الحب المادي إذا هو ضرب من الحمى التي يتلوها البرد والارتعاش، هو هوى ووله يتبعهما تثاؤب وقرف، هو دبيب نمل في الجلد إن أزاله الحك والفرك شهرا تخلفه القروح والأورام دهرا، وهذا هو الحب الذي ينتج الغيرة القاسية كالجحيم، على أن في كل مظاهر الطبع البشري وفي كل الانفعالات النفسانية لا شيء يماثل هذه العاطفة الحيوانية ويضاهيها إلا إذا استثنينا نهمة الكسب والإثراء في أبناء هذا الزمان، فالغيرة في نشوئها وتجسمها وفي هولها وفظاعتها هي أم العواطف الحيوانية المحضة التي تنقطع فيها المواصلة تماما بين قوة الإدراك والمجموع العصبي، هي العاطفة التي تحلل خرق وصية الله الخامسة تعزيزا لوصيته السادسة والشريعة اليوم تؤيد جانب الغيرة وتعفو عن صاحبها الذي يتمثل بقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ويعمل بموجبه في ساعات الظنون والجنون.
وكم من شاعر وقع في أشراكها! كم من عالم أخذ في أحابيلها! كم من كاهن تاه في ظلماتها وخسر نفسه في موبقاتها فعاد الأول وهو يصفها لنا وصفا بليغا! وجاءنا الثاني وهو يبحث في أسبابها وعلاتها ونتائجها وتصدى الثالث إلى الوعظ فنهى وحذر وتوعد وأنذر، ولكنها لم تزل اليوم كما كانت يوم كتب نشيد الإنشاد فهي تستحوذ على الشاعر والعالم والكاهن كما تستحوذ على الفلاح والنوتي وراعي الغنم، وكما استحوذت على سيدنا داود وابنه سليمان في غابر الزمان.
ومن الأمور المدهشة المحزنة هو أن العلم لا يلطف مفعولها ولا التهذيب يؤثر فيها تأثيرا حسنا ولا سمو العقل والإدراك يزيل شيئا منها. ففي المغرب بأسره قديما وحديثا لم يأتنا التاريخ بنبأ يسر من هذا القبيل ولا أذكر إلا حكيما واحدا انتابه مثل هذه النوبات العصبية بسبب نشوز امرأته وشرودها فملك ذاته وحكم عقله في الأمر لا قلبه وسرح المباركة تسريحا حسنا دون أن يعضلها فتزوجت - إذ ذاك - من أحبها وأحبته، والحكيم هو الكاتب الإنكليزي الشهير رسكن وقصته مع امرأته والمصور الذي استغواها مشهورة فبدل أن يسترسل في الغيرة والظنون والحقد والقلى؛ أصاخ إلى صوت الحكمة التي هو من أمرائها وفتح لامرأته الباب ولسان حاله يقول: اخرجي بسلام، اذهبي وعيشي وإياه متعكما الله وأملا لكما، ولكن رسكن من هذه الوجهة فرد منقطع النظير وعمله من الشواذات الجميلة التي تتمجد بها الحكمة وتود لو صارت قواعد شاملة مطردة.
وإن أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأسماهم إدراكا لتتغير أخلاقه ويذهب لبه سدى، فيفسد في الهيئة الاجتماعية ساعة تستعبده الغيرة، وقليلون في أوروبا وأميركا الذين لا يجترحون السيئات ويجنون الجنايات عندما تنتابهم هذه النوبات الدموية الخبيثة فتقذف بهم إلى ضفة أرض خيالية ليسمعوا هنالك أصوات أشباح الشرف والشهامة تحثهم على القتل وتطالبهم بالثأر والانتقام. ولا أظن هذه الأشباح سوى أشباح شرف وهمي وشهامة غير بشرية. إنها - والحق يقال - خيالات ذواتنا الحيوانية وقد هاجتها حمية جاهلية. والظاهر أن في كل منا كلبا كلبا يفلت من وجره بعض الأحيان فيخجلنا ويذلنا إن لم يمزقنا ويقتلنا، وقد أعرب الشاعر شكسبير عن شعور كل إنسان من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق إذ قال:
إني لأفضل أن أكون ضفدعا وأتغذى من أبخرة الأرض وعفونتها على أن أكون إنسانا وأبقي زاوية للغير في من أحبه.
فالفلاسفة يدعون الناس إلى الحكمة والتعقل، والمتشرعون يسنون الشرائع لردع الإنسان وكبح جماحه، والعلماء يحذرونه من الاسترسال في الأشياء ويحببون إليه الاعتدال، على أن ذلك كله لا يغني من الغيرة شيئا. اللص يزج في السجن جزاء عمله والقاتل من أجل ثروة أو مطمع دنيوي أو لداع ما غير داعي الغيرة يكبل بالحديد وتنصب له المشنقة فيحرم من حياته ولا أحد يرفع من أجله صوت الشفقة والحنان بيد أن القاتل غيرة ودفاعا عن شرفه وعرضه يقف أمام القضاة عزيزا كريما فتنسخ من أجله ما سن من الشرائع في ما مضى من الأجيال، وينسى المحكمون أنهم قضاة عدل وحق وإنصاف فيتساءلون ويذكرون، وما منهم إلا وله ابنة أو أخت أو أم أو امرأة.
ألم يجن هذه الجناية غيرة ودفاعا عن عرضه، بلى، إذا فليعفى عنه. كذلك تتعزز الوصية السادسة وتمتهن الخامسة التي هي أهم وأكبر، وإنه ليتعذر وجود عشرة رجال في أوروبا أو في أميركا يدعون «جوري» أو محكمين ليقتصوا من مثل هذا الجاني بحسب الشريعة الوضيعة وبموجب نص الأحكام الجزائية. ولا أذكر أن محاكم نويرك في مدة العشر سنين التي كنت أطالع فيها أخبار مثل هذه الدعاوي حكمت مرة على واحد من هؤلاء المجرمين بالإعدام، وكثيرون هم هناك وكثيرا ما كنت أطالع أخبارهم المؤلمة المزعجة حبا بدرس هذه العاهة في الطبع البشري، وأذكر أنني حضرت مرة محاكمة رجل أطلق الرصاص على قسيس هتك ستر امرأته وانتهك عرضها، فشكت المرأة القسيس لزوجها، وكان ما كان من إطلاق الزوج الرصاص على الباغي، ومن نشر الفصول الضافية في الحادثة في صحف الأخبار، وحضور المرافعات في الدعاوي الكبيرة في تلك البلاد مثل حضور الروايات التمثيلية، يسلي ويفيد.
Unknown page