218

الثورة الحقيقية

أنا عربي شرقي ثوروي، عربي اللسان، شرقي الروح، ثوروي المبدأ. عربي لا يكره الترك، وشرقي لا يزدري الغرب، وثوروي تهمه الكعبة مثلا أكثر مما يهمه الدستور. أنا ثوروي روحي وإخواني - وإن قل عددهم - كثيرون، وسلاحنا من الله لا من معامل أوروبا، سلاحنا كلمة نقولها، رأي نبديه، بذرة نزرعها في قلوب الناس.

أنا عربي جنسيتي على لساني وفي وجهي وطي أضلعي ، أنا عربي، رمل البادية عزيز عندي كدم أبنائها وسيئات العرب أجمل في نظري من حسنات عبيد التمدن، أنا عربي، ماضي بلادي حي في فؤادي ومستقبلها نور من أنوار إيماني ، وإن قيل: حلم هو فنعم الحلم أحلمه صباح مساء عند إشراق الشمس وعند غروبها، وقد يحلمه في نومهم سواي من أبناء العرب فينسون أنهم يحلمون مثل هذا الحلم الجميل أو أنهم يتناسون فيموهون.

أنا عربي أحلم بإحياء مجد العرب - في ظل الدستور كان أو في ظل أعدائه - لا فرق عندي، وما الدستور وما الحكومة سوى آلات في يد علوية لا ترى، فإذا انكسرت الآلة مثلا أو تعطلت يجددها صانعها اليوم ويستأنف العمل غدا، ومتى نورت أشعة الشمس زهرا، وأثمرت روائح الربيع ثمارا، واستحال رمل البادية تبرا، وظلمة أديانها نورا، وخيام أبنائها قصورا؛ قل صح حلم حلمناه وتحققت آمال علم علمناه وعلمناه، ونحن في زمن عجيب تصح فيه أكثر أحلامه، وتنبئنا لياليه بغرائب أيامه.

في شمس البادية ورمالها شيء من مجد الأجداد لا يموت، وفي روح الزمان السامية علم لا تصد تياره الصحاري ولا تتجهمه الجبال، وعندما يقرن الله بين هذا الذي لا يصد وذاك الذي لا يموت - بين العلم الصحيح وهمة العرب الشماء - قل صح حلم صوره العقل والخيال ونفخت فيه الحقيقة نسمة الحياة والجمال.

أنا ثوروي أوقف حياتي لثورة سلمية حقيقية لا لثورة كاذبة سياسية، أدعو الناس إلى ثورة أفكار وأخلاق وآداب وأديان، أقول وحقا ما أقول: إن إصلاح الشرق والشرقيين يتوقف على مقدمتين جوهريتين بدونهما تظل نهضاتنا مناهضات غايتها السيادة والإثراء، وينحصر إصلاحنا في تغيير الثياب والأعلام والأسماء.

إن في تصفية الدين وفي التفريق بينه وبين السياسة مقدمتين جوهريتين للإصلاح الحقيقي الذي يبتدئ في وفيك أيها القارئ، ويتدرج إلى سوانا، إلى أولياء الأمر فينا، إلى رؤسائنا وحكامنا. أصلحوا الحياة في البيت وفي المدارس وفي المعابد تصلح الحكومة، ليصلح كل فرد نفسه فيصلح المجموع. قلت هذا مرارا، وسأقوله دائما في مثل هذا الموضوع.

أنا عربي حر، وليست حريتي من فضل الدستور ولا من مكارم إخواني الأتراك، حريتي من الله، وإذا فقدتها فأنا المسئول في ذلك لا الحكومة. ومتى بدأ الشرقي يشعر أن حريته من الله لا من الحكام والرؤساء ، وأن دينه لله ولا شأن فيه للعلماء، والمتنطعين؛ بشر الشرق إذ ذاك بنهضة اجتماعية حقيقية عظيمة.

لست بناكر أن في الشرق اليوم نهضة فكرية بدت آثارها في أطرافه وفي أواسطه في اليابان وفي الهند والصين وفي بلاد العرب، ولكنها مادية سياسية ولدتها تجارة الغربيين وشيدت أطماعهم معالمها. بل هي نهضة نرى للأوروبيين فيها اليد الطولى فهم القابضون على زمامها، وهم أسياد زعمائها، ومع ذلك نرى فيها ثمرة قد يجنيها أبناء البلاد إذا أصلحوا أخلاقهم ونبذوا ربقة المتنطعين من رجال الدين، والمستأثرين من الحكام، والمشعوذين من السياسيين، ونهضوا مسلحين بحرية حقيقية هي منحة الله لا منحة الدستور. أما هذه الثورات السياسية التي يضرم نارها أصحاب الأطماع والسيادة ويشن غاراتها ذوو الزعامة الدينية؛ فلا خير فيها لأحد من الناس.

هذه ثورة اليمن مثلا، فهي مهلكة للترك وللعرب، هي ثورة أحقاد جنسية وأغراض سياسية، فريق فيها سلاحه الأثرة وفريق سلاحه الجهل، نرى الأتراك فيها يضربون أعناق البدو بسيف الحرية، ويحشون أمعاءهم بقنابل المساواة، ونرى العرب وزعماءهم حاملين على الدستور باسم الخلافة والدين، فأين العدل إذا في سياسة الترك وأين العقل في ثورة العرب؟ لا - وربي - إن الحق في هذه الفتنة محتجب احتجاب الشمس إبان الزوابع والأعاصير، ومهما كانت نتيجتها فلا يستقيم الأمر ويمهد سبيل الثورة الحقيقية - أو بالحري الانقلاب العظيم - إلا إذا أصلح الترك سياستهم وفهم العرب دينهم.

Unknown page