واعلم أن أول ما ينبغي لك أن تصلح آلتك التي لا بد لك منها، وأدواتك التي لا تتم صناعتك إلا بها وهي: دواتك، فابدأ بعمارتها وإصلاحها وتخير لها ليقة نقية من الشعر والودج؛ لئلا يخرج على حرف قلمك ما يفسد كتابك، ويشغلك بتنقيته، وخذ من المداد الفارسي خمسة دراهم، ومن الصمغ العربي درهما، وعفصا مسحوقا نصف درهم، ورماد القرطاس المحرق درهمين، ثم تسحقها وتغربلها وتجمعها ببياض البيض، ثم بندقها واجعلها في الظل، فإذا احتجت إليها أخذت منها مقدار حاجتك، فكسرته وحشوت به دواتك، وإذا نقعته في ماء السلق حتى ينحل ويذوب ويختمر، ثم أمددت من مائه دواتك كان أجود وأنقى، ثم اختر بعد ذلك من أنابيب القلم الذي يصلح لكتابة القراطيس: أقله عقدة، وأكثفه لحما، وأجلبه قشرا، وأعدله استواء، وتجنب الأقلام الفارسية ما استطعت؛ فإنها ما تصلح إلا للكواغد والرقوق.
واجعل لقلمك براية حادة؛ فإن تعثر يد الكاتب وقت قطع القرطاس ناقص مروءته ومخل بظرفه، وإن قدرت ألا تقطع القرطاس، إذا فرغت من كتابك إلا بخرطوم قلمك فافعل؛ فإن ذلك أكمل لمروءتك وأبدع لظرفك وقطعك.
واستعمل لبري القلم سكينا طواويسيا مذلق الحد وميض الطرف، فيكون ذلك عونا لك على بري أقلامك؛ فإن محل القلم من الكاتب محل الرمح من الفارس، ولإن قيل: كأنه الرمح الرديني، فقد قال الكاتب: كأنه القلم البحري. وتفقد الأنبوبة قبل بريكها؛ لئلا تجعلها منكوسة، وأبرها من ناحية نبات القصبة، وأرهف ما قدرت جانبي قلمك؛ ليرد ما انتشر من المداد ولا تطل شقه؛ فإن القلم لا يمج المداد من شقه إلا مقدار ما احتملت شبتاه، فارفع شبتيه ليجمعا لك حواشي تحضيره، وأما قط القلم فعلى قدر القلم الذي يتعاطاه الكاتب من الخط، غير أن المسلسل لا يكاد يتسلسل إلا بالقلم المربع القط، كما أن كتب الملوك والسجلات لا تحسن إلا بالقلم المحرف الكوفي، وأما قلم اللازورد فهو المعتمد عليه، والمقصود إليه في النوائب والمهمات.
ورأيت كثيرا من الكتاب يختارون قلم النرجس لتجعده وتجانسه، ومن اللازورد أبسط منه وأقوم حروفا، وأما الموشع والمولع والمدبج والمنمنم والمسهم، فعلى قدر رشاقة خط الكاتب وحلاوة قلمه، وأما حسن الخط فلا حد له، قال علي بن زيز النصراني الكاتب: أعلمك الخط في كلمة واحدة لا تكتبن حرفا، حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف المبدوء به، وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره، حتى لا تعجل عنه إلى غيره، وإياك والنقط والشكل في كتابك، إلا أن تمر بالحرف المعضل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه، فلأن يشكل علي الحرف أحب إلي من أن يعاب بالنقط والإعجام. وقال المأمون لكتابه: إياي والشونيز في كتبكم، يعني: النقط؛ ولذلك قال ابن هاني:
لم ترض بالإعجام حين كتبته
حتى كتبت السب بالإعراب
ولا تغفل الصلاة على النبي - عليه الصلاة والسلام - فقد قال أبو العيناء: إن بني أمية هم الذين كانوا أمروا كتابهم، فطرحوا ذلك من كتبهم فجرت عادة الكتاب إلى يومنا هذا على ما سنوه، وقد قال - عليه الصلاة والسلام: «لا تجعلوني كقدح الراكب، ولكني اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه، وآخره» صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولا وأوسط وآخرا.
وأحب أن تجعل بدل الإشارة التراب، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «أتربوا كتبكم فإنه أنجح للحاجة.» ولا تدع التاريخ؛ فإنه يدل على تحقيق الأخبار وقربها وبعدها، وانظر إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه؛ فإن كان الماضي أقل من نصف الشهر قلت لكذا ليلة مضت من شهر كذا، وإن كان الباقي أقل من النصف قلت لكذا أيضا بقيت، وقد قال بعض الكتاب: إن الماضي من الشهر تحصيه والباقي لا تحصيه؛ لأنك لا تدري أيتم الشهر أو ينقص. وليس هذا بشيء؛ لأن تأريخ الكتاب ليس من الأحكام في شيء، وما على الكاتب أن يكتب إلا بما ظهر، وتبين لا بما يظن.
Unknown page