إن نظر الغزالي في الوحي الإلهي كنظر القديس أغسطينوس بعينه، وقد أوتي كل منهما بلاغة جلت الحق تارة وطورا بهرجت الضلال، فهما على السواء يحصران الوحي في حادث خطير، منقطع النظير، يخرق نواميس الكون المألوفة، فيتجلى فيه الله لواحد من الناس يدعى رسولا أو نبيا، ولكنهما يختلفان في إثبات الحادث وفي من خص بالتجلي وبالوحي. والقديس أوغسطينوس من هذا القبيل أشد نزعة إلى التخصيص من الغزالي، وهو إلى قبول العقائد الدينية أسرع منه إلى نفيها أو تمحيصها، ولو أتيح للاثنين أن يجتمعا في هذا العالم لتناقشا وتنازعا وظل كل في وحدته الروحية بعيدا من الآخر، وإني لأتصورهما في الجنة أو الفردوس أو في ما يلي هذه الحياة من نعيم أبدي، على وفاق تام، وصفاء لا تعد فيه الأيام، يردد كل منهما من حين إلى حين، مذكرا لا آسفا، ما طالما ردده في الحياة الدنيا.
فيقول القديس أوغسطينوس: أشعلت نفسي لأنير هيكل الدين وطريق الإنسان، ولكن علم الكلام لا يصلح النفس ولا يعزز الدين.
ويقول الغزالي:
غزلت لهم غزلا دقيقا فلم أجد
لغزلي نساجا فكسرت مغزلي
اللهم إذا كانا يذكران العالم الذي اختلفا فيه مذهبا واتفقا مسلكا، وقبل أن أتوسع في التنظير بينهما أقول كلمة في النظرية الكبرى التي هي أساس الأديان كلها - النظرية التي يتفق القديس أغسطينوس والغزالي في القسم الأول منها ويختلفان في القسم الأخير، أي: أنهما يؤمنان بالوحي الإلهي ولا يؤمنان بكل من ادعاه من نوابغ الأمم.
2
إن الله جوهر أزلي سرمدي ينبعث منه جوهر الحياة التي تظهر في الأرض أنواعا وأشكالا فتتدرج إلى الإنسان وإلى ما فيه من عقل وضمير وإدراك تميزه عن الحيوان، وإذا أوحي إلينا أمر ما ولم يقبل الوحي كل الناس، فمن هو المسئول يا ترى؟ أفلا يجوز التنظير بين الجوهر الأزلي الإلهي ومظاهره في الحياة الموزعة المقسمة في الناس؟ أولا ينبغي أن يكون لما نشأ عن الجوهر الأصلي جاذب قوي فيه؟ وبعبارة أجلى، إذا تكلم الله - عز وجل - بلغة من لغات الأمم أفلا يكون كلامه مقبولا معتبرا بل مقدسا عند كل من تكلم في الأقل بتلك اللغة؟ واختيارا ذلك لا كرها وإن لم يكن كذلك فما الفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق؟
إذا أنا أبديت رأيا فمن المستحيل أن يستحسنه الناس أجمعون؛ وذلك لأنني لست إلا بشرا، وأن ما في من الجوهر الأزلي الإلهي لقليل جدا بالنسبة إلى ما هو متوزع في العالم، ولكن مصدر هذا الجوهر يفوق كل ما نشأ عنه وتوزع منه؛ لذلك نقول ونتيقن أن الله عالم بكل شيء، وقادر على كل شيء، وناظر كل شيء. عنده علم الغيب وبيده زمام الحياة والأكوان فإذا أوحى إلينا من لدنه سنة ما فمن الضرورة أن تنطبق على حقيقة الأشياء الدائمة الأزلية فلا تقبل تلك السنة التغيير والتبديل وأن ما ينافي سنن الكون لا يمكن أن يكون منزلا من عند الله.
على أن وحيه - سبحانه تعالى - إلى من خص من الناس بجزء كبير من ألوهيته يكون دائما متقطعا، وغالبا غامضا؛ لذلك تناقضت الآيات في الكتب المقدسة وتضاربت فيها الآراء ، وأنا من الذين يجلون النوابغ ويقدسون الأنبياء، ولكني لا أستطيع أن أقبل رسالتهم كلها بحذافيرها.
Unknown page