وأما إذا وضع حجر زاوية هذه المدرسة عند حد خطوط «السكة» فلا بأس بالاثنين، وإذا كان ذوو الأمر يعاملونا مثلما كان أحد الأمراء الأشحاء يعامل ذويه فيقول لهم: اليوم تأكلون إما لحما وإما عنبا اختاروا أحد الاثنين فجوابنا حاضر «أمسكوا علينا البخار والكهرباء الآن وأسسوا لنا المدارس الوطنية، دعونا نسافر كما كان يسافر أجدادنا ولو فترة أخرى من الزمن، حكيم على حمار خير من حمار في السكة.»
لنعد الآن إلى الوصية فقد جاء فيها: «ولزيادة الإيضاح أقول إن دولتكم العلية إذا لم يكن لها قوة إنكلترا البحرية وقوة فرنسا العلمية وقوة روسيا العسكرية؛ فلا يمكن سلامتها.»
فقوة فرنسا العلمية تكون لنا في مستقبل الزمن إذا تأسست في المملكة اليوم المدارس العمومية الوطنية المجانية الإجبارية، وامتنع فيها تعليم الأديان لنتخلص رويدا رويدا من التعصب الديني الذميم الذي لم يزل ينخر في عظام العظام والمستنيرين منا. وتأسس من الجامعات الدينية المتعددة جامعة وطنية عثمانية واحدة، عندئذ يصير لنا وطن ننتمي إليه وتمد من العلم قوة تساعدنا على إدخال الترقيات الحديثة إلى بلادنا بواسطة شركات وطنية لا شركات أجنبية، فتعزز إذ ذاك الدولة ماديا وأدبيا، ونتمكن قليلا قليلا من مساواة الروسية بجنديتها وإنكلترا ببحريتها.
قلنا: إن التعصب الديني الذميم لم يزل ينخر في عظام العظام والمستنيرين من العثمانيين، وإليك برهانا على ذلك من نفس هذه الوصية، فإن صاحبها على ما هو عليه من سعة الاختبار وغزارة العلم ورجاحة العقل يظل متمسكا بما يدعيه «أغلاط أجدادنا الغير مقصودة» وينسى مرارا تلك النفس الراقية فيه، فترينا نفسه الفطرية ما يحاول أن يخفيه، فقد جاء في كلامه عن الدين الإسلامي والدين المسيحي (وليته لم يطرق هذا الباب) ما يلي:
ومهما بلغ عدد الزاعمين بأن الدين الإسلامي هو الحاجز دون ترقي هيئتنا الاجتماعية فإنهم جميعهم في خطأ عظيم وضلال مبين ...
فالدين الإسلامي لتجرده عن قواعد سر الثالوث والعصمة قد رافق مجرى الترقيات الكونية.
ولسنا نحن من الزاعمين بأن الدين الإسلامي هو الحاجز دون ترقي الأمة، ولكننا من الزاعمين بأن السفسطة تستولي حتى على عقول الوزراء والشعوذة أبدا تستهويهم، فإذا كان سر الثالوث يؤخر في ترقي الأمة ويضر في صالح الحكومة وجب أن تكون حكومتنا العثمانية أرقى بدرجات من الحكومات المسيحية لتجرد دينها الرسمي عن هذه الأسرار، وإذا كان الدين الإسلامي قد رافق مجرى الترقيات الكونية كما يزعم صاحب الوصية فلم لا نرى لهذه الترقيات أثرا في دولتنا العلية؟ لا والله إننا نحترم بعض السياسيين، ولكننا لا نأمن أحدا منهم، فإنهم دائما يؤثرون الحقيقة الوقتية الزائلة على الحقيقة الدائمة الأبدية، وإذا كان الفرق بين الاثنتين غير باد للقارئ اللبيب فبكلمة أبسط نقول : إن السياسي يستخرج دائما من ظروف الأحوال شيئا من الحكمة السطحية ويدمغها بدمغة الحقيقة السامية، ولولا ذلك لخلت أقوال فؤاد باشا من التعصب والتناقض، وهل ممكن أن تتوحد كلمتنا وتتحد عناصر الدولة المختلفة إذا كان وزراؤنا يتغرضون لغير داع ويتعصبون؟ خذ لك مثالا آخر من هذا التغرض والتحامل، فإن صاحب الوصية يشارك الفلاسفة في ذم الإكليروس ولكنه يبتعد عنهم منددا حينما يتعرضون للدين الإسلامي، أمعن النظر فيما يلي:
ويجب على الباب العالي أن لا يغمض الطرف عن المساعي التي ستبذل في سبيل اتحاد كنيستي الأرمن والأروام وأن يساعد - جهده - على انتشار المعتقدات الفلسفية بين التبعة المسيحية؛ لأنها ترفع عن عاتق بني البشر نفوذ الإكليروس.
وأما التبعة الإسلامية فهي بغنى عن مثل هذه المعتقدات! نعوذ برب الناس من شر المنطق والقياس، فإذا كانت المعتقدات الفلسفية تنفع البشر فلم يتمنى نشرها بين المسيحيين دون المسلمين؟ لا والله لا. إننا نذكر من المصلحين العثمانيين من كانت نواياه أنظف وأنزه من نوايا فؤاد باشا، فهو ضمنا يود لو أزالت الفلسفة الدين المسيحي، على أن الاعتقادات الفلسفية إما أن تكون مضرة بالأديان وإما أن تكون نافعة، فإذا كانت مضرة فالدين المسيحي لا يستحقها وحده وإذا كانت نافعة فلا يجوز أن يحرم منها الدين الإسلامي. أرأيت كيف أن الأقوال تسقط الرجال؟ هل اتضح لك أن بعض السياسيين لا يستحقون النعوت الشريفة التي ينعتهم بها الشعب الغافل، نحن نعلم وكل عاقل يعلم ما للإكليروس بل لرجال الدين على الإطلاق من النفوذ السيئ على الأمة ولكننا لا نقبل أن يقال لنا ذلك على سبيل التعصب من سياسي يود إذلالنا، فإذا شاركنا إخواننا المسلمون في انتقاد الإكليروس فليذكروا - دام فضلهم - بأن البطريرك والإمام صنوان، وأن الشيخ والكاهن أخوان. والسلام.
تركيا الجديدة وحقوق الإنسان
Unknown page