سقوط صاعقة
بيني وبين أمين الريحاني
أحمد فارس الشدياق
كتاب وجواب
طريق عين كفاع
بين مارون عبود وأنسبائه
كتاب وجواب
سقوط صاعقة
بيني وبين أمين الريحاني
أحمد فارس الشدياق
Unknown page
كتاب وجواب
طريق عين كفاع
بين مارون عبود وأنسبائه
كتاب وجواب
رسائل وأحاديث
رسائل وأحاديث
تأليف
مارون عبود
المؤلف (1886-1962).
سقوط صاعقة
Unknown page
الصاعقة على منزل مارون عبود
اختارت الصاعقة بيت مارون عبود في عين كفاع، فانقضت على البيت ... ولحسن الحظ لم تجد ناقدنا الكبير هناك؛ فقد كان منكبا على عمله التعليمي في عاليه.
ولكن الصاعقة وجدت في البيت فولتير، وشكسبير، وهيجو، وبرناردشو، والجاحظ ... وجدتهم في لوحات كبيرة على جدران البيت، رسمها فنانون طليان وفرنسيون، كما وجدتهم في كتب أنيقة حسنة التجليد على رفوف المكتبة، فخرقت الجدران، ومزقت الكتب، وانتقمت من أعلام الفكر شر الانتقام ...
وما انتقمت في الواقع إلا من مارون عبود، الذي أنفق ما أنفق على رسم هذه اللوحات الفنية على طول الجدران وعرضها، فغدا منزله بها تحفة فنية صنعها الإنسان في الداخل، ومتعة رائعة خطتها يد الطبيعة في مدرجات أخاذة حول القرية.
ومن غريب المصادفات أن أستاذنا يحب الصواعق، ويصادق الزوابع منذ زمن طويل، فديوانه الشعري يحمل اسم «زوابع»، كما يحمل كتاب آخر من كتبه اسم «زوبعة الدهور» ... ولكن يظهر أن الصاعقة لم تف له هذا الحب ... فأدركت هذه الصاعقة بيته في عين كفاع، كما أدركت صاحبه حرفة الأدب.
ونحمد الله على أنه لا يزال معلما يمارس مهنته؛ فالتعليم أنقذه من الصاعقة!
صدى لبنان
23 / 12 / 1951
كلمة نور الدين بيهم عن نبأ الصاعقة
لم يكد الصديق البحاثة الأستاذ نور الدين بيهم يتصل بعلمه نبأ الصاعقة التي انقضت على دار أديبنا الكبير الأستاذ مارون عبود، حتى هرع إلى إدارة هذه الجريدة يبدي أسفه للكارثة التي ألمت بتحف صديقه وصوره، ويعرب عن إرادته في تقديم لوحة زيتية للرسام الروسي الشهير «جيل شيرية» باسمه، وبتمثال خشبي فرعوني يعود عهده إلى 700 سنة ق.م، باسم حفيدته حياة عبد الله سلام؛ عل هاتين التحفتين تعوضان بعض الخسارة التي حاقت بشيخ أدباء لبنان.
Unknown page
إننا باسم الأدب الرفيع الذي يمثله الأستاذ مارون عبود، نحيي الأستاذ نور الدين بيهم. ولعلها أول مرة يحاول فيها «نور» من الأرض أن يرتق ما أحدثه نور من السماء ...
صدى لبنان
23 / 12 / 1951
أخي نور الدين
1
لقد كانت الصاعقة كبيرة كهديتك الملوكية، وأدبك الجم، وعلمك الواسع. يظهر أن الله - سبحانه وتعالى - قد اتصل به - وهو العليم الحكيم - خبر اختراع القنبلة الذرية، فسمح بها وأراد تجربتها في بيتك الصغير في عين كفاع.
أكتب إليك من جو الصواعق، ومن بين أشلاء ضحاياها المبعثرة غير الضارة إلا بالجيب.
فلو كان هم واحد لاتقيته
ولكنه هم وثان وثالث
نشكر الله الذي كبرنا في عين جبروته وجلاله، فرأى أن واحدة لا تكفينا فجاد علينا بثلاثة كأنهن يتسابقن إلى زيارتي، وكأنه يشن غارة طائرات وقاذفات ... ولا بدع في هذا الثالوث الصاعق؛ ألسنا نصارى؟!
Unknown page
ولكن هذه الصواعق الثلاث وقف في وجهها ثلاثة حققوا حكاية بدوي بني صخر، الذي قال لإمام كان يصف لهم في سهرة هول ساعة القيامة والدينونة.
قال البدوي: يا شيخ، في هاتيك الساعة سيدنا موسى لا يكون؟
فأجاب الشيخ: نعم.
فقال البدوي: وسيدنا عيسى؟
فأجاب الشيخ: نعم.
فقال: ورسول الله ألا يكون؟
فأجاب الشيخ: مؤكد يكون.
فضحك البدوي بملء فمه وقال: قم عنا يا شيخ، رعبتنا، هؤلاء ثلاثة أجاويد بوجودهم لا يصير شيء.
وأنا أعتقد أن هؤلاء الثلاثة قد صانوا مقرهم - قاعة الخالدين - فما دخلته شرارة. أما بعد اليوم فأعتقد أيضا أن «بطلك» الذي أبدعه جيل شيرية - الفنان الفرنسي العظيم - سيكون له مع الصواعق شأن يذكر؛ ففي وقفته معان ومعان ... كأنه في وقفته الجبارة الراقصة، يتحدى الصاعقة برأسه ويديه وعينيه وشاربيه صارخا بها: هلمي، أنا هنا.
وكأنه وقد قام على كعب «جزمته» مقعنسا يردد قول ابن كلثوم: حديا الناس كلهم جميعا ... إذا انفختت الأرض أسدها برجلي، وإذا سقطت السماء تلقيتها بيدي. حقا إن الفن الحق الذي نعم به بيتي بفضل هديتك ليخلق المعاني، ويبث الحياة في الظلال فتصير أجمل كثيرا من الحياة النابضة.
Unknown page
أما هدية حفيدتك الكريمة الآنسة حياة عبد الله سلام - صان الله حياتها، وأقر عينك بها، وجعلك جدا لأحفاد أحفاد - فقد جعلتني أومن بوجود «شق أنمار» في الفن كما في الطبيعة، ولكن أين هذا من ذاك؟ ذاك صار ترابا، وهذا لا يزال بعد أربعة آلاف سنة.
لقد شئت بلسان حفيدتك أن تستقبل الظلم الجوي بهدية فرعونية، وهكذا داويتنا بالتي كانت هي الداء، وإذا كانت كل صاعقة وإن أفحشت في المضرة تعقبها مثل هذه الهدية الدهرية؛ فأهلا ومرحبا بالصواعق.
إن عطف الأديب على الأديب لمما يحلو ويطيب. أحياني الله إلى ساعة أستطيع فيها أن أرد تحيتك فقط؛ لأنه لا يوجد أحسن منها، وما أظنه يخيب رجائي بعدما خرجت من محنته هذه كما يخرج النضار من النار.
حقا إن المرء كثير بأخيه، وخصوصا متى كانوا مثلكم يصح فيهم قول شاعرنا:
أولئك إخواني فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وختاما أكتفي بجهد المقل؛ وهو التحية والدعاء.
عين كفاع
31 / 12 / 1951
أخي عبد الله
Unknown page
2
لقد قابلت الصاعقة بصواعق، فحققت قول من قال: جراحات السنان لها التئام.
دخلت أنت من «ثقب الباب» ففعلت فعلك ... أما هي فدخلت من ثقب القبة وراحت تطوف في البيت، ولكنها لم تستلم إلا خطوطا من حديد، وشريطا من نحاس، وأخيرا تدهورت في البئر. وهذا مصير الظالمين المعتدين.
قال الإنجيل: اطلبوا ملكوت الله وبره أولا. أما غير ذلك فتزادونه. ونحن، يا أخي عبد الله، لسنا نطلب إلا ملكوت الأدب - حاف - أي بدون بر، ولا أحاشي من المعروف إلا عطف الإخوان ومحبتهم، وليس في الدنيا شيء أعظم من المحبة.
إني أقول:
أمطري نقمة جبال سرنديب
وسحي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لا أعدم قوتا
وإذا مت لست أحرم قبرا
فلولا السوط الذي يلهب ظهري وهو كذنب الصاعقة ما كنت كتبت شيئا مما كتبت، ولا استحققت ثقتك وثقة محيي الدين ونور الدين والإخوان جميعا.
Unknown page
جاء في مثلنا: لا تدع لصاحبك بالسعادة تخسره. فأنا أحمد الله - كما قال أخوك محيي الدين - على «الشقاء »، ولعل هذا المثل إذا صح في اللئام فهو أصدق في الأدباء. إن الألم خير مهماز لنا؛ فلتهمز الدنيا وتنخس؛ فالجلد تمسح ...
لقد أجملنا فلنفصل: أنت دخلت إلى نصرتي من ثقب الباب. أما صاحبتنا فثقبت ثقبها ودخلت، واجترأت على خارج البيت وداخله، حتى لم تترك فيه مغرز إبرة إلا صقر المحمدين: محمد الأعظم وجاره يسوع، اللذين حميا «قاعة الخالدين»، ومحمد الأصغر الذي ظلله سميه بشفاعته، فما تجرأت الصاعقة على دخول غرفته.
ولما كان الشيء بالشيء يذكر، اسمح لي أن أروي لك قصة محمدي: «عندما مرض محمد بداء «هزة الحيط»، ويئس الطب منه، استعملت مع النبي الكريم فظاظة الأعراب وقلت له: لا تستطيع أن تحمي واحدا من خمسمائة مليون، سميناه باسمك تبركا وتيمنا! فكأنه
صلى الله عليه وسلم
استجاب دعائي، واكترث لقضية سميه الدقيقة، فشفي. ومن بعد هزة الحيط صارت لبطته تهد الحيط، ومن لا يصدق فالتجربة أصدق برهان.»
لا تلمني على فظاظتي التي اعترفت لك بها، ولست أول من سمعها، بل أنت أول من كتبت له، ولكن لا لوم ولا تثريب؛ فالنبي
صلى الله عليه وسلم
احتمل أكثر منها من غيري.
أما أنا فتعلمتها من راهبات مار يوسف. أما هؤلاء الراهبات فكن إذا شح زادهن، ولم يرزقن خبزهن اليومي، يهرعن إلى تمثال شفيعهن مار يوسف، ويعاقبنه بالوقوف - أوزاريه - عفوا إذا استعملت لغة التانتات في هذه المناسبة. وهكذا يظل مار يوسف موليا وجهه شطر الحائط حتى تأتي الرزقة.
يظهر يا أخي أن الإيمان يرفع الكلفة، وهذا ما حصل عندما أعيا الطب، والحمد لله على حسن النتيجة.
Unknown page
ولنعد إلى «الحربة» التي ماتت في ساحة الواجب، فمن حقها أن تذكر بالخير؛ قد عملت ما عليها ولكن:
تكاثرت الظباء على خراش ... ... ... ... ...
أما الآن فقد حلت محلها واحدة أمنع، ولعلها ترد عن «الحمصي» إذا كان في قميصه ...
إن خسارة تعب عام وعامين تعوض؛ فالحمد لله على أن هذا «الانقلاب» في بيتنا لم يلطخ بنقطة، فهو محتاج إلى «التكريس» من جديد.
صدقني إذا قلت لك: إن ليلة الضيعة كانت سوداء مرهوبة الحمية ... فكثير من البيوت تشققت جدرانها والسرج انطفأت في كل بيت، وحرم الناس النوم انتظارهم صواعق أخرى، ولكن الله رحيم وإن غضب. كانت الصاعقة الأخيرة قاضية على الحربة، وقد ذهب الحمار بأم عمرو ...
وقبل وبعد، فإن ما كتبتموه ليساوي خراج عين كفاع كلها لا بيتا من بيوتها، وإني أحمد الله على أنني وجدت في إخوتكم جميعا ما حقق بيت بشار حيث قال:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
صانكم الله وأبقاكم لأخيكم بالأدب الذي أقمناه مقام الوالد، ولا زال بيتكم عامرا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
عين كفاع
Unknown page
31 / 12 / 1951
أخي محيي الدين
3
إن ذكراك لي في كل مناسبة، ولفتتك الكريمة أمس في حينها تقيم لي كل يوم حجة على نبل أخلاقك الفاضلة.
أبقاك الله لنا، يا زين الرجال؛ فكلامك بلسم يشفي كل جرح حتى شدوخ الصواعق.
عشت محيي الدين والدنيا، ولا زلت نصوليا يرمي ويصمي.
والسلام عليك ممن يحبك ويحترمك، ويعتد بصداقتك.
عين كفاع
31 / 12 / 1951
أخي محيي الدين متعك الله بالدنيا طويلا
Unknown page
تهنئة حارة - بالعود الأحمد - كالأنفاس الذكية التي تحملها إلينا صفحات «بيروت» من وحي باريز. إذا كان هذا ما توحيه باريز إلى «الشيوخ»، فما عساها أن توحي إلى فتى أغر مثلي إذا زارها ... ويا سلوة الأحباب موعدك الحشر.
وبعد، فقد قرأت في العدد 4307 من صحيفتكم الغراء أنني أحد المرشحين لرئاسة جمعية «أهل القلم» الذين تتجه إليهم الأنظار.
أرجو منك - يا أخي - وأنت ما خيبتني، بعد أن تسأل الله معي أن يرد عني «الأنظار»؛ فلا يصيبني إخواني الأحباء بعين.
أنا لم أتشرف بعد بالانخراط في سلك الجمعية لأرشح لكرسي رئاستها السامية، وسوف أبقى خارجا، لا بل «خارجيا» حتى يهبط هذا الضغط العالي عند بعضهم، وإذ ذاك يكون لكل حادث حديث.
يظهر أن مصيبتنا في أهل القلم أكبر من مصيبتنا بمحترفي السياسة عندنا؛ فلنسأل الزمن أن يطهر عقولنا من هذا «البرص» الاجتماعي. لا أعني إلا حب الرئاسة الذي نعته علينا جريدة التلغراف الغراء، منزهة الأدباء عن هذا الإسفاف.
وقلتم أنتم: «قد تنتخب السيدة إفلين بسترس - مثلا - رئيسة للجمعية، إذا رؤي تحاشي المنافسة بين الرجال»؛ فذكرتموني بكلمة كتبها الخليفة العباسي المستعصم بن المستنصر للمصريين، لما طلب منه ساستهم أن يعترف بالملكة شجرة الدر، قال - غفر الله لي وله: «إذا كانت الرجال قد عدمت عندكم؛ فاعلمونا حتى نسير إليكم رجلا.»
أنا لست أزعم أن السيدة إفلين لا تليق بهذا المنصب؛ فهي في نظري أجدر به ممن يتطلبون الرئاسة ويسعون لها سعيهم في الناس ... ولكنها نكتة جاءت زائرة فاستحيت منها وكرهت رجعتها خائبة.
وأخيرا، ما تقول يا أخي في مجمع يتنازع أهله وهو «ما هف بعد ولا قعد على الرف». إن خير ما يفعل في هذا الموقف هو أن يعمل أهل القلم ما عمله أحبار النصارى في سالف العهد والأوان؛ إذ انتخبوا لهم رئيسا أحد القسيسين البسطاء، فداسوا كبرياء المتعطشين إلى العظمة الفارغة.
إن بضعة أسطر تكتب على حقها لهي عندي وعندك وعند القارئ لا تعادلها رئاسة؛ فليكتب إخواننا أهل القلم ليرى الناس أنهم من أهله.
والسلام.
Unknown page
عين كفاع في 3 آب 1952
بيني وبين أمين الريحاني
لما أسميت ابني محمدا
وجدت في الريحاني أخا رأسي ساعة عرفته عام 1908. أما كيف عرفته فقد سردت خبر ذلك في غير هذا الموضع. جاءنا الريحاني من أميركا صوفيا، ولكن صوفيته كانت غير مائعة فأحببته. جاء من بلاد العم سام ومعه في جرابه «بزور للمزارعين» فألقاها في تربة بلاده، ثم استحالت صوفيته عملا فصار كاتبا نضاليا، فمشيت وإياه ورافقته حتى آخر خطوة، فأعجبني منه تصلبه؛ فلم يكن قط كبعض أصحابنا مع كل خيل مغيرة.
كان أمين أول من حلم «بالجامعة العربية» وسعى لها، وفي كتابه ملوك العرب وغيره بيان ذلك. ولسوء حظه لم يكتب له أن يعيش ليرى ثمرة نضاله، ولكن هذا لا يعني الفيلسوف العامل فهو يحيا للأجيال، وفي الأجيال، ومع الأجيال.
ليس هنا مقام درس الريحاني؛ فلهذا موضعه في كتبي. أما الآن فأقول ما لا بد منه في كتابي هذا، فهو صورة لقضية لم أدع التبجح بها إلا حين صار القول فيها مباحا، وكثر المدعون، وحام حولها المتذبذبون الاستغلاليون ...
أسميت ابني محمدا عام 1926، فكان الريحاني أول من طرب وانتشى لهذا العمل. أدرك أبعد مداه؛ فكتب إلي هذا الكتاب:
أخي مارون عبود
أصافحك بيدي الحب والإعجاب، وأهنئك بصبيك الجديد، وأهنئه باسمه الأجد، وبالقصيدة التي نظمتها له ولهذا الوطن الغني بالأديان، الفقير بين الأوطان.
أحسنت يا مارون، أحسنت وخير الآباء أنت.
Unknown page
وحبذا في المسلمين وفي الدروز وفي اليهود من يقتدون بك فيسمون أبناءهم بأسماء آبائنا القديسين، ونسمي أبناءنا بأسماء أبنائهم الأولياء؛ فينشأ في هذه البلاد جيل جديد من الإخوان - الإخوان الحقيقيين - الذين لا يعرفون من أسمائهم أنهم لأحمد أو لموسى أو للمسيح، بل لا يعرفون خارج المعابد أنهم مسيحيون أو مسلمون أو موسويون.
إن المستقبل لهذا الجيل من الإخوان، وفي مقدمتهم محمد بن مارون بن عبود اللبناني - حرسه الله.
أخوك أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
11 نوفمبر سنة 1926
وتلت هذا الكتاب اجتماعات عديدة بيننا دبرت فيها خطط غايتها «التوحيد» - أعني من التوحيد القومي منه - فكان أمين رسولا، وكنت أنا معلما، فعملنا ما عملنا ولا فخر.
وكان العام 1934، فدعيت وأمين لنخطب الناس، وكان الداعي لي تلميذي الأستاذ معضاد معضاد، فتخلفت أنا ولبى أمين، فلم يكد يخرج من الحفلة حتى قبضت عليه السلطة ونفي من البلاد، وبعد قليل من الزمن عاد أخونا أمين إلى الفريكة فكتبت إليه:
أخي أمين دمت عزيزا مشرفا
ما أدري كيف عدت! أتائبا كداود أم متمردا كأبيشالوم؟ واليد التي أعادتك، أقفازها من فراء الهررة وريش الديوك، أم من جلود الأسود والنمور؟ أم الجنة لا يدخلها إلا من توسل إلى الله بأحد القديسين الاختصاصيين كالخضر وغيره ...
يا أخي أمين، خبرني، أليس الانتداب في كل مكان، حتى السماوات في كوخ الفقير وقصر الملك، طورا تنتدب الأناس وتارة الإناث ...؟
Unknown page
فإلى أين يا أمين، أإلى القبر؟ ففيه انتداب منكر ونكير، أإلى السماء؟ ففيها انتداب بطرس ورضوان، وفي هذه الأرض يتنازعنا الملاكان ... وفي جهنم لوسيفوروس وأصحابه ذوو الأذناب والقرون ...
فما أرى هذه الأمة إلا مفلتة من نير لتقع تحت النير، وما شكر السوق إلا من ربح. لا يثير شجوني شيء، يا أخي، كالذين غرقوا حتى الآذان في لجة الفرنك، حتى إذا انقطعت الجراية كفروا بالفرنج، ولا أدري إذا كانوا يندمون كبطرس عند صياح الديك.
ألا رحم الله ابن الرومي حين قال يهجو إسماعيل بن بلبل:
تشيبن حين هم بأن يشيبا
لقد غلط الفتى غلطا عجيبا
فما أكثر المرتدين في هذه الأرض - وإن إلى حين - ونحن كرجال الدين نعد الارتداد هداية وهو وليد الغاية! والغايات أكثر عجائب من الليالي.
عللت النفس برؤيتك في العراق فإذا بك تعود إلى الفريكة، فهنيئا لك ربيعها الضاحك كسنك، وإن خلا من سخريتك، وأنعم بمنظر سنابلها الطريئة! فكل ما على «أرضنا» فريك ... الحصاد كثير والفعلة قليلون؛ فاطلب ما شئت من رب الحصاد.
قرت بطلعتك عين «عجوز منبج» يا أبا فراس، وعليك ألف سلام من أخ يشتاقك وهو جد مؤمن بوفائك ومروءتك وإبائك.
عين كفاع
22 / 4 / 1934
Unknown page
أما جواب أمين فكان حاميا، ولكنه استحال في قلبي بردا وسلاما. وإليك نصه:
أخي مارون - حفظه الله
وأبيشالوم، إنك مازح في كتابك الجميل إلي، أو إنك هازئ يائس، ليس أخوك ممن ينشدون المثل الأعلى في الزبور، ويقتدون بمن غير فكره عند صياح الديك، فقد عدت إلى الوطن لأني مثل الذين أبعدوني أحب هذا الوطن، ومثلهم أحب أن أقيم فيه على الدوام.
وإننا نحن - والله - المقيمون على الدوام لا هم. أجل إنني أعلم وأعتقد وأتيقن وأتأكد أن سيجيء اليوم الذي يرى فيه المستعمر الأثيم حاملا بندقيته ومدفعه وطبله وزمره - وكيسه الفارغ - وراحلا راحلا.
البرهان؟ الدليل؟ أنا وأنت والقلائل الكرام، إخواننا في كل مكان، البرهان؟ الدليل؟ مدرستك وتلاميذك، ومدرستي السيارة وتلاميذي، وذريتهم وذريتنا، وإيمانهم وإيماننا، وجهادهم الذي سيكون أضعاف جهادنا شدة وانتشارا، لا يريبنك ذلك.
فلا تزال الشعوب سائرة إلى الأمام.
ولا يزال الإنسان عاملا جادا في سبيل الرقي في كل مكان، ولا تزال البنود الحمر تخفق فوق رواسي الفكر والأمل الخالد يشع حولها.
ولا يزال الله على عرشه حيا يرزق.
عفوا يا أخي مارون، ما جئت أقرع الطبول في حزنك، ولا جئت أعزيك بوفاة الوالد - رحمه الله - وسيرحمه الله، وكيف لا يرحمه وأنت ابنه؟ بل سيكرمه لأنك ابنه، لا يريبنك ذلك.
إن يقيني بما سيكون لأشد جدا من يقيني بما هو كائن. الغد لنا يا مارون، الغد لنا هنا وهناك.
Unknown page
والسلام عليك من أخيك المشتاق إليك.
سلم على الأخ الرئيس والإخوان زملائكم. دمتم متمردين فيما تعلمون، موفقين فيما تزرعون.
أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
في 11 نيسان 1934
أيها الأخ الحبيب لبيب الرياشي
أقبلك مشتاقا إليك، وبعد: فأسميت ابني محمدا؛ لأن لسميه النبي العربي مقاما ساميا في نفسي، وأحبه حبا جما، وأعجب جدا بشخصيته الفذة، ولأنني كرهت - حتى الاشمئزاز - أن تكون أسماؤنا مثل «تذاكرنا». نعم، كرهت أن يكون اسم ابني طائفيا كاسمي؛ فرأيت أن أمزج الاثنين عملا برأي الأخطل التغلبي ... وأنا مطمئن كل الاطمئنان إلى هذه الأسماء، وفي اسمه - جوابا على سؤالك - كل التأثير عليه، وعلى إخوته، وعلى البيت، وعلى الضيعة، وعلى المحيط.
لم أعمد أحدا يا أخي من أولادي، ولكن والدي عمدهم جملة في غيابي. وهذا الوالد الطيب المتساهل كان أول المؤمنين برسالتي - إن صح التعبير - وهو أول من سايرني فتبعه الناس.
تسأل ماذا قال الكاهن؟ الكاهن كالعادة المألوفة عندنا أسماه «بالكتاب» ... نسيت والله، ذكر هذا مرة أمامي وامحى أثره. وقد كان نصيب أخويه نديم ونظير كنصيبه من تغيير الاسم؛ لأنني - كما لحظت - لم أسم أحدا على اسم الآباء القديسين، رزقك ورزقني الله شفاعتهم آمين ...
أما «التثبيت» - وهذا فاتك السؤال عنه، وهو سر من أسرار أمي وأمك الكنيسة المقدسة - فلا يقوم به إلا أسقف، فالمطران إلياس شديد - أحببت جدا هذا المطران وأعظمت مسيحيته وإنسانيته - «ثبته» باسم محمد مارون، في غيابي، على سمع الناس وبصرهم في كنيسة مار روحانا عين كفاع. لا تظن أنني أحببته لأنه جاراني. لا وحياتك يا أخي، ولا أشك أبدا أنك إذا عرفته لتحبه مثلي. فالحق أقول لك: لو عرفه النابغة الذبياني لم يقل «أي الرجال المهذب؟» إنه لا يكلفك شيئا من تقاليد الكتبة والفريسيين ... خارج هيكله. ولا أشك أنه يستقبل ربه بقلب نقي، ويبسط إليه يدا نظيفة ...
Unknown page
القصيدة، يا أخي، طبعت في أقطار عديدة. وها أنا أبعث إليك بنسختين لدي غيرهما؛ واحدة بيروتية، والأخرى شامية.
افعل ما بدا لك، وكن مخلصا للفن، وإياك أن تنصر أخاك ... الفن للفن، والصداقة في حرز حريز، يا لبيب.
والسلام عليك وعلى أهلك من أخيك العتيق.
عاليه
22 / 5 / 1935
أحمد فارس الشدياق
أخي الأستاذ الأديب المحترم
1
لا تسل عما أحدث كتابك الكريم في نفسي من التأثير. إني لا أستغرب هذا منك وأنت أديب ذاك البيت الكبير الذي يقدر الناس، ويحترم أعاظم الناس الذين يستحقون الاحترام؛ كشيخنا الأكبر علامة عصره بلا منازع أحمد فارس الشدياق.
كلك جميل يا جميل، ولا شك في أن عظام النابغة كانت تهتز جذلا عندما كنت تكتب إلي، فهل لي أن أفوز بإذن منك في نشر رسالتك إلي مع التعليق عليها، فتكون إحثاثا للناس واعترافا بفضل المرحوم جرجس صفا، الذي أجل علمه وأحترم شخصه كل الاحترام؟
Unknown page
وهل تتفضل علي بإرسال عدد من جريدة بيروت الغراء لأطلع على ما كتبت حول الموضوع فأشكرها؟
أنا بين يديك يا سيدي الأخ، وسأتشرف بزيارتك ليلة العيد المبارك أو يومه، فأقوم بواجبين مقدسين في وقت معا.
تفضل علي بالجواب، واقبل تحيتي مقرونة بشكري الجزيل مع المصافحة الأخوية، لا زلت سباقا لكل كريمة. وفقنا الله بمعونتك إلى خدمة الأدب الصحيح، والسلام عليك من الداعي لك.
عاليه
5 / 12 / 1936
الأخ الفاضل شكري
2
لا شك في أنكم تعلمون مكانة شيخنا الأكبر أحمد فارس الشدياق ومنزلته العلمية والأدبية؛ فهو أبو النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، وأكبر رجالها الذين يفاخر بهم لبنان.
كتبنا عنه ما كتبنا في جريدة صوت الأحرار التي أرسلتها إليكم اليوم خصيصا لتطلعوا عليها، وسنواصل الكتابة عن هذا النابغة المفرد لنذكر أمته به؛ فقد كادت تنساه.
دعونا الناس كما تقرءون إلى الاحتفال بذكرى الخمسين له في العام القادم ، وأكبر آمالي معلقة عليكم؛ نظرا لما لكم من الأيادي البيضاء على إحياء ما به مجد لبنان، الذي يفاخر بأمثالكم من بنيه.
Unknown page
لا أقترح عليكم شيئا؛ فأنتم أدرى، ولكنني أسألكم الاهتمام الجدي بذكرى أحمد فارس الذي آثر وحشة الحازمية على قصور الآستانة. ومتى أردتم رفعتم رأسنا عاليا، وهذه مأثرة تسجل بين مآثركم الغالية.
دمتم نصيرا لنا، وعونا للأدباء الذين ليس لهم من يذكرهم. وفي الختام، أصافحكم وأدعو لكم من صميم القلب.
الداعي لكم
حاشية : يا حبذا لو صحت الأحلام فيكون الاحتفال بذكرى فارس الشدياق مظهرا من مظاهر مجد لبنان، ونرى بيننا شكري الخوري؛ الرجل الذي نفتخر بإخلاصه وجهاده.
عاليه
24 / 11 / 1936
من يوسف يزبك إلى مارون عبود
لا أعلم كيف أشكرك يا أستاذنا الوقور وإمامنا الجليل على الجهد الذي بذلته - وما تزال تبذله - لإنصاف الفارياق،
3
ولا أعلم بأي قلم وفي أصوغ لك آيات الثناء على الفصول القيمة التي نشرتها - وما تزال تنشرها - منذ ثلاث سنوات حتى اليوم عن مهجور الحازمية، وعلى المروءة الشماء التي أبديتها في كل ما كان له علاقة بإيفائه حقه، حتى بتنا نعتقد أنك أنت ابن الشدايقة الذين حصلوا على خيره العميم وآثاره الخالدة، وأنك أنت الوارث من أبيك وجدك من آل الشدياق سمعته الداوية، وأنك العائش بمكانة هذه السمعة ونفوذها كما عاش أبناء أعمامه وأبناؤهم وأحفادهم، وحتى بتنا نعتقد أن مارون عبود إنما هو وحده الباقي من سلالة الذين رفلوا بها.
Unknown page
أقول هذا ولا أغفر لبني خئولتي - وهم أحفاد المروءة والهمة - تقاعدهم عن البر بذكرى مفخرتهم، وتاج رأسهم، وولي نعمهم. وإذا كنت تعتب، يا أستاذنا، على أحدهم؛ لأنه تراجع «لأسباب ما نزال نجهلها، وقد تكون صوابا» عما وعد به من مساعدة مالية للجنة اليوبيل؛ فاعلم أنه يبعد في نسبة ثماني درجات عن حجة اللغة،
4
وأن لأحمد أقربين هم أولى به منه، ناهيك بأن متبرعنا الكريم «الراجع عن غيه» مغترب ناء عن ذويه لم ينعم مثل معظمهم بالمكانة التي خلقها منشئ «الجوائب» لآل الشدياق في وطنهم، ولم يستغل ظروفها ... وإنما وصل إلى بسطة العيش بجده واجتهاده.
ولو شاء القدر لظل في بني الشدياق نوحهم الذي كان وحده يصلح لأن يحمل اسم نديم الملوك، ويرثه ويرث مجده، ويفيء على مواطنيه بكبر فضله، وكرم يده، وبياض عمله: عنيت العلامة الألمعي، والعصامي العبقري، شيخ الفضل والأريحية، ورجل الإقدام والوطنية القس يوسف الشدياق؛ من إذا عدت الرجال في قومه عد بالقوم جميعا.
ولكن جليلنا المفضال كاهن نذر نفسه لرحمانه لا لدنياه، فاحترامه تقاليد كنيسته أوجب حجب عطفه عن ذويه، في مثل هذه الحالة وهو الرحيم بهم، والجواد عليهم في كل آن، وأن ورعه لا يشجعه على القيام «بواجب» يحن في أعماق قلبه إلى تحقيقه، ويعلم أن رجال الدين الكاثوليكي لا «يستحسنون» صدوره عن كاهن كاثوليكي، وليس على القوم من حرج ...
وإذا قصر الشدايقة في شكرك؛ فأنا معوض عنهم: بارك الله بنبل وفائك يا أستاذ، واعذرني على فقري في التعويض؛ فلا خيل عندي ولا مال، ولا أقل من الدعاء من الأعماق بطول بقائك دعاء صادقا ليس فيه من بضاعة أصحابنا ... الداعين لجميع الناس، وفي جميع المناسبات ...
ولو أتيح لي شرف الانتساب إلى أدبك الخطير، وكنت صفحة صغيرة على «توراته المشلعة»؛ لحق لي أن أقترح على حملة الأقلام مبايعتك خلافة أحمد، فأنت فيهم - كما كان الإمام في زملائه - الفارس الذي لا يشق له غبار.
متى ولد الفارياق؟
أما بعد هذه المقدمة اللازمة، فأرجو أن تتلطف، يا أستاذي، وتساعدني على إصلاح بعض أخطاء ترافق ترجمة الفارياق، وأولها تاريخ ولادته؛ فقد ذهب مترجموه إلى أنه ولد في عشقوت سنة 1804، والواقع أن والده لم ينتقل من الحدث إلى تلك البلدة الكسروانية التي كانت موطن أجداده إلا سنة 1805، وقد أشار شقيقه طنوس إلى ذلك بقوله: «... وسنة 1805 استدعى الأمير حسن عمر الشهابي يوسف «والد الفارياق» لخدمته، وأمره أن يتوطن في كسروان، فاشترى يوسف دار أبيه ودار الشدياق في عشقوت من بنت الشيخ صليبي الخازن ووالدتها، ورحل إليها ...»
5
Unknown page