256

Rasail

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

Genres

وإذا كانت القلوب على هذه الصفة وبهذه الحالة امتنعت من المعرفة وعميت عن الدلالة. وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بقراءتها والمتفرد بفهم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله ولا يعز خصمه. والكتاب قد يفضل ويرجح على واضعه بأمور: منها أن الكتاب يقرأ بكل مكان وفي كل زمان على تفاوت الأعصار وبعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في الواضع ولا يطمع فيه مع التنازع، وقد يذهب العالم وتبقى كتبه ويفنى ويبقى أثره. ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلفت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها المستغلق علينا فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا في الحكمة وانقطع سبيلنا إلى المعرفة، ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا ومنتهى تجاربنا بما أدركته حواسنا وشاهدته نفوسنا لقلت المعرفة وقصرت الهمة وضعفت المنة، فاعتقم الرأي ومات الخاطر وتبلد العقل واستبد بنا سوء العادة. وأكثر من كتبهم نفعا وأحسن مما تكلفوا موقعا كتاب الله تعالى الذي فيه الهدى والرحمة والإخبار عن كل عبرة وتعريف كل سيئة وحسنة، فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا سبيل من قبلنا فينا، مع أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا. فما ينتظره الفقيه بفقهه والمحتج لدينه والذاب عن مذهبه ومواسي الناس في معرفته وقد أمكن القول وأطرق السامع ونجا من التقية وهبت ريح العلماء؟!

فصل منه : واعلم أن قصد العبد بنعم الله تعالى إلى مخالفته غير مخرج إنعام الله عليه ولا محول إحسانه إليه إلى غير معناه وحقيقته، ولم يكن إحسان الله في إعطائه الأداة وتبيين الحجة لينقلبا إفسادا وإساءة؛ لأن المعان على الطاعة عصى بالمعونة وأفسد بالإنعام وأساء بالإحسان. وفرق بين المنعم والمنعم عليه؛ لأن المنعم عليه يجب أن يكون شكورا ولحق النعمة راعيا، والمنعم منفرد بحسن الإنعام وشريك في جميل الشكر، ولأن المنعم أيضا هو الذي حبب الشكر إلى فاعله بالذي قدم إليه من إحسانه وتولى من مساره؛ ولذلك جعلوا النعمة لقاحا والشكر ولادا. وإنما مثل إعطاء الآلة والتكليف لفعل الخير مثل رجل تصدق على فقير ليستر عورته ويقيم من أود صلبه وليصرف في منافعه، ولا يكون إنفاق الفقير ذلك الشيء في الفساد والخلاف والفواحش لينقلب إحسان المتصدق إساءة، وإنما هذا بصواب الرأي الذي لا ينقلب وإن أنجع صاحبه، وقد يؤتى الرجل مع حزمه ولا يكون مذموما ويخطئ بالإضاعة ولا يكون محمودا.

فصل منه : ولم يكن الله تعالى ليضع العدل ميزانا بين خلقه وعيارا على عباده في نظر عقولهم في ظاهر ما فرض عليهم ويسر خلافه ويستخفي بضده، ويعلم أن قضاءه فيهم غير الذي فطرهم على استحسانه وتحبب إليهم به في ظاهر دينه، والذي استوجب به الشكر على جميع خلقه.

فصل منه : وإن لم يكن العبد على ما وصفنا من الاستطاعة والقدرة والحال التي هي أدعى إلى المصلحة ما كان متروكا على طباعه ودواعي شهواته دون تعديل طبعه وتسوية تركيبه؛ ولذلك أسباب نحن ذاكروها وجاعلوها حجة في إقامة الإمامة وأن عليها مدار المصلحة، وأن طبع البشر يمتنع من الإخبار إلا على ما نحن ذاكروه. فنقول: إنا لما رأينا طبائع الناس وشهواتهم من شأنها التقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم وذهاب دنياهم، وإن كانت العامة أسرع إلى ذلك من الخاصة فكل لا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرديهم ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل ومن القصاص من العادل، ثم التنكيل في العقوبة على شر الخيانة وإسقاط القدر وإزالة العدالة مع الأسماء القبيحة والألقاب الهجينة، ثم بالإخافة الشديدة والحبس الطويل والتغريب عن الوطن، ثم الوعيد بنار الأبد مع فوت الجنة. وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة ولتعديل الطبائع معونة؛ لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه ألفي بصيرا بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله وأوامر رأيه، فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامر الغي كان العبد ممنعا من الغي قادرا عليه؛ لأن الغضب والحسد والبخل والجبن والغيرة وحب الشهوات والنساء والمكاثرة والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها واشتدت جواذبها لصاحبها ثم لم يعلم أن فوقه ناقما عليه وأن له منتقما لنفسه من نفسه أو مقتضيا منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطبيعة ودواعي الشهوة طبعا لا يمتنع معه وواجبا لا يستطيع غيره. أوما رأيته كيف يخرق في ماله ويسرع فيما أثلت له رجاله وشدت له أوائله من غير أن يرى للعوض وجها وللخلف سببا في عاجل دينه ولا آجل دنياه حتى يكون والي المسلمين هو الذي يحجر عليه ليكون مضض الحجر وذل الحظر وغلظة الجفوة واللقب القبيح وتسليط الأشكال مادة للذي معه من معرفته وبقية عقله!

فصل منه : وقد يكون الرجل معروفا بالنزق مذكورا بالطيش مستهاما بإظهار الصولة، حتى يتحامى كلامه الصديق ويداريه الجليس ويترك مجازاته الكريم للذي يعرفون من شدته وبوادر حدته وشدة تسعره والتهابه وكثرة فلتاته، ثم لا يلبث أن يحضر الوالي الصليب والرجل المنيع فيلفى ذليلا خاضعا أو حليما وقورا أو أديبا رفيقا أو صبورا محتسبا. وقد نجده يجهل على خصمه ويستطيل على منازعه ويهم بتناوله والغدر به، فإذا عرف له حماة تكفيه ورجالا تحميه وجاها يمنعه ومالا يصول به، طامن له من شخصه وألان له من جانبه وسكن من حركته وأطفأ نار غضبه. أوما علمت أن الخوف يطرد السكر ويميت الشهوة ويطفئ الغضب ويحط الكبر ويذكر بالعاقبة ويساعد العقل ويعاون الرأي وينبت الحيلة ويبعث على الروية حتى يعتدل به تركيب من كان مغلوبا على عقله ممنوعا من رأيه بسكر الشباب وسكر الغنى وإهمال الأمر وثقة العز وبأو القدرة ...؟!

فصل منه : وإنما أطنبت لك في تفسير هذه الأحوال التي عليها الوجود والعبرة لتعلم أن الناس لو تركوا شهواتهم وخلوا أهواءهم وليس معهم من عقولهم إلا حصة الغريزة ونصيب التركيب ، ثم أخلوا من المرشدين والمؤدبين والمعترضين بين النفوس وأهوائها وبين الطبائع وغلبتها من الأنبياء وخلفائهم، لم يكن في قوى عقولهم ما يداوون به أدواءهم ويجبرون به من أهوائهم ويقوون به لمحاربة طبائعهم ويعرفون به من جميع مصالحهم، وأي داء هو أردى من طبيعة تردي وشهوة تطغي، ومن كان لا يعد الداء إلا ما كان مؤلما في وقته ضاربا على صاحبه في سواد ليله وبياض نهاره فقد جهل معنى الداء، وجاهل الداء جاهل بالدواء.

فصل منه : ولكنا نقول: لا يجوز أن يلي أمر المسلمين على ظاهر الرأي والحزم والحيطة أكثر من واحد؛ لأن الحكام والسادة إذا تقاربت أقدارهم وتساوت غايتهم قويت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء واشتدت منافستهم في الغلبة. وهكذا جرب الناس من أنفسهم في جيرانهم الأدنين، في الأصهار وبين الأعمام، والمتقاربين في الصناعات كالكلام والنجوم والطب والفتيا والشعر والنحو والعروض والتجارة والصباغة والفلاحة، أنهم إذا تدانوا في الأقدار وتقاربوا في الطبقات قويت دواعيهم إلى طلب الغلبة واشتدت جواذبهم في حب المباينة والاستيلاء على الرياسة. ومتى كانت الدواعي أقوى كانت النفس إلى الفساد أميل والعزم أضعف وموضع الروية أشغل والشيطان فيهم أطمع، وكان الخوف عليهم أشد وكانوا بموافقة المفسد أحرى وإليه أقرب. وإذا كان ذلك كذلك فأصلح الأمور للحكام والقادة - إذا كانت النفوس ودواعيها ومجرى أفعالها على ما وصفنا - أن ترفع عنهم أسباب التحاسد والتغالب والمباهاة والمنافسة، وأن ذلك أدعى إلى صلاح ذات البين وأمن البيضة وحفظ الأطراف. وإذا كان الله تبارك وتعالى قد كلف الناس النظر لأنفسهم واستيفاء النعمة عليهم وترك الخطر بالمملكة والتغرير بالأمة، وليس عليهم مما يمكنهم أكثر من الحيطة والتباعد من التغرير، ولا حال أدعى إلى ذلك أكثر مما وصفنا؛ لأنه أشبه الوجوه بتمام المصلحة والتمتع بالأمن والنعمة.

فصل منه : فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه إذا كان القائم بأمور المسلمين بائن الأمر متفردا بالغاية من الفضل، كانت دواعي الناس إلى مسابقته ومجاراته أقل، ولم يكن الله ليطبع الدنيا وأهلها على هذه الطبيعة ويركب أهلها هذا التركيب حتى تكون إمامة الواحد من الناس أصلح لهم إلا وذلك الواحد موجود عند إرادتهم له وقصدهم إليه؛ لأن الله لا يلزم الناس - في ظاهر الرأي والحيطة - إقامة المعدوم وتشييد المجهول؛ لأن على الناس التسليم وعلى الله تعالى قصد السبيل. وهل رأيتم ملكين أو سيدين في جاهلية أو إسلام من العرب جميعا أو من العجم لا يتحيف أحدهما من سلطان صاحبه ولا ينهك أطرافه ولا يساجله الحروب، إذ كل واحد منهما يطمع في حد صاحبه وطرفه لتقارب الحال واستواء القوى، كما جاءت الأخبار عن ملوك الطوائف كيف كانت الحروب راكدة وأمرهم مريج، والناس نهب ليس لهم ثغر إلا معطل ولا طرف إلا منكشف، والناس فيما بينهم مشغولون بأنفسهم عن ملوكهم، من عز بز، مع إنفاق المال وشغل البال وشدة الخطر بالجميع والتغرير بالكل.

فصل منه : فإن قالوا: فما صفة أفضلهم؟ قلنا: أن يكون أقوى طبائعه عقله، ثم يصل قوة عقله بشدة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدة فحصه وكثرة سماعه بحسن العادة، فإذا جمع إلى عقله علما وإلى علمه حزما وإلى حزمه عزما، فذلك الذي لا بعده، وقد يكون الرجل دونه في أمور وهو يستحق مرتبة الإمامة ومنزلة الخلافة، غير أنه على حال لا بد من أن يكون أفضل أهل دهره؛ لأن من التعظيم لمقام رسول الله

صلى الله عليه وسلم

Unknown page