هذي آثار العرب وقد أمست عروشا لربة النسيان، ومدفنا لمجد الزمان، وظلالا تجلب الأحزان، وعبرة بليغة للإنسان، وهي، وإن كانت كذلك، بهجة للناظرين، ومصدر وحي لأرباب الفنون والمتفننين، ولكن الذكرى، فيا لله من ذكرى تقبض على النفس فتجعلها كالجماد، لله من آثار تبتهج لمرآها العين فيذوب لمعناها الفؤاد، لله من بلد تغنت بمكارمه كل بلاد، لله من عزك يا بن أمية، ومن مجدك يا بن عباد، أي عبد الرحمن والمنصور والمعتمد، من شادوا معاهد العلم والدين. لقد طالما اهتزت النفس لذكر مآثركم وطالما وقفت العين شغفا عند أسمائكم في التاريخ. ولقد طالما تاقت النفس مني والعين إلى مشاهدة ما تبقى من تلك الآثار المجيدة، وها قد استجيبت طلبتي وتحقق أكبر آمالي، فقد وطأت أرضا عطرتها شمائل العرب، وجلت بلادا عمرتها همم العرب، ووقفت أمام عروش هدمتها عصبية العرب.
سررت أني فزت بمهرب من العيد، فرحت كالهائم أنشد تحف النسيان، بل مخبئات الزمان، وما البادي من أثر غير غلاف لكنز مكنون، يستخرجه العلم، وتجلوه الفنون، فمن قصر إلى برج، ومن برج إلى طلل، ومن طلل إلى متحف، سرت كالهائم الولهان، نسيت العيد في القريب البعيد من الماضي المجيد. فمن ال «هرلدا» أي: المئذنة التي شادها المهندس جابر للخليفة يوسف بن يعقوب، إلى برج الذهب الذي شاده ابن العلاء على ضفة وادي الكبير، ومن البرج إلى القصر الذي لم يزل فيه زاوية عامرة يقيم فيها ملك الإسبان عندما يؤم إشبيلية.
ومن القصر إلى المتحف، وفيه من آثار الفنون والعلم ما يدهش حتى أربابها، هذه أبواب خلاص من الأعياد ... ولكن الفرح بالخلاص لا يلبث أن يزول، فيحل محله كآبة شديدة الوقع تكاد تشابه حزن الحبيب في فراق الحبيب، وفي مشاهدة الطلول والآثار يسترسل المرء الرقيق الشعور إلى مثل هذه العواصف، وقد كمن فيها شبه سرور لا يصانع فيه، ومتى تكاثرت الأحزان واشتدت يقام لها عيد في القلب، فيضحك صاحبها وهو يبكي، ويردد الألحان وهو ينوح.
وقفت في تلك المئذنة القائمة إلى جانب كاتدرائية إشبيليا وهي أعظم كنيسة في أوروبا خلا كنيسة القديس بطرس في رومية فانكشفت تحت عيني مدينة هي شرقية بل غربية في سطوحها البيضاء، وجاداتها العوجاء، وعرصاتها الخضراء، ومصاطبها الحافلة بالفل والقرنفل والمردكوش، وأهلها السائرون في الأسواق كأن لا شغل لهم غير شم النسيم وقطف الزهور، فتراءى لي العيد ثانية كأنه يقول، لا مهرب لك مني وأنت في هذه البلاد، فحولت نظري إلى القصر وبستانه الفسيح الجميل، ثم إلى البرج على ضفة نهر الكبير، فساح بي الفكر إلى الشام، إلى الكوفة، إلى الحجاز، إلى الحرمين، جالت بي الأحلام فأدنتني من مجد العرب الغابر بل مثلته حيا أمامي.
عرب الأندلس، عرب الشام، عرب بغداد، عرب الهند، أيعرف بعضهم بعضا اليوم إذا اجتمعوا في نجد مثلا أو في الحجاز؟ وأي صلة تصل بين بني عباد في أوج مجدهم وبني أمية، وبين بني العباس، وبين ببر المغول، بل أي صلة تصلهم كلهم بعرب الجزيرة؟ وأية من تلك الدول العظيمة الهائلة يدرك سرها اليوم في اليمن مثلا، وتحترم شارتها، ويؤمل بتجديد عزها؟ أليس للعرب ما يظهر من الفكر نيرا إلا إذا احتك بأفكار بعيدة غريبة؟ أولا يثمر النبوغ العربي إلا إذا لقح بنبوغ أجبني؟ هل الفضل أو جله ببغداد للبرامكة، وبالشام وبيزنطة للرومان، وبالأندلس للفرنجة، وبسمرقند للعجم، وبكشمير للهنود؟ فما السبب إذا في مجد شاده أولئك العرب الأماجد خارج الجزيرة؟ وما السبب في قصر عهده واضمحلاله؟
2
زرت الأندلس حاجا، لا باحثا منقبا، وعدت منها وفي نفسي بهجة من شاهد أجمل ما في الآثار، وحدث أفضل من في الديار، ولا فخر في ما أقول، إنما هي الصدف إن شئت أن تدعوها كذلك، أو الجواذب النفسية إن كنت تعتقد بغير الجاذب الكائن في الأثير. وهاك القصة.
بعد أن شاهدت ما في إشبيليا من الآثار العربية والإفرنجية أيضا، وأصبحت في محشر من الأعياد، قلت في نفسي: الهرب رأس الحكمة. فسافرت إلى غرناطة، قاعدة الدنيا في ذلك الزمان، وحاضرة السلطان، وقبة العدل والإحسان، وأقمت في القصبة الحمراء أسبوعا وددت لو كان أشهرا، وكان قصدي أن أقيم ثلاثة أسابيع، لولا دف العيد وزمره.
فقد صدف أن زيارتي كانت في الربيع ولم يكن أهل غرناطة ليقيموا بعد مهرجان أيار، عيد الأندلس العظيم، وهو شبيه بعيد النيروز عند العجم والعرب، وقد يكون أخذ عنهم، وكنت شاهدت في إشبيليا فاتحة ذا المهرجان الذي يدوم شهرا كاملا، وهربت منه كما قلت، ولكن الويل للهاربين، فها إنه لحقني بخيله ورجله، بخيامه ونوباته ومشعوذيه، بأعلامه وراقصاته وأغانيه، وما كنت من النادمين أنتفع بالتجارب المكربة فأسد بالقطن إذني وأعتصم بالقصبة، بل هربت ثانية، تركت الحمراء وقصورها، وحيطانها الحافلة بجيد الشعر في مدح ملوكها، وذكر مجالسها، ووصف جناتها وبركاتها:
أعجب شيء حادث أو قديم
Unknown page