق من الرأس فقط هو كالنور الاصطناعي الذي يضيئون به المراسح في أوروبا، هو نور بارد جامد خاسئ وإن لم يشترك مع نور القلب وحرارته فلا خير فيه للإنسان مهما عظمت نتائجه في دوائر العمران والفنون إن لم يكن الضمير أساسها والإخلاص لبها ونفع البشر غايتها الأولى. هي أفيون لا فنون، فإنها تخدر الحواس وتذهب بشيء من الهموم، ولكنها تقتل النفس وتفسد الحياة.
إن سكان هذه البلاد التي هي قلب العالم لشبيهون بشجرة ذكرها النبي شجرة مباركة لا غربية ولا شرقية، نحن اليوم واقفون بين مدنيتين متناقضتين معاديتين الواحدة منهما الأخرى، مدنية جديدة ومدنية قديمة، مدنية أوروبية ترفع أعلامها في البلاد كلها، ومدنية شرقية لم يزل لها المقام الرفيع بين فئة راقية من نخبة الأدباء والفلاسفة في أوروبا. فإن كان هؤلاء الأوروبيين يجدون في مدنيتنا ما لا يجب تركه، ما لا يجوز اضمحلاله كم بالحري نحن؟
ولي كلام طويل في هاتين المدنيتين أقول الوجيز منه الآن لست بجاهل ما في مدنية اليوم لمن كثر ماله فقط من دواعي الراحة في المعيشة البيتية المادية والسهولة والسفر والمواصلات، ولا أظنكم تجهلون ما في التعادي والتكالب في سبيل هذه الأشياء أيضا والبلاء، فإن المدنية التي يدعى التكالب فيها نشاطا والخداع براعة والقوة حقا هي عندي شر المدنيات، وهذه مدنية أوروبا اليوم مدنية كهرباء هي وبخار، مدنية تجارة وكسب واستغرار، مدنية حروب وفتوحات واستعمار، ليس فيها للضمير والذمة أثر من الآثار، مدنية جذورها حب الذات والاستئثار، وثمارها اليأس والانتحار، لا تقولوا بالغت؛ فإن كلامي من الاختبار، لا من المجلات والأسفار.
وأما مدنية الشرق فلست بناكر أنها مدنية فتور وجمود واستسلام، مدنية أصولها القضاء والقدر ولبها محض أوهام، ولكن فيها من جميل العادات والتقاليد، من جميل العواطف والشعور، من شهامة النفس وكرم الأخلاق، من الاعتدال في العيش والبساطة؛ ما تفتقر إليه مدنية أوروبا. وهذه الخلال الشريفة تبعث الحرارة من الحقيقة الباردة القاسية فتمسي الحياة خفيفة الأحمال مرضية الآمال.
ناهيك عن أنه لم يزل في هذه المدنية القديمة شيء من الضمير الحي والتجرد في الولاء، مما يزيد النفس الشرقية جمالا. والضمير الحي - أيها السادة - هو ملح العلوم والفنون والآداب، ومن هذه كلها تتغذى المدنية الحقة.
نحن اليوم واقفون بين هاتين المدنيتين، بين مدنية غازية منتصرة وأخرى مدبرة، فعلينا أن لا نخضع على الإطلاق لهذا الفاتح الغازي، وإن تمسك بما في مدنيتنا من الخير الروحي، ولا ينجينا من استبداد هذه المدنية الفاتحة القاهرة ويحفظ لنا حسنات تلك المدبرة سوى الآداب.
ولا أريد بالآداب الكتب فقط بل أريد منها آداب النفس أولا والأخلاق، إن الدين - وهو أب مدنية الشرق - يرفض بتاتا مدنية الغرب، والعلم المادي - وهو إله مدنية الغرب - يرفض بتاتا مدنية الشرق. فالدين والعلم في هذا الموقف متغرضان كل لقومه ولا ينفعنا الواحد منهما دون الآخر، وإني لا أجد في كل قوى الفكر والنفس وثمارهما أصلح وأنجع من الآداب تجمع بين الاثنين فينشأ عن ذلك مدنية جديدة قوامها الصنائع والفنون وشعارها الإخاء العام، واعلموا أن الفنون السامية الجميلة هي التي تتغذى من العلم والدين معا.
والأمة التي تجعل مثل هذه الفنون أساس حياتها الاجتماعية تكون ولا غرو مجد المستقبل وأم الأمم. على شطوط البحرين وفي أودية الرافدين أحب أن أشاهد مثل هذه المدنية الجامعة بين محاسن المدنيتين، أحب أن أرى في قلب العالم جمال روح العالم وكمالها، أحب أن أرى في بلاد الشام وبلاد العرب ثمار الأنبياء وثمار العلماء على شجرة واحدة. أحب أن تزرع بساتين هذه الأرض المقدسة من تلك الشجرة المباركة، شجرة لا غربية ولا شرقية. وأحب أن أرى الأدباء والشعراء بعيدين عن السياسة وأوحالها، منصرفين إلى حراثة هذه البساتين الجميلة.
أيها السادة! لا تظنوا أن الانقلاب السياسي يجدي نفعا إن لم يتبعه انقلاب أدبي، لا تظنوا أن في الحكومة الدستورية دواء شافيا لكل أمراضنا، لا تظنوا أن الدستور وحده يخلص الأمة من الأخطار المحدقة بها النامية في قلبها وأن الصحافة الحرة تقف دائما - من أجل الأمة - في وجه المشعوذين والمضللين والمفسدين. وهل الدستور والصحافة الحرة رقيتان من رقيات السحرة حتى إذا قلنا مثلا شولم صحافة! صرنا شعبا حرا، شولم دستور! صرنا أمة راقية؟ لا يا إخواني لا، فإن طلبتم الحرية اطلبوا المعنوي منها قبل الحرفي، الجوهري قبل السياسي.
Unknown page