الرسالة الأولى: جواب اعتراضات ابن العربي على شرح ابن السيد البطليوسي لديوان أبي العلاء المعري
1 / 35
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
أخبرني الفقيه النحوي أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي بهذا الجزء قراءة مني عليه، قلت له: قلت - رضي الله عنك -: إن أولى ما ابتدى به كل ذكر وافتتح، وأحجى ما تيمن به في كل أمر واستنجح، ذكر الله تعالى، ثم الصلاة على رسوله المصطفى الذي هدانا بهداه، وعلمنا ما تقصر عقولنا عن بلوغ أدناه، وأهدى إلينا الاستبصار مفروغا منه، ولم يحوجنا إلى البحث بالمقاييس عنه، نشكره شكر المعترف بالعجز عن شكر نعماه، ونسأله أن يوفقنا إلى ما يزلف إليه ويرضاه، ونستعيذ به من وساوس الصدور، وسوء عواقب الأمور.
رأيت - أراك الله منهج الحق وسننه، وجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اعتراضات ابن العربي علينا في شرح شعر المعري، ولسنا ننكر معارضة المعارضين، ومناقضة المناقضين، فإنها سبيل العلماء المعروفة وطريقهم المألوفة:
(ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه)
وإنما ننكر من أمر هذا الرجل - وفقنا الله وإياه إلى صالح العمل - أنه تسعف وما
1 / 37
أنصف، وجاء في المعارضة والخلاف، بأشياء استظرفتها غاية الاستظراف. وذلك أنه وجد أبياتا أفسدها ناسخ الديوان، بالزيادة والنقصان، فعادت مكسور الأوزان، ونبت العين عما فيها من الشين، فنبه عليها في طرر الكتاب، وبين فيها وجه الصواب. كأنه توهم - عفا الله عنه - أننا من الطائفة التي لا تقيم الشعر، ولا تحسن شيئا من النظم والنثر.
وكذلك وجد خطأ من الناسخ في بعض الأحرف، فظنه من قبل المؤلف المصنف، فتفضل بأن نبه عليه في طرر الكتاب، فحصلنا عنده في مرتبة من لا يقيم وزن الشعر ولا يحسن الإعراب. ولولا أن يظن بنا هذا الرجل - وفقه الله - عجزا من الانتصاف والانتصار، كما توهم علينا الجهل بالإعراب وكسر الأشعار، لصمتنا عن مراجعته صمت الرخم، ولم نتشاغل يتصرف لسان في مجاوبة ولا قلم. ولكن سوء معاملته أحوج إلى الكلام، ولو ترك القطا ليلا لنام، وقد الله تعالى: ﴿وعسى أن تكرهوا سيئا وهو خير لكم﴾ [البقرة ٢: ٢١٦] ثم قال أبو الطيب:
(رب أمر أتاك لا تحمد الفعـ ... ـعال فيه ونحمد الأفعال)
(وقسى رميت عنها فردت ... في نحور الرماة عنها النصالا)
فأول ما نقوله لهذا الرجل - وفقنا الله وإياه-: إن كان ما يجري مجرى السهو ويعد من اللغو، يحسب من الذنوب، ويعتد به في العيوب، فقد كتبت بخطك في معارضتك إيانا أشياء صحفت فيها وحرفت، وكسرت صحيح الوزن، ولحنت أقبح لحن، فنحن نتوخى فيها معك مناقشة الحساب، ونعاتبك أشد ما يكون من العتاب:
1 / 38
(فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها ... وأول راض سيرة من يسيرها)
ولقد أذكرني أمري معك حكاية الصولي ﵀ قال: كتبت إلى بعض إخواني كتابا، فورد على جوابه يقول فيه: ورد في كتابك وقد أعبت عليك حرفا فراجعه. وأفاني جوابك ووقفت عليه، وقد عبت عليك قولك "أعبت"، وهذا حين نبدأ للمناقشة، ونتهيأ للمخاصمة".
وجدناك - أعزك الله - لما انتهيت إلى قول المعري:
(أراني في الثلاثة من سجوني ... فلا تسأل عن الخبر النبيث)
(لفقديناظري ولزوم بيتي ... وكون النفس في الجسد الخبيث)
كتبت في الطرة منكرا لروايتنا، متوهما للتصحيف علينا الذي قرأناه: "شجوني" - بالشين المعجمة - فأي مدخل ههنا لـ "الشجون" - أبقاك الله -؟ ! وهل هذا إلا من التصحيف الطريق؟ ! إنه وصف المعري أنه مسجون في ثلاثة سجون، ثم فسر
1 / 39
السجون فجعل جسمه سجنا لنفسه، وبيته سجنا لشخصه، وعماه سجنا لبصره، لأنه كان يرى أن النفس معذبة بكونها في الأجسام، وأن رأحتها في مفارقتها عند الحمام. وبنحو من هذا المنزع سمى نفسه رهين المحبسين.
وقد كرر هذا المعنى في مواضع كثيرة من شعره استحسانا له، وإن لم يستوف هذا الغرض كله. فمنها قوله:
(أتحدث للأرواح راحة مطلق ... إذا فارقن، إن الجسوم سجون؟)
ومنها قوله:
(أتأسى النفس للجثمان تبلى ... وهل يأسى الحيا لفراق دجن)
(وما ضر الحمامة كشر ضنك ... من الأقفاص كما أصر سجن)
ووجدنا من لحنك وتصحيفك أنك لماوصلت إلى قول المعري:
(ولولا حفاظي قلت للمرء صاحبي ... [بسيفك] قيدها فلست أبالي)
1 / 40
أنكرت قولنا وكتبت في الطرة قول ابن مقبل اقعد به:
(يا صاحبي على ثاد سبيلكما ... علما يقينا الما تعلما خبري؟)
(إني أقيد بالمأثور راحلتي ... ولا أبالي لو كنا على سفر)
فاستطرفنا ما كتبته جدا، لأنك أردت أن تخطئنا من وجه واحد فأخطأت أنت من أربعة وجوه: أحدها: أنك كتبت "ثأد" بدال غير معجمة، وهمزت الألف، وإنما هو "ثاج" - بالجيم غير مهموز، وهو ماء لخثعم. وفيه قول الشاعر:
(يا دار مية بالخفين من ثاج ... سقيت أخلاف هامي الودق ثجاج)
1 / 41
والوجه الثاني: أنك كتبت "يا صاحبي" وإنما هو "يا جارتي"، كذا في شعر ابن مقبل. ويدل على صحة ذلك قوله قبل البيت:
(قالت سليمي ببطن القاع من سرع ... لا خير في العيش بعد الشيب والكبر)
(واستهزأت تربها مني فقلت لها ... ماذا تعيبان مني يا ابنتي عصر)
(لولا الحياء وباقي الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري)
(ما أنتما والذي خالت حلومكما ... إلا محيران إذ يسري بلا قدر)
ثم قال: يا جارتي، وعنى بالجارتين سليمي وتربها المتقدمتي الذكر.
والوجه الثالث: أنك قلت: "ولو كنا على سفري"؛ فأثبت ياء بعد الراء وكأنك توهمت أنه أضاف السفر إلى نفسه، وتأنقت في تعريق الباء غاية التأنق ليتحقق خطؤك غاية التحقق. وليس بعد هذه الراء إلا ياء الإطلاق، وهي ياء تزاد بعد حرف الروي للترنم إذا كان مكسورا، كما تزاد بعده واو إذا كان مضموما وألف إذا كان مفتوحا. ولا تصور [في] الخط من هذه الأحرف الثلاثة إلا ألف، وسبيلها سبيل التنوين، نحو قول جرير:
1 / 42
(أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت: لقد أصابا)
والوجه الرابع: أنك قلت: معنى بيت ابن مقبل: "أقعد" بمعنى بيت أبي العلاء. وهو لا يشبه إلا في ذكر التقييد بالسيف لا غير؛ لأن ابن مقبل أراد أن يعرقبها للأضياف جودا وكرما، وأراد المعري عرقبتها ضجرا من نزاعها إلى أوطانها وتبرما. وإن غلطك في هذا لعجيب، لأن الشعر يدل على ما قلناه دلالة لا تخفى على متأمل.
ووجدناك من خطئك أنك لما وصلت إلى قوله:
(فلولاك بعد الله ما عرف الندى ... ولا ثار بين الخافقين قتام)
انكرت قولنا: إن الخافقين هما المشرق والمغرب، وكتبت في طرة الكتاب، لتعلمنا بوجه الصواب: المعلوم أن "الخافقان": جانبا الأرض من الهواء، فأردت أن تخطئنا من وجه واحد فأخطأت أنت من ثلاثة أجوه، أحدها: أنك رفعت "الخافقين" وهما منصوبان بـ"أن"، ثم صححت عليها فكان تصحيحك على اللحن أشد من اللحن. والوجه الثاني: أنك جعلت قولنا غير معروف وقولك هو المعروف. وهذا من المقلوب الذي قلناه نحن هو يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق. وقال مثله أيضا في كتابه "المثنى والمكنى والمبنى". وكذلك قال أبو عبيد وأبو حاتم.
1 / 43
وكذلك قال الأصبهاني في كتاب "أفعل من كذا"، وقولك هو الذي ليس بمشهور لا قولنا.
والوجه الثالث من خطئك في هذه المسألة: أنك رأيت شيئا ولم تحسن العبارة عنه، أو رأيته في كتاب من لم يحسن إيراده فحكيت قوله.
وحقيقة هذا - أبقاك الله - أن هذه المسألة من المسائل التي أنكرها بعض اللغويين على يعقوب وقال: لا يصح أن يقال للمشرق والمغرب: خافقان، لأن الخافق هو [الهواء] المتحرك المضطرب، والمشرق والمغرب لا يوصفان بالاضطراب، إنما يضطرب الهواء فيهما أول الليل والنهار، فإنما ينبغي أن يقال لهما: مخفقان لا خافقان، كما يقال لموضع الضرب: مضرب، ولموضع الغرس: مغرس، وهكذا يقال للقفر الذي يخفق فيه السراب. قال رؤية:
(ومخفق من لهله ولهله)
وهذا الذي قاله هو المعترض على يعقوب حكاه من وجهين: أحدهما: أن يعقوب لم يقله وحده، يل قاله جماعة غير يعقوب. والثاني: أن العرب قد تأتي بالمفعول به والمفعول فيه على صيغة فاعل، كقولهم: ماء دافق، وعيشة راضية،
1 / 44
وسر كاتم، ونهارك صائم، وليلك قائم. ولو جمع هذا النوع لجاء منه جزء ضخم، فمنه قول جرير:
(لقد لمتنا يا أم غيلان في السري ... ونمت وما ليل المطي بنائم)
وقال علقمة:
(فظل الأكف يختلفن بخاند ... إلى جؤجؤ مثل المداك المخضب)
ووجدناك - أبقاك الله - لما انتهيت إلى قول المعري:
(وغيض السير عينيها فلو وردت ... نطافها الطير لم تشرب بلا شطن)
أنكرت "النطاف" وكتبت في الطرة: "جميمها" روايته وصوابه. ونحن نقول: بل هذا انقلاب معناه وفساده. أي مدخل للجميم في هذا الموضوع؟ وإنما المشهور في الجميم أنه من صفة النبات لا من صفة الماء. قال أهل اللغة: تسمى البهمى قبل
1 / 45
انعقاد ثمرتها جميما، فإذا انعقدت ثمرتها فهي بسرة، فإذا صارت كاللوزة قيل لها: صمعاء، وأنشدوا:
(رعت بارض البهمى جميما وبسرة ... وصمعاء حتى اثقبتها نصالها)
فأي مدخل لهذا في هذا الموضع؟
وإن كنت ذهبت إلى أن الجميم هو الماء المجتمع بمنزلة الجمة والجمام فذاك خطأ أيضا، لأن الماء لا يسمى بهذا الاسم إلا إذا جم وكثر لعد الاستسقاء منه، وعين الإبل عند الغؤور لا تشبه بالماء الكثير، إنما تشبه بالثمد من الماء، والنطاف: البقايا منه؛ ولذلك قال المعري في قصيدة أخرى:
(كأنا توقت وردنا ثمد عينها ... فضم إليه ناظريها جبينها)
فذكر الثمد وهو كالنطفة.
1 / 46
وقال القطامي:
(خوصا تدير عيونا ماؤها سرب ... على الخدود إذا ما اغرورق المقل)
(لواغب الطرف منقوبا حواجبها ... كأنها قلب عادية مكل)
فشبه عيون الإبل حين غارت بآبار قديمة جف ماؤها.
وقال العجاح:
(كأن عينيه من الغؤور ... قلتان في جوف صفا منقور)
(أذاك أم حوجلتا قارور ... غيرتا بالنضج والتصيير)
وقال الشماخ - ووصف حمير وحش-:
(فظلت بأعراف كأن عيونها ... إلى الشمس هل ترتو - ركي نواكز)
1 / 47
ووجدناك لما وصلت بالمطالعة إلى قول المعري:
(ثلاثة أيام هي الدهر كله ... وما هن غير اليوم والأمس والغد)
وجدت "غير" في البيت مرفوعا فأثبته في الطرة منصوبا، وضبطت النصب ضبطا محكما، فما الذي حاولته بما فعلت؟ أحسبت أن الرفع لا يجوز أم أردت أن "ما" يجوز نصب خبرها ورفعه؟ إن هذا لمن أعجب الأعاجيب.
ولقد أحسن القائل إذ يقول:
(وهلك الفتى ألا يراح إلى الندى ... وألا يرى شيئا عجيبا فيعجبا)
ووجدناك لما وصلت بالمطالعة إلى قوله:
(ولم يثبت القطبان فيه إلا تخيرا ... وما تلك إلا وقف عن تبلد)
ولم ترض بقولنا الذي قلناه، وكتبت: ما لنا ولهذا الاقتحام؟ ! وما أراد أن يصف طول الليل وثبوت النجم بثبوت القطبين وعدم الحركة؛ كما قال الكندي:
1 / 48
(كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل)
فما هذه الغفلة الشديدة؟ ! وهلا تأملت ما تقوله تأمل من يفكر في انتقاد المنتقدين واعتراض المعترضين؟
هذا الكلام فيه خطأ من وجهين: أحدهما: من جهة تنظير بيت المعري ببيت الكندي وغرض الشاعرين مختلف، وإن كان بين البيتين بعض المناسبة، لأن الكندي إنما أراد وصف طول الليل وثبات النجم، ولم يتعرض لذكر قطب ولا وصف قمر، والمعري لم يقصد في بيته إلى ذكر نجوم ولا وصف ليل، وإنما وصف قفرا مخوفا يفزع منه كل من يمر به من هوله. فعظم أمره بأن ذكر أن ثبات القطبين فيه ليس باختيار منهما وإنما هو من أجل أنهما فزعا من هول هذا القفز فوقفا وقفة حائر. ألا ترى أن قبله:
([خرق يطيل الجنح فيه سجوده ... وللأرض زي الراهب المتعبد)
(ولو نشدت نعشا هناك بناته ... لماتت ولم تسمع له صوت منشد)
(وتكتم فيه العاصفات نفوسها ... فلو عصفت بالنبت لم يتأود)
1 / 49
وقد يستحسن هذا المعنى ويصرفه في شعره كثيرا كقوله:
(كأن الصبا فيه تراقب كامنا ... يسور إليها من خلال إكامه)
(يمر به راد الضحى متنكرا ... مخافة أن يغتاله بقتامه)
(بلاد يضل النجم فيها سبيله ... ويثنى دجاها طيفها عن لمامه)
وإنما عرضت لك هذه الشبهة فيه لذكره الجنح وسجوده فحسبته يصف ليلا، وإنما يصف قفرا، وجعل من جملة هوله طول ليله، وليس يوجب ما عرض من وصف الليل في وصف القفر أن يقال: إنه وصف ليلا. كما أن ذكره ضلال النجم عن سبيله وصرف دجا هذه البلاد الطيف عن لمامه لا يوجب أن يقال: وصف الليل والنجوم، فهذا أحد الخطأين.
وأما الخطأ الثاني فقولك: إنه أراد ثبوت النجوم لثبوت القطبين؛ لأن ثبوت القطبين لا يوجب ثبوت النجوم؛ لأنها أبدا ثابتة والفلك دائر، والنجوم طالعة وغاربة، وهذا كلام من لا يحسن علم الهيئة.
ورأيناك لما وصلت إلى قول المعري:
1 / 50
(فلك دائر أبى فتياه ... ونية، أو يفقر الفتيان)
كتبت في الطرة "يفرق" بالرفع، فما هذا الغلط؟ أليست "أو" هذه هي التي تنصب بعدها الفعل المضارع في نحو قولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، ولأسيرن في البلاد أو استغنى، وقول أمرئ القيس:
(فقلت له: لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا؟)
وكذلك رأيناك لما وصلت بالنظر إلى قول المعري:
(فكأني ما قلت والليل طفل ... وشباب الظلماء في العنفوان)
(ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان)
كتبت في الطرة: "صوابه وروايته: والبدر طفل"، وحكيت عن شيخك أنه فسره فقال: يعني أول الشهر. وقد رأيت في الرواية في بعض النسخ "السقط" فلم أعرض عليها وأنزلتها منزلة الغلط؛ لأنه كلام متناقض، وذلك أنه لا يصح أن يوصف بالطفولية إلا الهلال، لأنه في أول نشئه. وأما البدر فلا يجب أن يقال له: طفل، لأن اسم البدر إنما يقع في حال تمامه وامتلائه. فمن سمى البدر طفلا كان كمن سمى الكهل صبيا، والتام ناقصا، فلا يصح أن يسمى البدر طفلا ولا هلالا، كما لا يصح أن
1 / 51
يسمى الهلال بدرا، وأما الليل فإنه يشبه في أول انبعاثه بالطفل، وفي حين انتصافه واستحكام ظلامه بالكهل، وفي حال إدباره بالشيخ، وفي ذلك كثير من الشعر.
فمن مليح ما جاء في ذلك قول أبي فراس:
(لبسنا رداء الليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب)
فجعل الليل في أوله كالطفل الرضيع، وفي آخره كالشيخ الأشيب.
وقد وصفه أبو العلاء بالاكتهال في قصيدة أخرى فقال:
(من الزنج كهل شاب مفرق رأسه ... وأوثق حتى نهضه متثاقل)
وقد ألممت ببعض هذا المعنى استحسانا له فقلت:
(ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شبت، أم في الجو روض بهار؟)
(كأن الليل الشفع في الأفق جمعت ... ولا فضل فيما بينها لنهار)
ومما يدل على أن ذكر البدر هنا غلط خروجه من التشبيه المذكور في البيت الذي بعده؛ لأنه شبه الليلة بسوداء، وشبه النجوم بقلائد الجمان ولم يشبه البدر ولا الهلال بشيء.
ورأيناك قد زدت في القصيدة المهموزة بيتا فاسد الوزن، وهو:
1 / 52
(أنت يا آد! آدم السرب حواؤك فيه حواء أو أدماء)
وهذا البيت إنما أسقطناه من الشعر متعمدين لإسقاطه لما فيه من الاستخفاف بآدم - صلى الله عليه - وهكذا فعلنا بكثير من شعره، وإنما ذكرنا منه ما لم له تأويل حسن، فكيف أفسدت علينا الكتاب بإثباته فيه وكان يجب أن تتنزه عنه كما تنزهنا؟ وقوله: "يا آد! " أراد: يا آدم فرخمه. وأما معناه فلا حاجة بنا إلى ذكره، فاذكره أنت إن شئت كما ألحقته.
ورأيناك لما وصلت إلى قوله:
(هذه الشهب خلتها شبك الدهر لها فوق أهله إلماء)
وقرأت تفسيرنا له فوجدتنا قد قلنا: إنه أراد أن الفلك محيط بالخلق والخلق في قبضته لا يقدرون على الخروج منه، فكأنه لما فيه من النجوم المشتبكة شبكة أرسلها قانص على صيد فهو يضطرب فيها ولا يقدر على التخلص منها، فحملك قلة التثبت على أن كتبت في الطرة: هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله - تعالى - ونسيت قول الله - على أن كتبت في الطرة: هذا اللفظ لا يطلق إلا على الله - تعالى - ونسيت قول الله ﷿: ﴿يا معشر الجن والإنس إن استطتعم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانقذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾ [الرحمن ٥٥: ٣٣] فوصف تعالى أن الخلق في قبضة الفلك لا يقدرون على الخروج منه، فلم يزد الشاعر على معنى الآية أكثر من تشبيه الفلك بالشبكة. فإن أنكرت أن يكون الفلك هو السماء بعينها أوجدناك. ذلك في القرآن العزيز، قال الله - جل من قائل -: ﴿تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا﴾ [الفرقان ٢٥: ٦١] وقال تعالى: ﴿ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجع الشمس سراجا﴾ [نوح ٧١: ١٥ - ١٦] فذكر في هاتين الآيتين العزيزتين أن الشمس والقمر في السماء. ثم قال في آية أخرى: ﴿ولا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون] [يس ٣٦: ٤٠] فنتج
1 / 53
من مجموع هذه الآيات أن الأفلاك [هي] السموات.
ولما وصلت إلى قوله:
(وإني لمئر يا بن آخر ليلة ... وإن عز مالي فالقنوع ثراء)
وجدت الناسخ قد عظم الراء فصارت كالنون، فنبهت عليه في الطرة أنها "مثر" لا "مثن". فهلا تأملت - أبقاك الله - الشرح فيكون لك فيه كاف ومغن؟ ! ولكن صدق الله - تعالى - إذ يقول: ﴿خلق الإنسان من عجل﴾ [الأنبياء ٢١: ٣٧]، وكذا فعل في مواضع كثيرة كتبت في الطرة ما كنت غنيا عن كتابته لو تأملت الشرح كفعلك حين وصلت بالمطالعة إلى قول المعري:
(بالله يا دهر أذق غرابها ... موتا من الصبح بباز كرز)
فإن وجدت الباء من "باز" قد سقطت عليها نقطة فتوهمت أنا رويناه: "ناز
- بالنون - فكتبت في الطرة: "صوابه بباز". فهلا قرأت الشرح فوجدت كلامنا على البازي، وتمثيلنا هذا البيت بقول تميم بن المعز؟:
1 / 54
(وكأن الصباح في الأفق باز ... والدجي بين مخلبيه غراب)
ما هذا الحيف - أبقاك الله - في الحكم، والميل إلى حيز الظلم؟ أظننتنا جهالا بهذا القدر، كما توهمت أننا ممن يكسر وزن الشعر، هل دلك كتابنا هذا على أن لنا حظا من كثير من العلوم، وتصرفا في الحديث منها والقديم؟ وقد ضمنا معنى بيت المعري في شعر صنعناه أيام الصبا، وقبل أن يعظنا واعظ النهي، ونحن نستغفر الله منه، ونسأله التجاوز عنه، وهو:
(يارب ليل قد هتكت حجابه ... بمدامة وقادة كالكوكب)
(يسعى بها أحوى الجفون كأنها ... من خده ورضاب فيه الأشنب)
(بدران: بدر قد أمنت غروبه ... يسعى ببدر جانح للمغرب)
(فإذا نعمت برشف بدر غارب ... فانعم برشفة طالع لم يغرب)
(حتى ترى زهر النجوم كأنها ... حول المجرة ربرب في مشرب)
1 / 55