127

Rasail

رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن

Genres

قال أبو عثمان:

الحمد لله الذي عرفنا نفسه وعلمنا دينه وجعلنا من الدعاة إليه والمحتجين له، فنحن نسأله تمام النعمة والعون على أداء شكره، وأن يوفقنا للحق برحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه والمرغوب إليه فيه، وصلى الله على محمد وسلم.

ثم إنا قائلون في الأخبار ومخبرون عن الآثار، ومفرقون بين أسباب الشبهة وأسباب الحجة، ثم مفرقون بين الحجة التي تلزم الخاصة دون العامة، ومخبرون عن الضرب الذي يكون الخاصة فيه حجة على العامة، وعن الموضع الذي يكون القليل فيه أحق بالحجة من الكثير، ولم شاع الخبر وأصله ضعيف، ولم خفي وأصله قوي، وما الذي يؤمن من فساده وتبديله مع تقادم عصره وكثرة الطاعنين فيه، وعن الحاجة إلى رواية الآثار وإلى سماع الأخبار، وعن أخلاق الناس وآبائهم ومذاهب أسلافهم، وعن سير الملوك قبلهم وما صنعت الأيام بهم، وعن شرائع أنبيائهم وأعلام رسلهم، وعن أدب حكمائهم وأقاويل أئمتهم وفقهائهم، وعن حالات من غاب عن أبصارهم في دهرهم، ولم كان الإخبار على الناس أخف من الكتمان، ولم كان الصمت أثقل عليهم من الكلام، وما الضرب الذي يقدرون على كتمانه وطيه والضرب الذي لا يقدرون إلا على إذاعته ونشره، ولم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور واختلفت في غيرها، ولم حفظت أمورا ونسيت سواها، ولم كان الصدق أكثر من الكذب، ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل. والعجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار، وبالأخبار يعرف الناس النبي من المتنبي والصادق من الكاذب، وبها يعرفون الشريعة من السنة والفريضة من النافلة والحظر من الإباحة والاجتماع من الفرقة والشذوذ من الاستفاضة والرد من المعارضة والنار من الجنة وعامة المفسدة والمصلحة . فإذا نزلت الأخبار منازلها وقسمتها ذكرت حجج الرسول

صلى الله عليه وسلم

ودلائله وشرائعه وسننه، ثم جنست الآثار على أقدارها ورتبتها في مراتبها وقربت ذلك واختصرته وأوضحت عنه وبينته، حتى يستوي في معرفتها من قل سماعه وساء حفظه، ومن كثر سماعه وجاد حفظه، بالوجوه الجليلة والأدلة الاضطرارية.

ولم أرد في هذا الكتاب جمع حجج الرسول عليه السلام وتفصيلها والقول فيها لنقص مسها أو لوهن كان في أصلها من ناقليها والمخبرين عنها، أو لأن طعن الملحدين نهكها وفرق جماعتها ونقض قواها! ولكن لأمور سأذكرها وأحتج لها. وكيف تقصر الحجة عن بلوغ الغاية وتنقص عن التمام والله تعالى المتوكل بها ومسخر أصناف البرية لها ومهيج النفوس على إبلاغها! وقد أخبر بذلك عن نفسه في محكم كتابه عز ذكره حيث قال:

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضاده وخالف عليه. وقال عز ذكره:

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون . وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود، ولم يكن ليأمر الأقصى كما يأمر الأدنى، ويأمر الغائب على الحاضر، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام:

وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا .

فأقول: إن كل منطيق محجوج، والحجة حجتان: عيان ظاهر، وخبر قاهر. فإذا تكلمنا في العيان وما يفرع منه، فلا بد من التعارف في أصله وفرعه منه، ولا بد من التصادق في أصله والتعارف في فرعه، فالعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله، ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. والعقل مضمن بالدليل والدليل مضمن بالعقل، ولا بد لكل واحد منهما من صاحب، وليس لإبطال أحدهما وجه مع إيجاب الآخر. والعقل نوع واحد، والدليل نوعان: أحدهما شاهد عيان يدل على غائب، والآخر مجيء خبر يدل على صدق.

Unknown page