لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقال:
هم سودوا نصرا وكل قبيلة
يبين عن أحلامها من يسودها
وإن أمر هذه الصحابة قد كان فيه أعاجيب دخلت فيه مظالم، أما العجب فقد سمعنا من الناس من يقول: ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة، ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور في أهل مصر قد غبر عامة دهره صانعا يعمل بيده ولا يعتد مع ذلك ببلاء ولا غناء، إلا أنه مكنه من الأمر صاغ فاحتوى حيث أحب، فصار يؤذن له على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين وأهل بيوتات العرب، ويجري عليه من الرزق الضعف مما يجري على كثير من بني هاشم وغيره من سروات قريش ويخرج له من المعونة على نحو ذلك، لم يضعه بهذا الموضع رعاية رحم ولا فقه في دين ولا بلاء في مجاهدة عدو معروفة ماضية متتابعة قديمة، ولا غناء حديث ولا حاجة إليه في شيء من الأشياء ولا عدة يستعد بها. وليس بفارس ولا خطيب ولا علامة إلا أنه خدم كاتبا أو حاجبا، فأخبر أن الدين لا يقوم إلا به حتى كتب كيف شاء، ودخل حيث شاء.
وأما المظلمة التي دخلت في ذلك فعظيمة، قد خصت قريشا وعمت كثيرا من الناس وأدخلت على الأحساب والمروءات محنة شديدة وضياعا كثيرا؛ فإن في إذن الخليفة والمدخل عليه والمجلس عنده وما يجري على صحابته من الرزق والمعونة، وتفضيل بعضهم على بعض في ذلك حكما عظيما على أن الناس في أنسابهم وأخطارهم وبلاء أهل البلاء منهم، وليس ذلك كخواص المعروف ولطيف المنازل، أو الأعمال التي يختص بها المولى من أحب، ولكنه باب من القضاء جسيم عام يقضى فيه للماضين من أهل السوابق والمآثر من أهل الباقين وأهل البلاء والغناء بالعدل، أو بما يحال فيه عليهم ؛ فإن أحق المظالم بتعجيل الرفع والتغيير ما كان ضره عائبا. وكان للسلطان شائنا، ثم لم يكن في رفعه مؤنة ولا شغب ولا توغير بصدور عامة ولا للقوة ولا إضرار سبب.
ولصحابة أمير المؤمنين - أكرمه الله - مزية وفضل، وهي مكرمة سنية حرية أن تكون شرفا لأهلها وحسبا لأعقابهم حقيقة أن تصان وتحظر، ولا يكون فيها إلا رجل بدر بخصلة من الخصال، ومن رجل له عند أمير المؤمنين خاصة بقرابة، أو رجل يكون شرفه ورأيه وعمله أهلا بمجلس أمير المؤمنين وحديثه ومشورته، أو صاحب نجدة يعرف بها ويستعد لها يجمع مع نجدته حسبا وعفافا، فيرفع من الجند إلى الصحابة، ورجل فقيه مصلح يوضع بين أظهر الناس لينتفعوا بصلاحه وفقهه، أو رجل شريف لا يفسد نفسه أو غيرها، فأما من يتوسل بالشفاعات فإنه يكتفي أو يكتفى له بالمعروف والبر فيما لا يهجن رأيا، ولا يزيل أمرا عن مرتبته، ثم تكون تلك الصحبة المخلصة على منازلها ومداخلها، لا يكون للكاتب فيها أمر في رفع رزق ولا وضعه ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر فتيان أهل بيته، وبني أبيه وبني علي وبني العباس؛ فإن فيهم رجالا لو متعوا بجسام الأمور والأعمال سدوا وجوها. وكانوا عدة لأخرى.
ومما يذكر به أمير المؤمنين أمر الأرض والخراج؛ فإن أجسم ذلك وأعظمه خطرا وأشده مؤنة وأقربه من الضياع ما بين سهله وجبله ليس لها تفسير على الرساتيق والقرى، فليس للعمال أمر ينتهون إليه ولا يحاسبون عليه، ويحول بينهم وبين الحكم على أهل الأرض بعدما يتأنقون لها في العمارة ويرجون لها فضل ما تعمل أيديهم، فسيرة العمال فيهم إحدى ثنتين: إما رجل أخذ بالخرق والعنف من حيث وجد وتتبع الرجال والرساتيق بالمغالاة ممن وجد، وإما رجل صاحب سماحة يستخرج ممن زرع، ويترك من لم يزرع فيعمر من عمر ويسلم من أخرب، مع أن أصول الوظائف على الكور لم يكن لها ثبت ولا علم. وليس من كورة إلا وقد غيرت وظيفتها مرارا فخفيت وظائف بعضها وبقيت وظائف بعض ، فلو أن أمير المؤمنين أعمل رأيه في التوظيف على الرساتيق والقرى والأرضين وظائف معلومة وتدوين الدواوين بذلك، وإثبات الأصول حتى لا يؤخذ رجل إلا بوظيفة قد عرفها وضمنها، ولا يجتهد في عمارة إلا كان له فضلها ونفعها؛ لرجونا أن يكون في ذلك صلاح للرعية وعمارة للأرض، وحسم لأبواب الخيانة وغشم العمال، وهذا رأي مؤنته شديدة ورجاله قليل ونفعه متأخر. وليس بعد هذا في أمر الخراج إلا رأي قد رأينا ... المؤمنين أخذ به، ولم نره من أحد قبله من تخير العمال وتفقدهم، والاستعتاب لهم والاستبدال بهم.
Unknown page