حتى يراق على جوانبه الدم
فحبذا لو حذف هذا البيت من ديوان المتنبي حبذا لو عدل الشعراء والكتاب والخطباء عن التمثل به والعود إليه، حبذا لو أمعنا النظر قليلا في الأشعار التي نستشهد بها والحكم التي ننقلها، أيجب أن تكون شرائعنا الأدبية اليوم كشرائع أجدادنها الناقصة؟ أصحيح الشرف لا يسلم ولا يتعزز إلا إذا لطخ بدم بشري؟ إذا كان كذلك فأنا في غنى عن مثل هذا الشرف. إذا كنت لا أستطيع المحافظة على شرفي إلا بسفك الدماء فأنا لا أحافظ عليه خير لي أن أعيش مجردا عن ذاك الشرف الموهوم من أن يموت فرد من بني الإنسان بسببه.
فكر قليلا فيما أقوله، إن الشرف المتعارف عند الناس نصفه فقاقيع وأوهام ونصفه خيال وأحلام، ومعلوم أن فقاقيع الصابون كلما كبرت دنت ذراتها إلى الانحلال والخيالات كلما امتدت أشرفت على الزوال، فيجدر بنا أن لا ننفخ شرفنا فيزول أو نعكس عليه من الجانب نور الوهم فيمتد الخيال فنظن أنفسنا كبارا، وهناك حقيقة أخرى لا أكتمها القارئ وهي أن الشرف الذي يعتبره سكان القارات الشمالية مقدسا يعد عند سكان القارات الحارة أضغاث أحلام فالأوروبي أو الأميركي أو السوري الذي لا يدافع عن شرفه وعرضه في أية ظروف كانت يعد جبانا ويوصم بوصمة العار.
ولا يدفعه إلى ارتكاب الجريمة مدافعة عن عرضه وشرفه إلا الخوف من التعيير، الخوف من القيل والقال، الخوف من تقبيح الناس به واحتقارهم إياه، وهذا هو نفس الخيال الذي نخشاه، وكلما كبر الخيال ازداد خوفنا لا من الإثم فقط بل من الغضاضة والعار.
يقول ثقات المسافرين: إننا كلما قربنا من خط الاستواء قصرت الخيالات بسبب استقامة أشعة الشمس ففي جاوه مثلا يسير الغزال والأيل أو الأوروبي أو السوري في نصف النهار مطلق الحرية، لا يخجل من ظله أو يخشاه، على أنهم إذا توجهوا نحو الشمال تظهر هناك الظلال وتكبر الأوهام. وهناك البكاء على الشرف الملطخ بالدماء، هناك الخوف من الغضاضة والعار الموهوم، ومن القال والقيل، ومن ظلم الرأي العام وصولته.
نعم كلما تقدمنا شمالا ازداد الخيال طولا. والخوف من هذا الوحش المفترس؛ أي: الرأي العام، يشتد بقدر ما يمتد الخيال، هذا هو السر في المسألة، لا أكثر ولا أقل.
فالذي يخاف خياله إذا لا يلام إذا تمثل بقول المتنبي الذي افتتحت به هذه الملاحظات، وليعلم القارئ بأنني أسكن بعقلي بالقرب من خط الاستواء فلا خيال هناك أخشاه ولا اصطلاح يضطرني إلى تلطيخ شرفي بدماء بشرية فإن أراد مجاورتي ينبغي له أن ينبذ حكمة المتنبي ظهريا ويتمثل بحكمتي.
مكروب الغيرة
جاء في نشيد الأنشاد أن المحبة قوية كالموت والغيرة قاسية كالجحيم، على أن الحب الذي يولد مثل هذه الغيرة هو ناقص الجهاز فاسد الجوهر، هو حب ربلي عضلي لا تتصل جذوعه بتربة الروح الأزلية بل بسماء النفس الإلهية، وأن الحب الذي يصفه الحكيم والحب الذي يهز عامة الناس وخاصتهم لشرع من هذا القبيل، وأما الفارض وحبه السري وجلال الدين الرومي وحبه الإلهي ودانته وحبه السماوي فأمثال هؤلاء يعدون على الأصابع، ومع أننا نترنم بشعرهم فتسكرنا نشوة غرامهم فإن بين حياتنا وحياتهم شعابا ووهادا. من منا لا يقرأ ابن الفارض ولا يروي شيئا من شعره، كم منا يفهمه ويدرك كنه هيامه، ومن من الناس لا يختبر بنفسه صدق قول سليمان الحكيم عندما تستولي عليه الغيرة.
ولكن حين يتحقق ذلك تتجلى له حقيقة أخرى أقسى من الأولى وأشد وهي أن ساعة تخامر الغيرة القلب يأفن الحب ويذبل ويضمحل، فلا تكاد زهوره تنور في تلك الربلات الناعمة حتى تسوس جذوره في العضلات المستحجرة، لا أنكر أن البضعة المكتنزة لأطيب من البضعة المسترخية وأن الوجه الوسيم القسيم لأقرب إلى صورة الله من الجهم الدميم، ولكن في الحالين الساق المجدول يبجبج ويزول وحسن الوجوه حال يحول.
Unknown page