358

كنت أصيل ذاك النهار أتمشى وصديق لي في أحد شوارع المدينة، فمررنا بمطعم صفت في شباكه أنواع الخبز والكعك والحلويات، فوقفت أمام الزجاج الحائل دوني وتلك الجنة ناسيا ذاتي أتمثل في نفسي ولدا فقيرا جائعا لا فلس في يده يفثأ به سورة جوعه. اخترقت الزجاج عيناي وما فيهما من نهمة إلى الأكل، فتحلب اللعاب في فمي، فغصصت بمر مذاقه، ثم غصصت هذا وأنا لا أشعر حقا بمضض في الألم في معدة فارغة وقلب يقتر شواء، لأني أجوع مختارا، والمسكين الذي صورته أمامي، بل أمام تلك المآكل المصفوفة وراء الزجاج، يجوع مكرها. إن جوعي ينتهي ساعة أريد، وأما جوعه فلا يزول إلا ساعة يتصدق عليه أحد المحسنين. ألا إن حالة اجتماعية توجد مثل هذا المسكين الجائع لحالة ذميمة، منكرة، فاسدة ، جهنمية. وإذا كانت كذلك فكيف بها والمسئولون عنها يجوعون عمدا أمة بأسرها؟

لقد شاركتك جوعك يا أخي فتعال أقاسمك كسرتي، عله تعالى يبعدني من ذي الحاجة والاستجداء الذي هو أشد ويلا من مضض الألم الذي يولده الجوع. ألا فليردد كل سوري هذا الكلام، هذا الابتهال. وليتمثل حول مائدته الفاخرة صبيا فقيرا عضه الجوع، أنهكه، أقعده، أضناه، أورثه الهزال والخبل، فيسارع إلى إغاثته.

من غريب أمر الصوم أن صاحبه لا يشعر بالجوع إلا في الساعات التي اعتاد أن يأكل فيها. فإني بعد أن نمت الساعة العاشرة استفقت نصف الليل ولا أثر في نفسي للصوم كأني قضيت البارح وقد أكلت - على عادتي - ثلاث مرات.

ولكني نهضت صباح اليوم الثاني وفي ساعة الفطور نهمة إلى الأكل. هذا - ولا شك - من قبيل العادة. على أن مظاهر الجوع ازدادت نوعا وشدة. فتحت فمي فإذا به كالقطن جفافا. بلعت ما تحلب من رضابي إذ مررت بركوة القهوة فإذا به أمر من الحنظل. نظرت إلى لساني فإذا به أبيض كالحليب. لمسته بإصبعي فإذا به كعباءة الراهب خشونة. أما أذناي فازدادتا طنينا، وأحسست أن رأسي جسم غريب ركب مؤقتا بين كتفي. نزلت الدرج وعدت إلى غرفتي فانتابني نوبة من الارتعاش شديدة أقعدتني بضع دقائق وأنا أرتجف حتى أطرافي. وكنت أثناء ذلك أحس بموجات حارة تتماوج في داخلي - وبالأخص في جوار المعدة.

فقلت في نفسي قد عضك الجوع يا رجل، قد دنوت من إخوانك في الوطن. نعم بدأت في اليوم الثاني أشعر بالجوع وأتألم من شعوري. كيف لا وهذا الضعف في رجلي - وبالأخص في مفاصلي وركبتي - إنما هو احتجاج المعدة على صاحبها، بل على باريها، بل على من في أيديهم خزائن الأرض، المسئولين عن توزيع خيرات الدنيا على عباد الله.

مررت بركوة القهوة ثانية فوقفت أمامها راغبا مترددا. ثم امتنعت لأني آليت على نفسي أن أصوم يومين كاملين. وفي البيت المقيم فيه أناس في الدور الأسفل يطبخون طعامهم فتتصاعد أحيانا روائح المطبوخات فتسطع في منزلي وتزعجني جدا. ولكن اليوم يوم الصوم والجوع. وإن امرأ يقتر شواء يتصاعد صوت نشيشه من فوق النار إلى منزلي لأحب عندي من مطرب أو مطربة. وإن روائح الشواء. والأبازير في أنفي لألذ من روائح المسك والبخور.

ولت ساعة الفطور وولى معها مضض الجوع ولا غرو، فإن للعادة حتى في الأكل - كما قلت - تأثيرا شديدا. إذ ما السبب يا ترى في رغبتي بالطعام ساعة اعتدنا الأكل وفي نسيانه بل الرغبة عنه في سواها؟ أما الفكر مني ففي اليوم الأول من صومي كان لا يزال رائقا صافيا، ولكنه في اليوم الثاني أصبح خاسئا حسيرا.

ومن غريب أمر الصوم أيضا أن الذي يصوم يومين يستطيع أن يصوم خمسة بل عشرة وصالا. في مساء اليوم الثاني لم أشعر بشهوة إلى الأكل شديدة كمساء اليوم الأول. وقد قرأت أخبار أناس صاموا أسبوعين وثلاثة دون أن يتعطل فيهم عضو من أعضائهم الحيوية كالكبد أو الكليتين أو الرئة أو القلب. ومعلوم أن الأقدمين كانوا يكثرون من الصوم والتنحس. فقد قال ابن خلدون: وقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا.

على أنه لا ينكر أن الصوم أياما وصالا يفقد المرء قواه الجسدية والعقلية. فإن العضلات والأعصاب لتتقلص وتذوب من الاقتيات مما كونت منه، وإن العقل ليخسأ ويمرض من تشرب دم لا غذاء فيه. وبكلمة أخرى: إن الصائم طويلا، الطاوي أياما؛ يعيش على لحمه ودمه، يأكل بالحقيقة نفسه. نعم إخواني، إن الجائع يعيش على لحمه ودمه، والجائع كرها يقاسي من مضض الذل - ذل الحاجة وذل الطلب - ما هو أشد من مضض الجوع.

كتبت مرة نبذة أنتقد فيها بعض التعابير العربية التي نرددها نحن الكتاب وقلما نتحقق معناها. من جملتها قولنا: «الجوع المدقع» فاستغربت إذ عدت إلى القاموس النعت وقلت إن لا أحد يجوع جوعا يلصقه بالدقعاء - أي: التراب - إذ مهما اشتدت سورة الجوع لا تبلغ درجة يصح أن ننعتها بالدقوع.

Unknown page