128

Rasail

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

Genres

ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي

صلى الله عليه وسلم

وأعلامه والاحتجاج لشواهده وبرهاناته، فأقول: إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرقا في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد بعد أن كان غيرها مطلقا غير محظور، والذين حصنوه ومنعوه الزيادة والنقصان، لو كانوا جمعوا علامات النبي

صلى الله عليه وسلم

وبرهاناته ودلائله وآياته وصنوف بدائعه وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم وبحضرة العدد الكثير الذين لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل والعدو المائل، لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها لا زنديق جاحد ولا دهري معاند ولا متظرف ماجن ولا ضعيف مخدوع ولا حدث مغرور، ولكان مشهورا في عوامنا كشهرته في خواصنا، ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نصاراهم ومجوسهم، ولما وجد الملحد موضع طمع في غبي يستميله وفي حدث يموه له، ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا لما تكلفنا كشف الظاهر وإظهار البارز والاحتجاج للواضح. إلا أن الذي دعا سلفنا إلى ذلك الاتكال على ظهورها واستفاضة أمرها، وإذ كان ذلك كذلك فلم يؤت من أتي من جهالنا وأحداثنا وسفهائنا وخلعائنا إلا من قبل ضعف العناية وقلة المبالاة، ومن قبل الحداثة والغرارة، ومن قبل أنهم حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تبلغه قواهم وتتسع له صدورهم وتحمله أقدارهم، فذهبوا عن الحق يمينا وشمالا. لأن من لم يلزم الجادة تخبط، ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط، ومن خرق بنفسه وكلفها فوق طاقتها ولم ينل ما لا يقدر عليه تفلت منه ما كان يقدر عليه. فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل أنفسهم ولم يؤتوا من سلفهم، أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان، وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه والاحتجاج لنبيه

صلى الله عليه وسلم ، وليجري هذا الخير على أيديهم كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم؛ لئلا يبخس أحد خليقته من العلماء والفقهاء، ولأن يجعل فضله مقسما بين جميع الأولياء، وإن كان الأول أحق بالتقديم والآخر أحق بالتأخير للذي قدموا من الاحتمال وأعطوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه، والأصل أحق بالقوة من الفرع، وهم السابقون ونحن التابعون، وهم الذين وطئوا لنا وكلفونا ما لم نكن لنكلفه أنفسنا، فتجرعوا دوننا المرار ومنحونا روح الكفاية، ولأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه

صلى الله عليه وسلم ، ولأن القرآن نطق بفضيلتهم والله تعالى أعلم بمن بعدهم. والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد دون أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، والذين رأوا من قول عبد الله في المعوذتين وقول أبي في سورتي

1

العرب ومن تعلق الناس بالاختلاف فكانوا لا يزالون قد رأوا الرجل يروي الحرف الشاذ ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه، فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على المقروء عندهم المشهور فيما بينهم، وأنهم إن لم يشددوا في ذلك لم ينقطع الطمع ولم ينزجر الطير. لأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة لتبين له في نظامها ومخرجها وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها، وليس ذلك في الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله وإنا لله وعلى الله توكلنا وربنا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل. وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع. ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان. ورأوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يحصنوه مما يشكل ويمكن أن يفتعل مثله من الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين. وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير على البلغاء والشعراء وخافوا إن هم لم يتقدموا في ذلك أن يتطرقوا عليه كما تطرقوا على الرواية؛ لأنهم حين رأوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة ورأوا كثرة اختلافها والغرائب التي لا يعرفونها لم يكن لهم إلا تحصين الشيء الذي عليه مدار الأمر وإن كانوا يعلمون أن الله بالغ أمره. فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأمة كما حاط السلف أولها، وأن يعملوا بظاهر الحيطة إذ كان على الناس الاجتهاد، وليس عليهم علم الغيوب. وإنما ذلك كنحو رجل أبصر نبيا يحيي الموتى فعرف صدقه، فلما انصرف سأله عنه بعض من لم ير ذلك ولا صح عنده فعليه ألا يكتمه وإن كان يعلم أن الله تعالى سيعلمه ذلك من قبل غيره وأنه عز ذكره سيسمعه صحته على حبه وكرهه. ورأوا أن قراءة زيد أحق بذلك؛ إذ كانت آخر العرض، ولأن الجمع الذين سمعوا آخر العرض أكثر ممن سمع أوله، فحملوا الناس على قراءة زيد دون أبي وعبد الله، وإن كان الكل حقا. إذ كان رب حق في بعض الزمان أقطع للقيل والقال وأجدر أن يميت الخلاف ويحسم الطمع، فتركوا حقا إلى حق العمل به أحق. ولو أن فقيها رأى إطباق العلماء على صوم يوم عرفة واستنكارهم الإفطار فيه فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة، أو خاف أن يلحق الفرض على تطاول الأيام ما ليس فيه، كان مصيبا، ولكان قد ترك حقا إلى أحق منه. وللحق درجات، وللخلاف درجات، وللحرام درجات. ألا ترى أن لولي المقتول أن يقتل أو يصفح، وأنه إن قتل قتل بحق وإن صفح صفح بحق، والصفح أفضل من القتل. ولو أن رجلا أخرج ساكنا بيتا له أو اقتضى دينا له عند حلول أجله أو طلق زوجته وما دخل بها لكان ذلك له والحق فعل؟ وغير ذلك الحق أولى به؟ وكيف لا يكون أولى به وهو أحسن والثواب فيه أعظم وإلى سلامة الصدور أقرب؟ وقد يكون الأمران حسنين وأحدهما أحسن، وقد يكون الأمران قبيحين وأحدهما أقبح. وبعد، فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به إلا فيما تبين أنه معصية، فأما غير ذلك فإنه واجب مفروض ولازم غير مدفوع. وعلموا أيضا أنهم لا يبقون إلى آخر الزمان وأن من يجيء بعدهم لا يقوم مقامهم ولا يفصل الأمور تفصيلهم، ولو عرفوا كمعرفتهم وأرادوا ذلك كإرادتهم لما أطيعوا كطاعتهم. وعلموا أن الأكاذيب والبدع ستكثر، وأن الفتن ستفتح، وأن الفساد سيفشو. فكرهوا أن يجعلوا للمتطرفين علة ولأهل الزيغ حجة، بل لا شك أنهم لو تركوا الناس عامة يقرءون على حرف فلان وكلما أجاز فيه فلان عن فلان لألحق قوم في آخر الزمان بهم من ليس منهم ولا يجري مجراهم ولا يجوز مجازهم.

فصل منه في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد

Unknown page