ليس من شأننا أن نفصل بين خصوماتهم الكثيرة.
ومات هادم النظام الديكارتي، نيوتن المشهور، في شهر مارس من السنة الماضية؛ أي في سنة 1727، فدفن مثل ملك فعل خيرا لرعاياه، وذلك بعد أن عاش مكرما من قبل مواطنيه.
وهنا قرئ بنهم، وترجم إلى الإنكليزية، تأبين مسيو دوفونتنل لمستر نيوتن في المجمع العلمي، وكان ينتظر في إنكلترة حكم مسيو دوفونتنل مثل تصريح رسمي عن أفضلية الفلسفة الإنكليزية، ولكنه عندما رئي أنه شبه ديكارت بنيوتن هاج جميع المجمع الملكي بلندن، وقد انتقدت هذه الخطبة مع الابتعاد عن قبول الحكم، حتى إن كثيرا - وهم ليسوا أعلم الناس بالفلسفة - قد صدموا بهذه المقارنة، لا لسبب غير كون ديكارت فرنسيا.
ولا مناص من الاعتراف بأن هذين الرجلين الكبيرين كانا يختلفان سيرة ونصيبا وفلسفة.
ولد ديكارت قوي الخيال مضطرما نصورا، فجعله هذا رجلا غريبا في حياته الخاصة شاذا في طراز برهنته، وما كان هذا الخيال ليخفى حتى في آثاره الفلسفية حيث ترى في كل آن مقارنات بارعة ساطعة، وتصنع الطبيعة منه شاعرا تقريبا، والواقع أنه وضع لملكة اسوج منظومة لهو لم تطبع إكراما لذكراه.
واختبر الجندية حينا من الزمن، ثم غدا فيلسوفا تماما، فلم ير من غير اللائق به أن يقوم بغرام، فرزق من خليلته ابنة سميت فرنسين، وتموت شابة، ويأسف كل الأسف على فقدانها، وهكذا يبتلي كل ما هو خاص بالإنسانية.
واعتقد زمنا طويلا أن من الضروري أن يعتزل الناس، ولا سيما وطنه حتى يتفلسف طليقا، وحق له ذلك، فما كان علم رجال زمنه بالفلسفة كافيا لتنويره، ولم يكونوا قادرين على غير الإضرار به.
ويغادر فرنسة؛ لأنه كان ينشد الحقيقة المضطهدة في ذلك الحين من قبل الفلسفة المدرسية الهزيلة، ولكنه لم يجد عقلا أكبر مما هناك في جامعات هولندة التي لجأ إليها، وذلك أنه بينا كان يحكم في فرنسة على قضايا فلسفته الصحيحة، اضطهد من قبل فلاسفة هولندة المزعومين الذين لم يكونوا أحسن إدراكا لأمره، والذين أبصروا مجده عن كثب فزادوا مقتا لشخصه، ويضطر إلى الخروج من أترك، ويقاسي ظنة الإلحاد التي هي آخر وسيلة للمفترين، ويتهم بإنكار الله مع أنه بذل أقصى ما عنده من ألمعية للبحث عن أدلة جديدة إثباتا لوجود الله.
وما أكثر الاضطهادات التي تفترض وجود مزية عظيمة، وتوجب شهرة باهرة لدى من كان هدفا لها، وقد اتفق له هذا وذاك، ويكون للعقل بعض النفوذ في العالم من خلال ظلمات المدرسة ومبتسرات أباطيل الناس، وأخيرا يدور حول اسمه من الضوضاء ما يراد معه اجتذابه إلى فرنسة بالمكافآت، ويعرض عليه راتب ألف إيكو، ويجيء حاملا هذا الأمل، ويدفع رسم البراءة التي كانت تباع في ذلك الحين، ولا ينال الراتب، وينطلق إلى عزلته في شمال هولندة كيما يتفلسف، وذلك في زمن كان غليله العظيم، البالغ من العمر ثمانين سنة، يذوب حسرة في سجون محاكم التفتيش؛ لأنه أثبت حركة الأرض. والخلاصة أنه يموت في استكهلم موتا عاجلا ناشئا عن سوء حمية، وذلك بين بعض العلماء الذين كانوا أعداء له، وبين يدي طبيب كان يمقته.
وغير هذا حياة الفارس نيوتن، فقد عاش خمسا وثمانين سنة هادئا سعيدا مكرما في وطنه.
Unknown page