وقد علمنا التاريخ حقيقة نود لو لم تكن، وهي أن من أراد تأسيس حزب أو وضع تعليم أو إنشاء ديانة؛ ينبغي له أن ينظر إلى وجه واحد من المسألة فقط، إذا شاء أن يكون صريحا في رأيه حازما في قوله ثابتا في عقيدته، وبكلمة أخرى: إذا شاء أن يكون مؤسسا لحزب أو تعليم أو دين ما عليه أن يكون متحزبا متعصبا مأخوذا بدعوته مهما كانت. عليه أن يكون أعمى أصم في ما سوى ذلك؛ فالنفي والشك والتردد وعدم الاكتراث والفتور هذه لا تؤسس ممالك وأحزابا وديانات، وهذه كلها من مزايا كارليل المشهورة، فقد أحب ألا يكون متعصبا لا مع الثورة ولا لها فجاءنا بتعصب جديد خصوصي لا يضر بالحقيقة الجوهرية ولا ينفعها، وقد تلذ لمن تتوق نفسه إلى الجديد من الأشياء والآراء، وبما أنه توسع في الصغائر والتوافه التي تتعلق في الثورة ولذ له سردها بل نظمها في نثره الفخيم؛ فهو أشبه بنور تضعضعت أشعته المرسلة في كل الجهات ولم تتعداها إلى ما وراءها من الجوهريات.
وإنه لو صوب نور مصباحه إلى غرض واحد في جهة واحدة لأرانا في الزوايا شيئا من الحقيقة الثابتة الدائمة. لو فعل ذلك لفاز في وضع تعليم جديد أو تأسيس حزب ثالث ينظر في شئون الثورة نظر الغريب عن هذه الأرض ويقيس منافعها وأضرارها بغير مقاييس هذا العالم.
أما التنديد برجال الثورة، والاستياء من النهضة بجملتها، والنفور من هولها والفرار من نارها المحرقة المنيرة؛ فهذه ذنوب لا تغتفر للمؤرخ إذا اقترفها، فالطفل يولد في الألم والعذاب والجمهوريات تنشأ في الثورات والحروب. الأم تتألم ساعة الولادة وكذلك الأمة، يموت الإنسان والعذاب ملازمه، ويولد الطفل والألم حليفه، وكذلك الحكومات بأنواعها والأمم. فلا تموت حكومة بسلام ولا تنشأ حكومة بسلام.
ولا بأس في الختام من قصة صغيرة أوردها، فقد ذكرتني بها مطالعة هذا الكتاب الذي أود أن يطالعه كل من يحسن اللغة الإنكليزية من قرائي، ورب قائل: ولم تدعونا إلى مطالعته بعد أن تحققت فساده وبان ذلك الضرر الذي ينجم عن اقتباس الأفكار التي جاءت فيه؟ أريد أن يقرأه كل من كلف نفسه قراءة هذا البحث؛ ليستطيع أن يقابل بين الاثنين، لا أريد أن يرتأي أحد رأيي دون أن يشغل قليلا فكره. لنعد الآن إلى القصة.
أراد أحد الملوك الأقدمين المولعين بالعلم أن يطلع على تاريخ الأمم فطلب أحد وزرائه وأمره بتأليف - أو جمع - تاريخ عام، فذهب الوزير وغاب سنين، ثم عاد إلى الملك ومعه عدد من الجمال محملة كتبا، فوقف أمام ملكه وقال: «ها هو التاريخ الذي تطلبه» ولكن الملك وقد هالته أحمال الجمال أمر الوزير أن يختصر التاريخ، فغاب هذا ثانية وعاد بعد سنين ومعه جمل واحد فقط يحمل التاريخ المختصر.
أما الملك فكان قد ضعف بصره ووهنت قواه فأمر الوزير أن يختصره أيضا، فغاب الوزير للمرة الثالثة وعاد فرأى مليكه يتقلب على فراش الموت فلما رآه الملك قال: «آه، ثم أواه سأموت قبل أن أطلع على تاريخ الأمم» فأجابه الوزير - معزيا: «لا تقل ذلك يا مولاي فقد أحضرت لك مجموعة صغيرة تنبئك عن كل أعمالهم باختصار غريب، وها هي» ثم أخرج الوزير من جيبه ورقة صغيرة وقرأ بصوت مرتفع: «إليك يا ملك الزمان بتاريخ شعوب الأرض مختصرا: فإنهم تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا.»
وتاريخ كارليل المقسوم إلى عشرين كتابا وكل كتاب مقسوم إلى فصول لم يفدنا عن الثورة الإفرنسية أكثر مما أفاد الوزير مليكه عن تاريخ شعوب الأرض، فالأربع كلمات التي تؤلف تاريخ الوزير تكفي لتأليف مثل هذا التاريخ دون أن يفوتنا منه شيء كثير. ولو شاء كارليل أن يختصر لقال مع الوزير عن الإفرنسيس: «قد تنفسوا فتنافسوا فعرقوا فماتوا» ولكن في الأمة الإفرنسية ما لا يموت، في الأمة الإفرنسية من نتائج الثورة العظيمة ما تبقى آثاره بادية حية نامية في ترقي الأمم والناس.
بذور للزارعين
إن حسنة واحدة تأتيها، لخير من ليال بالصلاة تحييها.
إن الأمين - وإن كان كنودا - لخير من المدغل وإن كان هجودا.
Unknown page