220

لا حكم إلا لله، يحق لي أن أقول هذا القول متى كانت سنة الله ثابتة في، سائدة علي، آخذة بمجامع قلبي وعقلي، مشترعة لنفسي، مقضية في أعمالي أبدا وأقوالي. وما هي سنة الله؟ في كتب الدين نجدها، وفي كتب العلم، في سفر التكوين، وفي سفر الفيزيولوجيا، في علم الصحة، وفي علم الأدب، في نذر الأنبياء، وفي نصح العلماء نجدها، في النملة وفي الأفلاك وفي الإنسان نجدها، على أن هذا ليس من مبحثي الآن.

ومثل ما قال الخوارج في صدر الإسلام: لا حكم إلا لله، يقول المصلحون في أروبا اليوم لا حكم إلا للجماعات، ويالها من جولة أسمعتنا نعيق الزعماء في الأرض بعد أن أرتنا قبسا من الإنسان في السماء. وإني لأجد في هذا السقوط من العلويات الإلهية إلى حضيض الجماعات شيئا من التقدم والتحسين في الأحكام، اللهم إذا كانت أنفس الزعماء والمصلحين كأنفس الخلفاء الراشدين وأمثالهم . على أن ما قلته في الخوارج يصح نوعا في الجماعات، بل قد يكون الصلاح والأمانة والإخلاص في زعماء الجماعات أقل جدا مما كان منها في زعماء الخوارج، ولكن الأحوال التي تكتنف الجماعات اليوم وتتكيف في حياتهم تكثر فيها وسائط التهذيب والتربية، وإذا كانوا غير أهل لأن يقولوا اليوم كلمتهم المشهورة ويتخذوها شعارهم، فهم أهل لذلك غدا. أجل إن يومهم لآت وإنه على الممالك العظيمة الأثيمة ليوم شديد عصيب.

الملك يضعف بالنسبة إلى ازدياد عدد الأفراد الأقوياء الأمناء في الجماعات، أولئك الذين يزدادون قوة من باطن حالهم، من أعمالهم، من حريتهم، من صلاحهم، فيحررون أنفسهم ولا يكون في ذلك شيء من الفضل لأحد من الناس سواهم، أولئك الذين يرفعون ذاتيتهم الروحانية الأدبية فوق كل سلطة مادية تحاول قتلها أو إيقاف نموها. أولئك الصالحون المتمردون كلما ازداد عددهم في العالم ضعفت الممالك الطاحنة وتقلصت رويدا رويدا أظلالها المهلكة.

وهذا ما يثبتني في اعتقادي أن المستقبل إنما هو للحكومات الصغيرة، الكبيرة في عدلها ونزاهة ولاتها، للمالك الحقيرة القويمة المنهاج، لا لتلك العظيمة الأثيمة. ولا يدهشنك قوي أن الحكومات المحلية المستقلة كل الاستقلال، بل الحكومات المدنية المركزية هي التي لا بد للأجيال الجديدة المستقبلة منها، وإني لمؤكد أن مدنية المستقبل إنما هي تلك التي تكون حكوماتها منها وفيها ولها على الإطلاق، وتكون صغيرة محدودة لا أطماع سياسية لها ولا دولية، حكومة محدودة إلا في صلاحها، حكومة صغيرة إلا في عدلها، حكومة أدبية روحية لا أثرة فيها لغير الحق، ولا سيادة فيها لغير الأمانة والسلام، حكومة أساسها هذه الكلمات: إنما الحكومة للرعية لا الرعية للحكومة.

وهذه في مدنية المستقبل حكومة المستقبل، وهي كائنة اليوم جنينا في الشعوب الصغيرة وفي الجماعات، هي كائنة وكل كائن آت، هي آتية وكل آت قريب، فادع إليها الناس وبشر بها الناس.

الصوم

للصوم أسباب صحية واقتصادية ودينية، منها طبيعة الإقليم، والقحط في الأحايين، والأدواء التي تتفشى دائما في الربيع. والغاية من جعله طريقة دينية هي - ولا شك - تعميم فوائده، فالناس في الماضي لم يكونوا ليعرفوا من المفيد والمضر إلا ما أوجبه الدين أو أجازه أو أبطله، لذلك أدخل الحكماء والمتشرعون الصوم في الأصول الدينية، والوثنيون أول من فعلوا ذلك ، ومن المعلوم أن قواعد الدين وأصوله مبنية كلها على مبدأ الثواب والعقاب، على جنة وجحيم في غير هذا العالم، ومعلوم أن كل عمل يعمله المرء إنما جزاؤه منه وفيه، فإذا عمله لغير ما فيه من الفائدة الناشئة عنه يمسي تقليدا مضرا فاسدا.

أذكر أني قرأت عن إحدى قبائل الهند أنها كانت تصوم صوما طويلا مضنكا فكان العدو - عدوها - يغتنم هذه الفرصة فيغزوها بعد صومها ويتغلب عليها. إن مثل هذا الجهل، ومثل هذه المبالغة في إماتة النفس وإنكار الذات، ليفسد في الصوم غايته الأصلية الأولى.

وفي قواعد الأزدرشتيين على المجوسي أن يصوم بل يطوي بضعة أيام في الربيع، وكل على طاقته، وهم لا يزالون مثابرين على الصوم ومنهم من يسعى لنشر هذا المذهب في أميركا اليوم، ويدعى دينهم المجوسي الجديد «مازده» وهو دين فلسفي إلهي. وقد اجتمعت هنالك ببعض المزديين وطويت على طريقتهم بضعة أيام في الربيع فرأيت في العادة فائدة كبرى فاتبعتها، ومن الأميركيين أنفسهم من يطوون عشرين وثلاثين يوما، وقد قال ابن خلدون إنه يعرف، أو إنه سمع ممن يعرفون، أناسا يطوون أربعين يوما وما يزيد.

أما التنحس - أي: الانقطاع عن اللحم - في الصوم فأصل الطريقة من الهند، ونذكر أن أبا العلاء المعري اتهم بدين البراهمة لتنحسه أربعين عاما، وفي أوروبا وأميركا اليوم طائفة كبيرة من المتنحسين، وفي لندن وباريس وبرلين مطاعم مآكلها كلها من البقولات والخضر والحبوب مطبوخة وغير مطبوخة.

Unknown page