فإذا أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي رحلت الناس، فوقفت متنحية من معسكرك عدة لأمر إن راعك، ومفزعا لبديهة إن راعتك قد أمنت - بإذن الله وحوله - فجأة عدوك، وعرفت موقعها من حربك، حتى يأخذ الناس منازلهم وتوضع الأثقال مواضعها، ويأتيك خبر طلائعك وتخرج دباباتك من عسكرك دبابا محيطين بعسكرك، وعدة لك إن احتجت إليهم، وليكن دباب جندك بعسكرك أهل جلد وقوة قائد أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم في كل ليلة ويوم نوبا بينهم، فإذا غربت الشمس ووجب نورها، أخرج إليهم صاحب تعبيتك أبدالهم عسسا بالليل في أقرب من مواضع دباب النهار، يتعاور ذلك قوادك جميعا بلا محاباة لأحد منهم فيه، ولا ادهان، إن شاء الله.
إياك أن يكون منزلك إلا في خندق أو حصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدته، إذا وضعت الأثقال وخططت أبنية أهل العسكر، لم يمد خباء ولم ينتصب بناء حتى يقطع لكل قائد ذرع معلوم من الأرض بقدر أصحابه فيحتفروه عليهم ويبنوا بعد ذلك خنادق الحسك طارحين لها دون أشجار الرماح، ونصب الترسة لها بابان، قد وكلت بعد بحفظ كل باب منهما رجلا من قوادك في مائة رجل من أصحابه، فإذا فرغ من الخندق كان ذلك القائد أهلا لذلك المركز وكان المكان وموضع تلك الخيل. وكانوا هم البوابين والأحراس لذينك الموضعين ند إلى الرفاهة والسعة، وتقدم العسكر أو التأخر عنه؛ فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك، وأمنه به على جيشه.
واعلم أنك إذا أمنت - بإذن الله - طوارق عدوك وبغتاتهم، فإذا راموا ذلك منك كنت قد أحكمت ذلك، وأخذت بالجد فيه، وتقدمت في الإعداد له، ورتقت مخوف الفتق منه، إن شاء الله.
إذا ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعا في ... حذرا معدا مشمرا عن ساقك مسربا لحربك قد قدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفت لك ... التي قدرت لك وطلائعك حيث أمرتك، وجندك حيث عبأت قد خطرت عليهم بنفسك، وتقدم إلى جندك إن طرق طارق أو فاجأهم عدو ألا يتكلم أحد منهم إلا رافعا صوته بالتكبير، مستغفرا في إجلاب معلنا للإرهاب إلا أهل الناحية التي يقع بها العدو طارقا، وليشرعوا رماحهم مادين لها في وجوههم، ويرشقهم بالنبل ملبدين ترستهم لازمين لمراكزهم ... قدم عن موضعها، ولا منحازين إلى غير مركزهم وليكبروا ثلاث تكبيرات متواليات، وسائر الجند هادون ... عدوك من معسكرهم، فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطك، ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد، وتدس لهم النشاب والرماح، وإياك أن يشهروا سيفا يتجالدون به وتقدم إليهم فلا يكون قتالهم بالليل في تلك المواضع من طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم، والنشاب راشقين به وجوههم، قد ألبدوا بالترسة واستجنوا بالبيض، وألقوا عليهم سوابغ الدروع وحباب الحشو؛ فإن صد العدو عنهم حاملين على ناحية أخرى كبر أهل تلك الناحية الأولى وبقية العسكر سكون، والناحية التي صدر عنها العدو لازمة لمراكزها، فعلت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم، وإياك وأن تخمد نار رواقك، وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرا لها، وأوقدها حطبا جزلا يعرف بها أهل العسكر مكانك وموضع رواقك، ويسكن نافر قلوبهم ويقوي واهن قوتهم، ويشتد منخذل ظهورهم، ولا يرجفون فيك بالظنون ويجيلون لك آراء السوء، وذلك من فعلك رد عدوك بغيظه، ولم يستقل منك بظفر ولم يبلغ من نكايتك سرورا - إن شاء الله.
فإن انصرف عنك عدوك، ونكل عن الإصابة من جندك. وكان بخيلك قوة على طلبه، أو كانت لك خيل معدة، وكتيبة منتخبة قدرت أن تركب بهم أكتافهم، وتحملهم على سننهم فأتبعهم جريدة خيل عليها الثقات من فرسانك، وأولو النجدة من حماتك؛ فإنك ترهق عدوك، وقد أمن بياتك وشغل بكلاله عن التحرز منك، والأخذ بأبواب معسكره، والضبط لمحارسه، موهنة حماتهم، لغبة أبطالهم لما ألفوكم عليه من التشمير والجد، قد عقر الله فيهم، وأصاب منهم وجرح من مقاتلتهم، وكسر من أماني ضلالتهم، ورد من مستعلي جماحهم، وتقدم إلى من توجه طلبهم وتتبعه أن يكونوا، وهم في سكون الريح وقلة الرفث وكثرة التسبيح والتهليل، واستنصار الله - عز وجل - بقلوبهم وألسنتهم، سرا وجهرا بلا لجب ضجة ولا ارتفاع ضوضاء دون أن يردوا على مطلبهم، وينتهزوا فرصهم ثم يشهروا السلاح وينضوا السيوف؛ فإن لها هيبة رائعة وبديهة مخوفة، لا يقوم لها في بهمة الليل إلا البطل المحارب وذو البصيرة المحامي المستميت المقاتل، وقليل ما هم عند تلك المواضع، إن شاء الله.
ليكن أول ما تقدم به في التهيؤ لعدوك، والاستعداد للقائه انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجد والصرامة، ممن قد اعتاد طراد الكماة، وكشر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، ثقف الفراسة مستجمع القوة مستحصد المريرة صبورا على أهوال الليل، عارفا بمناهز الفرص، لم تمهنه الحنكة ضعفا، ولا أبلغت به السن ملالا ولا أسكرته غرة الحداثة جهلا، ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفا، جريئا على مخاطرة التلف متقدما على أدراع الموت، مكابرا لمرهوب الهول، متقحما مخشي الحتوف، خائضا غمرات المهالك برأي يؤيده الحزم، ونية لا يخلجها الشك وأهواء مجتمعة، وقلوب موقنة عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها، وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين ثم اعرضهم رأي عين على كراعهم وأسلحتهم، ولتكن دوابهم إناث عتاق الخيول وأسلحتهم سوابغ الدروع، وكمال آلة المحارب متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجواهر وصافي الحديد، والمتخيرة من معادن الأجناس هندية الحديد، أو بدنية يمانية الطبع، رقاق المضارب مستوية الشحذ مشطبة الضريبة، ملبدين بالترسة الفارسية صينية التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد أنحاؤها مربعة، ومحارزها بالتجليد مضاعفة، ومحملها مستخف، وكنائن النبل وجعاب القسي قد استحقبوها، وقسي الشريان والنبع أعرابية الصنعة، مختلفة الأجناس محكمة العمل ونصول النبل مسمومة، وتركيبها عراقي وترييشها بدوي مختلفة الصوغ في الطبع شتى الأعمال في التشطيب والاستزادة، ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض، منبسطة الأسنة، سهلة الانعطاف، مقربة الانحناء ممكنة المرمى، واسعة الأسهم فرضها سهلة الورود، معاطفها غير معنون المواتاة.
ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك، وتقدم إليهم في ضبطهم وكف بطشهم ... واستنزل نصائحهم واستعداد طاعتهم، واستخلاص ضمائرهم، وتعهد كراعهم وأسلحتهم، معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل العسكر وعامة جندك، ثم اجعلهم عدة لأمر إن فاجأك أو طارق بيتك، ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة وحذرهم؛ فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك، فليكونوا كرجل واحد في التشمير والتردف وسرعة الإجابة؛ فإنك إن عسيت ألا تجد عند جماعة جندك مثل تلك الروعة والمباغتة، إن احتجت إلى ذلك منهم معونة كافية ولا أهبة معدة، بل ذلك كذلك فاذكرها وول الذي يبعث عدتك وقوتك تقويا، قد قطعتها على القواد الذين وليتهم أمورهم فسميت أولا وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا إلى عشرة؛ فإن اكتفيت فيما يبدهك ويطرقك لبعث واحد كان معدا لم تحتج فيه إلى امتحانهم في ساعتهم تلك، وقطع البعث عليهم عندما يرهقك، وإن احتجت إلى اثنين وثلاث، وجهت منهم إرادتك، إن شاء الله.
وكل بخزائنك ودواوينك رجلا أمينا صالحا ذا ورع حاجز ودين فاضل، واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها وترحلها مع خزائنك، وتقدم إليه في حفظها والتوفر عليها، واتهام من يستولي على شيء منها على إضاعته والتهاون به، والشدة على من دنا منها في مسير أو ضامها في منزل، وليكن عامة الجند والجيش إلا من استصلحت للمسير معها متنحين عنها مجانبين لها؛ فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة؛ فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل، وحفظ لها وذب عنها أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها، حتى يكاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة؛ فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير، وإنما همتهم الشر، فإياك وأن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع، أو يجدوا إلى اغتيالها ومررتها، إن شاء الله.
اعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة، وأبعدها صوتا في حسن القالة ما نلت الظفر فيه بحسن الروية وحزم التدبير ولطف الحيلة، فلتكن رويتك في ذلك، وحرصك على إصابته لا بالقتال وأخطار التلف، وادسس إلى عدوك وكاتب رءوسهم وقادتهم، وعدهم المنالات، ومنهم الولايات، وسوغهم التراب، وضع عنهم الإحن، واقطع عنهم أعناقهم بالمطامع، واملأ قلوبهم بالترهيب، وإن أمكنتك منهم الدوائر، وأصار بهم إليك الرواجع، وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم، أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة، ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جوابات كتب لهم إليك، وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم، ويحمل بها صاحبهم عليهم، وتنزلهم عنده منزلة التهمة، فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم، وتشتيت جماعتهم واحش قلوبهم سوء الظن من واليهم، فيوحشهم منه خوفهم إياه على أنفسهم إذا أيقنوا بأنها مناياهم؛ فإن بسط يده بقتلهم وأولغ في دمائهم سيفه، وأسرع في الوثوب بهم أشعرهم جميعا الخوف، وشملهم الرعب ودعاهم إليك الهرب، وتهافتوا نحوك بالنصيحة، وإن كان متأنيا محتملا رجوت أن تستميل إليك بعضهم، وتستدعي بالطمع ذوي الشره منهم، وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم، إن شاء الله.
إذا تدانى الصفان وتواقف الجمعان واحتضرت الحرب، فعبأت أصحابك لقتال عدوهم فأكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله، والتوكل على الله، والتفويض إليه ومسألته توفيقك وإرشادك، وأن يعزم لك على الرشد، والعصمة الكالئة والحيطة الشاملة.
Unknown page