254

إن لبنان في الدور الماضي كان أحسن في نظري مما هو اليوم؛ لأن حالته وإن كانت سيئة كانت حقيقية، كان واقفا أمام الله والناس بخلق أطماره، كنا نعرف عبيد بكركي من عبيد الحكومة، كنا نعرف الرجل الحر الصادق إذا شاهدناه بين الألوف من الناس، ومن أين لنا أن نعرفه اليوم وبياع البصل أصبح من الأحرار فصار يجتمع وسيده الأمير في ناد واحد؟ لا يا سيدي عبثا ترقعون أطمار شيخنا المسكين، وعبثا تدهنون رجله المشلولة بزيت الجمعيات، فإن هذا الزيت الذي نفاخر به اليوم لا يفرق كثيرا عن زيت مار دومط، والحق يقال إن الجمعيات في البلاد لا تستطيع أن تعمل عملا كبيرا مفيدا إلا إذا اتحدت كلها تحت رئاسة رجل واحد، وعملت كلها ولو شهرا واحدا - كما قلت - لغرض وطني واحد. فالنهضة الوطنية وإن كان وراءها مال البلاد كله، وخيرة رجال الوطن كلهم؛ لا تصل إلى غايتها، ولا تفلح بمسعاها، إن لم يكن لها زعيم عظيم، إن لم يكن في طليعة أبطالها قائد قوي، تقي، ذو بصيرة وجرأة وضمير وإقدام.

روح الثورة1

أيها السادة والسيدات

كنت منذ أسبوعين في الكورة فتحققت ما طالما سمعناه بطرق الانتخابات في لبنان وبالأخص في ذاك القضاء، حدثت الوجيه هناك والكاهن والفلاح فأدهشني من الكل جهرهم بما هم فيه من المفاسد السياسية جهرا لا يقيده أدب ولا حياء.

يرشون ويرتشون ولا يخشون أمرا، بل يفاخر الفريق منهم أن زعيمهم يبذل الأموال الطائلة في سبيل انتخابه ويضربون الأمثال تزكية واستبراء. وما سمعنا قبل اليوم بقوم يقترفون المآثم المدنية ويبرئون أنفسهم بالأمثال السائرة. حدثت كاهنا في إحدى القرى فقال مجيزا أعمال المرشحين: «اللي بدو يعمل جمال لازم يعلي باب داره.» وحدثت فلاحا فقال مدافعا عن صاحبه: «زعيمنا رجل الشعب، ومحبوب من الشعب، زعيمنا عدو المشايخ.»

فقلت: «ولكني سمعت أن بلغ من أمر زعيمكم أنه اشترى المندوب من الشعب بخمسين ليرة.» - وأكثر يا سيدي. - وأنه بذل ثلاثة آلاف ليرة في انتخابه. - وأكثر يا سيدي. - وقد قلت لي: إن الشعب يحبه كثيرا وينصره. - هذا مؤكد يا سيدي. - فيا للعجب إذا كان الشعب يحبه وينصره وقد كلفه إلى بذل ثلاثة آلاف ليرة، فكم يضطر المرشح المسكين أن يبذل من المال يا ترى لو كان الشعب يبغضه ويناهضه؟ - أوه، شيء كثير، شيء كثير.

قال هذا وهو يلف سيكارته ولم يبال بما قال، كأن الرشوة عنده مثل فلاحة الأرض أمر لازم لا بد منه.

ثم سألته قائلا: ألا تعلم يا رجل أن الرشوة ذنب قصاصه الحبس؟

فأجاب الفلاح الذكي: «على رأسي يا سيدي، ولكن فرجيني الحبس بالأول والحكومة اللي بتقدر تحبسني.»

فقلت في نفسي كأن هذا الفلاح قرأ السياسة على أستاذ أوروبي، الحق للقوة، إن كان في برلين أو في الكوره، ولئن أحزنني استهتاره وتحجر ضميره فقد سرني منه طعنه الحكومة اللبنانية هذه الطعنة النجلاء. ولم أتمالك أن سألته سؤالا آخر، وكان قد عمد إلى محراسه ليستأنف عمله، فقلت: إذا كنت لا تنصر زعيمك الذي تحبه كثيرا إلا إذا رشاك فما الفضل في حبك؟

Unknown page