الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تميمة الحراني الدمشقي المتوفى ٧٢٨ هـ
ولد الإمام العلامة ابن تميمة (١) سنة ٦٦١ هـ في أيام الملك الظاهر بيبرس والذي كان حاكما على مصر والشام آنذاك، وقد كان من أقوى الملوك المسلمين بعد صلاح الدين الأيوبي.
وقد ولد ابن تيمية بعد تدمير بغداد بخمس سنوات، ودخل التتار حلب ودمشق قبل مولده بثلاث سنوات فلما شب وكبر وحكى له معاصر وهذه الحملات الضارية الوحشية من التتار، حتى أن مسقط رأسه (حران) لم تسلم من أذى هؤلاء القوم المجرمين الذين لم يراعوا الله ولا الإنسانية في هذه البلاد الآمنة.
وسمع ابن تيمية ورأى وهو صبي أنهار الدماء المسفوك المسفوح تجري حوله من كل مكان وهو ابن سبع سنين تقريبا في بلدته حران التي نشأت فيها أسرته وبيته.
وفي هذا الجو المشحون بالكمد والإحن نهض لفيف من العلماء والأئمة الكبار والفقهاء أمثال ابن الصلاح والنووي والعز بن عبد السلام والمزي والذهبي، كما نبغ في عصر ابن تيمية أيضا قاضي القضاة كمال الدين
_________
(١) راجع ترجمة شيخ الأسلام ابن تيمية في فوات الوفيات (١ / ٣٥ - ٤٥) والدرر الكامنة (١ / ١٤٤) والبداية والنهاية (١٤ / ١٣٥) وابن الوردي (٢ / ٢٨٤) وآداب اللغة (٣ / ٢٣٤) والنجوم الزاهرة (٩ / ٢٧١) وتهذيب ابن عساكر (٢ / ٢٨) ودائرة المعارف الإسلامية (١ / ١٠٩) (*)
1 / 175
الزملكاني، والقزويني والسبكي وابن حيان التوحيدي.
ورغم وجود هؤلاء العلماء الأفذاذ إلا أن العلماء كان مقسما بالبساطة والسطحية وقلة التعمق في المسائل الفقهية والشرعية.
واتسم الفقه آنئذ بالجمود والتحجر وليس ثمة أضر على الإسلام والمسلمين من تحجر الفكر وجمود القرائح وهذا ما حدث إبان الحروب التترية والصليبية في عصر ابن تيمية.
وإذا احتدمت الحروب لجأ الناس إلى الدين، وما أضر الناس ولا أضر المسلمين مثل القضايا الجدلية والمسائل الكلامية والفلسفة السفسطائيه التي تظهر فصاحة وبيانا وتضمر جهلا مشينا بحقائق الدين وفطرته الجميلة.
وقد كانت أسرة العلامة الفقيه الحافظ ابن تيمية أسرة علم وفضل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بل كانت زعيمة للمذهب الحنبلي في تلك الديار إذ كان جده إماما للمذهب الحنبلي في عصره قال الذهبي: - (قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية بنفسه أن الشيخ ابن مالك كان يقول: لقد ألان الله الفقه لممجد الدين بن تيمية كما ألان الحديد لداود ﵇ ا.
هـ.
وقد درس ابن تيمية العلوم المعروفة في عصره وعني عناية خاصة باللغة العربية والنحو والصرف كما اهتم بدراسة الحساب والرياضية والحظ وأبدي اهتماما خاصا بالفقه وعلم الأصول والحديث والتفسير وعلم الفرائض، ولعل علم التفسير كان من أحب العلوم وآثرها عند ابن تيمية حتى قيل إنه كان يقرأ
في الآية الواحدة نحو مائة تفسير، تأمل قوله في ذلك: - (ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول يا معلم آدم وابراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني) ا.
هـ.
1 / 176
وقد كان ابن تيمية ﵀ متوقد الذكاء كثير الزكانة والفطنة سريع الفهم والاستيعاب فقد كان يفتي في أمور الدين وهو ابن الثانية والعشرين من عمره.
ومصنفاف ابن تيمية ومؤلفاته تدل على سعة اطلاعه وعمق ثقافته وقوة شخصية فهو عند ما يعرض لمسائلة من المسائل أو قضية من القضايا يحشد لك كل البراهين والأدلة العقلية والعلمية ليقوى بها حجته ويؤكد بها رأيه وهو لا ينفك يستشهد بآيات القران الكريم في كل ما يتعرض له من أدلة وأثباتات فقهية أو شرعية وهو بذلك لا يترك القارئ حتى يقنعه تماما بوجهة نظره وصلابة رأيه.
ولا يخفى على أحد أن ابن تيمية حمل لواء بعث الفكر الأسلامي وتجديد العلوم الشرعية ورفع لواء التوحيد ومحاربة البدع والأهواء والردود العنيفة القوية على الفرق الهالكة التي كادت للإسلام ونقده العنيف المر للفلسفة والميتا فيزيقا وعلم الكلام وترجيح منهج الكتاب والسنة وأسلوبهما على كل أسلوب ومنهج.
لقد كان ابن تيمية حربا حامية الوطيس لم يخمد لظاها وما أخبى سعيرها على رعونة المبتدعين في عصرة إنما كان سيفا مصلتا على رقاب الخارجين والمارقين المرجفين.
وقد أورد الحافظ ابن كثير في كتابه التاريخي المشهور (البداية والنهاية)
كثيرا من مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره.
وقد كانت ثمة صراعات شتى بين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية من ناحية وبين الصوفية من ناحية أخرى وقد شدد على أقطابهم ولا سيما الذين قالوا بالحلول وبالوحدة أمثال محيى الدين بن عربي والحلاج ورماهم بالزندقة والكفر والإلحاد.
ولقاء إخلاصه في دعوته كابد ابن تيمية ﵀ وعانى من البطش والتعذيب فقد كادله خصومه وأعداؤه ودخل السجن مرات عديدة، وقد توفي وهو في السجن ﵀ وجزاه عن الإسلام خيرا وألحقنا به في دار كرامته.
آمين.
السيد الجميلي
1 / 177
عملنا في هذا الكتاب
* قمنا بتحقيق النصوص من مجموع الفتاوي لابن تيمية وقد تضمنها المجلد السابع والعشرون من ص ٤٥٠ إلى ص ٤٩٠.
* ناقشنا آراء ابن تيمية وفي حالة عدوله عن الحقيقة - بحسن نية طبعا - رددنا عليه بآراء العلماء والمؤرخين الكبار الذين أخذ عنهم مثل الطبري والمسعودي وابن عبد ربه والقاضي ابن العربي والأمام القرطبي.
* قمنا بتصويب الأخطاء الإملائية والتصحيفات والتحريفات وشرحنا معاني الألفاظ الغامضة.
* خرجنا الآيات والأحاديث التي أوردها ابن تيمية ﵀ حتى تكتمل الفائدة ويتيسر النقع.
* أبدينا رأينا الشخصي في بعض المواضع التي تقتضي ذلك.
* رحم الله ابن تيمية ومن نهج نهجه وحمل لواءه في نصر السنة وقمع البدعة.
1 / 179
بسم الله الرحمن الرحيم *
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وهداة المسلمين، ﵃ أجمعين، وأعانهم على تحقيق الحق المبين، وإخماد شغب المبطلين: في المشهد المنسوب إلى الحسين ﵁ بمدينة القاهرة: هل هو صحيح أم لا؟ وهل حمل رأس الحسين إلى دمشق، ثم إلى مصر، أم حمل إلى المدينة من جهة العراق؟.
وهل لما يذكره بعض الناس من جهة المشهد الذي كان بعسقلان من صحة أم لا؟.
ومن ذكر أمر رأس الحسين، ونقله إلى المدينة النبوية دون الشام ومصر؟.
ومن جزم من العلماء المتقدمين والمتأخرين بأن مشهد عسقلان ومشهد القاهرة مكذوب، وليس بصحيح؟ وليبسطوا القول في ذلك، لأجل مسيس الضرورة والحاجة إليه، مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى.
1 / 181
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله * بل المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي ﵄ الذي بالقاهرة كذب مختلق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين
يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك، لعلمهم وصدقهم.
ولا يعرف عن عالم مسمى معروف بعلم وصدق أنه قال: إن هذا المشهد صحيح.
وإنما يذكره بعض الناس قولا عمن لا يعرف، على عادة من يحكي من مقالات الرافضة (١) وأمثالهم من أهل الكذب.
* فإنهم ينقلون أحاديث وحكايات، ويذكرون مذاهب ومقالات.
وإذا
_________
(١) ومن الروافض السبئية الذين أظهروا بدعتهم في زمان علي رضى الله عنه، فقال بعضهم لعل أنت الإله، فأحرق على قوما منهم، ونفى زعيمهم عبد الله بن سبأ إلى ساباط المدائن، وهذه ليست فرقة إسلامية لأنهم قالوا أن عليا إله.
ثم افترقت الرافضة - بعد زمان علي ﵁ أربعة أصناف: زيدية وإمامية، وكيسانية وغلاة، وافترقت الزيدية فرقا والإمامية فرقا، والغلاة فرقا، وكل فرقة تكفر سائرها، وجميع فرق الغلاة خارجون عن فرق الاسلام، وقد جعل البغدادي فرقة الزيدية من الرافضة، مع أن الزيدية أتباع زيدين على الباقين على أتباع والرافضة هم الذين كانوا معه ثم تركوه.
راجع الفرق بين الفرق للبغدادي بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ص ٢١ بتصرف ط.
دار المعرفة بلبنان، ومقالات الاسلاميين (١ / ١٢٩) ومروج الذهب للمسعودي (٣ / ٢٢٠) ط.
دار المعرفة أيضا.
وعن الكيسانية أرجو مراجعة مروج الذهب (٣ / ٨٧) وعن الإمامة تحدث المسعودي أيضا (٣ / ٢٣٦) فراجعه.
(*)
1 / 183
طالبتهم بمن قال ذلك ونقله؟ لم يكن لهم عصمة يرجعون إليها.
ولم يسموا أحدا معروفا بالصدق في نقله، ولا بالعلم في قوله.
بل غاية ما يعتمدون عليه.
أن يقولوا: أجمعت طائفة الحقة.
وهم عند أنفسهم الطائفة الحقة، الذين هم عند أنفسهم المؤمنون، وسائر الأمة كفار.
* ويقولون: إنما كانوا على الحق لأن فيهم الإمام المعصوم، والمعصوم عند الرافضة الإمامية الاثنى عشرية (١): هو الذي يزعمون أنه دخل سرداب
سامرا بعد موت أبيه الحسن بن علي العسكري، سنة ستين ومائتين.
وهو إلى الآن لم يعرف له خبر، ولا وقع له أحد على عين ولا أثر.
* وأهل العلم بأنساب أهل البيت (٢) يقولون: إن الحسن بن علي العسكري لم يكن له نسل ولا عقب.
ولا ريب أن العقلاء كلهم لا يعدون مثل هذا القول.
واعتقاد الإمامة والعصمة في مثل هذا: مما لا يرصاه لنفسه إلا من هو أسفه الناس، وأضلهم وأجهلهم.
وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا (٣) .
* والمقصود هنا: بيان جنس المقولات والمنقولات عند أهل الجهل والضلالات.
فإن هذا المنتظر عند الجهال الضلال: يزعمون أنه عند موت أبيه.
كان عمره إما سنتين، أو ثلاثا، أو خمسا، على اختلاف بينهم في ذلك.
* وقد علم بنص القرآن والسنة المتواترة، وجماع (٤) الأمة: أن مثل هذا يجب أن يكون تحت ولاية غيره في نفسه وماله.
فتكون نفسه محضونة مكفولة لمن
_________
(١) والامامية خمس عشرة فرقة منها الاثنا عشرية.
راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ص ٢٣ بتصرف.
(٢) مثل الزبير بن بكار نسابة قريش.
(٣) راجع كتابة (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) .
(٤) كذا ورد بالاصل ولعل الأصوب (إجماع) (*)
1 / 184
يستحق كفالته الشرعية، تحت من يستحق النظر في ماله من وصى أو غيره.
وهو قبل السبع لا يؤمر بالصلاة.
فإذا بلغ السبع أمر بها، فإذا بلغ العشر ولم يصل أدب على فعلها.
فكيف يكون مثل هذا إماما معصوما، يعلم جميع
الدين، ولا يدخل الجنة إلا من يؤمن به؟ ! * ثم بتقدير وجوده، وإمامته وعصمته، إنما يجب على الخلق أن يطيعوا من يأمرهم بما أمرهم الله به ورسوله، وينهاهم عما نهاهم عنه الله ورسوله، فإذا لم يروه ولم يسمعوا كلامه، لم يكن لهم طريق إلى العلم بما يأمر به وما ينهي عنه، فلا يجوز تكليفهم طاعته، إذ لم يأمر هم بشئ، وطاعته من لا يأمر، ممتنعة لذاتها.
وإن قدر أنه يأمر، ولم يصل إليهم أمره، ولا يتمكنون من العلم بذلك، كانوا عاجزين غير مطيقين لمعرفة ما أمروا به، والتمكن من العلم شرط في الأمر، لا سيما عند الشيعة المتأخرين، فإنهم من أشد الناس منعا لتكليف ما لا يطاق، لموافقتهم المعتزلة في القدر والصفات أيضا.
* وإن قيل: إن ذلك بسبب ذنوبهم، لأنهم أخافوه أن يظهر.
قيل: هب أن أعداءه أخافو، فأي ذنب لأوليائه ومحبيه، وأي منفعة لهم من الإيمان به، وهو لا يعلمهم شيئا ولا يأمرهم بشئ؟ ثم كيف جاز له - مع وجوب الدعوة عليه - أن يغيب هذه الغيبة التي لها الآن (١) أكثر من أربعمائة وخمسين سنة.
* وما الذي يسوغ له هذه الغيبة، دون آبائهم الموجودين قبل موتهم: كعلي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسين بن علي العسكري؟ ! * فإن هؤلاء كانوا موجودين يجتمعون بالناس وقد أخذ عن علي والحسن
_________
(١) الآن أي عصر ابن تيمية ﵀ المتوفي سنة ٧٢٨ هـ ومن هذه الغيبة إلى عصرنا هذا ١١٣٧ سنة هـ.
(*)
1 / 185
والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد - من العلم ما هو معروف عند أهله، والباقون لهم سبر معروفة، وأخبار مشكوفة.
* فما باله استحل هذا الاختفاء هذه المدة الطويلة أكثر من أربعمائة سنة، وهو إمام الأمة، بل هو على زعمهم، هاديها وداعيها ومعصومها، الذي يجب عليها الأيمان به.
ومن لم يؤمن به فليس بمؤمن عندهم؟ فإن قالوا: الخوف.
قيل: الخوف على آبائه كان أشد، بلا نزاع بين العلماء، وقد حبس بعضهم.
ثم الخوف إنما يكن إذا حارب.
فأما إذا فعل كما كان يفعل سلفه من الجلوس مع المسلمين وتعليمهم لم يكن عليه خوف.
* وبيان ضلال هؤلاء طويل.
وإنما المقصود بيانه هنا: أنهم يجعلون هذا أصل دينهم.
ثم يقولون: إذا اختلفت الطائفة الحقة على قولين، وأحدهما يعرف قائله، والآخر، لا يعرف قائله، كان القول الذي لا يعرف قائله الحق، وهكذا وجدته في كتب شيوخهم، وعللوا ذلك، بأن القول لا يعرف هو قائله يكون من قائليه الإمام المعصوم، وهذا نهاية الجهل والضلال.
* وهكذا ما ينقلونه من هذا الباب، ينقلون سيرا وحكايات وأحاديث، إذا ما طالبتهم بإسنادها، لم يحلوك على رجل معروف بالصدق، بل حسب أحدهم أن يكون سمع ذلك من آخر مثله، أو قرأه في كتاب ليس فيه إسناد معروف، وإن سموا أحدا: كان من المشهورين بالكذب والبهتان.
لا يتصور قط أن ينقلوا شيئا مما لا يعرفه علماء السنة إلا عن مجهول لا يعرف، أو عن معروف بالكذب.
* ومن هذا الباب نقل الناقل: أن هذا مشهد الحسين ﵁، بل وكذلك مشاهير غير هذا مضافة إلى الحسين، بل ومشاهد مضافة إلى قبر
1 / 186
الحسين ﵁، فإنه باتفاق الناس: أن هذا المشهد بني عام بضع وأربعين وخمسمائة وأنه نقل من مشهد بعسقلان! وأن ذلك المشهد - بعسقلان - كان قد أحدث بعد التسعين وأربعمائة.
* فأصل هذا المشهد القاهري هو ذلك المشهد العسقلاني.
وذلك العسقلاني محدث بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا بعد مقتله بقريب من خمسمائه سنة، وهذا مما لم يتنازع فيه اثنان ممن تكلم في هذا الباب من أهل العلم، على اختلاف أصنافهم - كأهل الحديث، ومصنفي أخبار القاهره، ومصنفي التواريخ، وما نقله أهل العلم طبقة عن طبقة (١) .
وهذا بينهم مشهور متواتر، سواء قيل: إن إضافته إلى الحسين صدق أو كذب - لم يتنازعوا أنه نقل من عسقلان في أواخر الدولة العبيدية.
* وإذا كان أصل هذا المشهد القاهري هو ما نقل عن ذلك المشهد العسقلاني باتفاق الناس وبالنقل المتواتر، فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبنى على رأس الحسين ﵁: قول بلا حجة أصلا.
فإن هذا لم ينقله أحد من أهل العلم الذين من شأنهم نقل هذا لا من أهل الحديث.
ولا من علماء الأخبار والتواريخ، ولا من العلماء المصنفين في النسب: نسب قريش أو نسب بني هاشم ونحوه.
* وذلك المشهد العسقلاني: أحدث في آخر المائة الخامسة، لم يكن قديما، ولا كان هناك مكان قبله، أو نحوه مضاف إلى الحسين، ولا حجر منقوش ولا نحوه مما يقال، إنه علامة على ذلك.
* فتبين بذلك: أن إضافة المضيف مثل هذا إلى الحسين قول بلا علم أصلا.
وليس مع قائل ذلك ما يصلح أن يكون معتمدا، لا نقل صحيح ولا
ضعيف، بل لا فرق بين ذلك وبين أن يجئ الرجل إلى بعض القبور التي
_________
(١) يقول القرطبي في التذكرة (٢ / ٦٦٨): (والإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من القتل، وهو يوم معروف عندهم يسمون الزيادة فيه زيادة الأربعين، وما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشئ باطل لا يصح ولا يثبت) م هـ.
(*)
1 / 187
بأمصار المسلمين، فيدعى أن في واحد منها رأس الحسين أو يدعى أنه قبر نبي من الأنبياء، أو نحو ذلك مما يدعيه كثير من أهل الكذب والضلال.
* ومن المعلوم أن مثل هذا القول غير مقبول باتفاق المسلمين.
* وغالب ما يستند إليه الواحد من هؤلاء: أن يدعى أنه رأى مناما، أو أنه وجد بذلك القبر علامة تدل على صلاح ساكنه: إما رائحة طيبة، وإما خرق عادة ونحو ذلك، وإما حكاية عن بعض الناس: أنه كان يعظم ذلك القبر.
* فأما المنامات فكثير منها، بل أكثرها كذب وقد عرفنا في زماننا بمصر والشام والعراق من يدعي أنه رأي منامات تتعلق ببعض البقاع إنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، ونحو ذلك، ويكون كاذبا.
وهذا الشئ منتشر.
* فرائي المنام قد يكون كاذبا، وبتقدير صدقه: فقد يكون الذي أخبره بذلك الشيطان.
* ورؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شئ بالاتفاق، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي (ص) أنه قال: (الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه، ورؤيا من الشيطان) (١) .
_________
(١) قال تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) قالوا إنها الرؤيا الصادقة يراها المؤمن أو ترى له.
أما الرؤيا التي تنجم عن الحديث المرء نفسه فهذه ترجع إلى اضطرابات نفسية ينطلق فيها اللاشعور بالرغبات المكبوتة فيرى الحالم أمنياته الشاقة التي لم تتحقق في اليقظة يراها تتحقق في المنام.
أما رؤيا الشياطين وهي الأحلام فقد ورد فيها قوله تعالى: (قالوا أضفاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) يوسف (١٢ / ٤٤) وفي الحديث الصحيح أن النبي (ص) أتاه رجل فقال يا رسول الله رأيت كأن رأسي قطع وأنا أتبعه، فقال لا تتحدث بتلاعب الشيطان بك في المنام.
راجع تعطير الأنام في تعبير المنام للنابلسي طبعة الحلبي (١ / ٤) (*)
1 / 188
* فإذا كان جنس الرؤيا تحته أنواع ثلاثة، فلا بد من تمييز نوع منها من نوع.
* ومن الناس - حتى من الشيوخ الذين لهم علم وزهد - من يجعل مستنده في مثل ذلك: حكاية يحكيها عن مجهول.
حتى يقول: حدثنى أخي الخضر أن قبر الحسين بمكان كذا وكذا - ومن المعلوم الذي بيناه في غير هذا الموضع أن الخضر قد مات (١) - أو رأى شخصا يقول: إني الخضر، أو ظن الرائي أنه الخضر، إن كل ذلك لا يجوز.
* وأما ما يذكر من وجود رائحة طيبة، أو خرق عادة أو نحو ذلك بتعلق بالقبر: فهذا لا يدل على تعينه، وأنه فلان أو فلان، بل غاية ما يدل عليه - إذا ثبت - أن ذلك دليلا على صلاحه، وأنه قبر رجل صالح أو نبي (٢) .
* وقد تكون تلك الرائحة مما صنعه بعض المكتسبين من القبر، فإن هذا مما يفعله من هؤلاء، كما حدثني بعض أصحابنا: أنه ظهر بشاطئ الفرات رجلان، كان عند أحد هما قبر تجبي عليه أموال ممن يزوره وينذر له من
الضلال، فعمد الآخر إلى قبر - زعم أنه رأى في المنام أنه قبر عبد الرحمن بن عوف - وجعل فيه من أنواع الطيب ما ظهرت له رائحة عظيمة.
* وقد حدثني جيران القبر الذي بجبل لبنان بالبقاع - الذي يقال إنه قبر نوح - وكان قد ظهر قريبا في أثناء المائة السابعة، وأصله: أنهم شموا من قبر
_________
(١) والخضر ﵇ قد مات بنص القرآن القطعي لقوله تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد) الأنبياء (٢١ / ٣٤) وأرجو أن تراجع تفسير هذه الآية في الجامع لأحكام القرآن (١١ / ٢٨٣) ط.
دار الكتب، زاد المسير (٥ / ٣٤٨) ومختصر ابن كثير (٢ / ٥٠٧) .
وتقول بعض الفرق الهالكة إن الخضر لم يمت وأنهم يرونه عيانا ويتحدثون إليه ويتحدث إليهم ويستمدون منه أصول التشريع ويطمئنهم على معتقداتهم، تلك كلها ضلالات شيطانية يا عزيزي القارئ فلا تتوقف عندها، لأن الخضر مات كأي بشر، وهو ليس أفضل من رسول الله (ص) وهو صاحب كل فضل وفضيلة وكان أولى بالخلود من الخضر وغيره.
(٢) وقبر سيدنا رسول الله (ص) هو القبر النبوي الوحيد الذي اتفق عليه بالإجماع وما سواه من قبور الأنبياء لم يحصل عليه الإجماع مثله.
(*)
1 / 189
رائحة طيبة ووجدوا عظاما كبيرة، فقالوا: هذه تدل على كبر خلق الجنة فقالوا - بطريق الظن - هذا قبر نوح، وكان بالبقعة موتى كثيرون من جنس ذلك الميت (١) .
* وكذلك هذا المشهد العسقلاني قد ذكر طائفة: أنه قبر بعض الحواريين أو غيرهم من أتباع عيسى بن مريم.
* وقد يوجد عند قبور الوثنيين أشياء من جنس ما يوجد عند قبور المؤمنين من أمتنا، بل يزعم الزاعم أنه قبر الحسين ظنا وتخرصا.
* وكان من الشيوخ المشهورين بالعلم والدين بالقاهرة من ذكرو عنه أنه
قال: هو قبر نصراني.
* وكذلك بدمشق بالجانب الشرقي مشهد يقال: إنه قبر أبي كعب.
وقد اتفق أهل العلم على أن أبيا لم يقدم دمشق، وإنما مات بالمدينة، فكان بعض الناس يقولون: إنه قبر نصراني، وهذا غير مستبعد.
فإن اليهود والنصارى هم ائمة في (٢) تعظيم القبور والمشاهد، ولهذا قال النبي (ص) في الحديث المتفق عليه: (لعن الله اليهود والنصارى: اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا) (٣) .
_________
(١) ومنذ فترة يسيرة طالعتنا الصحف والمجلات بخبر عن اكتشاف علمي صارخ وهو العثور على مومياء يوسف الصديق ﵊ وأخذت وسائل الاعلام تروج لهذه الأساطير التي تفتقد الدليل العلمي والديني القوي الذي يوثقها بل وتفتقر الى المنطق السوي المستقيم، قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، في القرآن العشرين ولا زلنا موضع سخرية من الواقع الأليم، خرافات وأساتير تفرخ وتطير في كل ناحية من غير دليل أو برهان أو سند من علم أو فقه أو كتاب أو سنة.
(٢) تأمل شيخ الاسلام ابن تيمية وهو يسخر منهم بقوله (هم الأئمة في تعظيم القبور والمشاهد) ﵀ وجمعنا به في دار كرامته.
(٣) فقد روى عن عائشة وابن عباس ﵄ انه ﷺ كشفها عن وجهه وهو يقول: - (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا) والحديث رواه البخاري (١ / ٤٢٢)، (٦ / ٣٨٦) و(٨ / ١١٦) ومسلم (٢ / ٦٧) والنسائي (١ / ١١٥) والدارمى (١ / ٣٢٦) وأحمد (١ / ٢١٨) و(٦ / ٣٤) .
(*)
1 / 190
* والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: (أن النبي (ص) ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة ﵄ كنيسة رأرض الحبشة، وذكرنا من حسنها وتصاوير فيها.
فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح،
فمات بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) .
* والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم.
فلا يستعبد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون، ليوافقوهم على تعظيمه.
* كيف لا؟ وهم قد أضلوا كثيرا من جهال المسلمين حتى صاروا يعمدون أولادهم، ويزعمون أن ذلك يوجب طول العمر للولد (١)، وحتى جعلوهم يزورون ما يعظمونه من الكنائس والبيع، حتى صار كثير من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعضمها النصارى كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى، ويلتمسون البركة من قسيسيهم ورها بينهم ونحوهم.
* والذين يعظمون القبور والمشاهد: لهم شبه شديد بالنصارى، حتى إنه لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض فضلاء الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بينت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة وبلغني بعد ذلك أنه صنف كتابا في الرد على المسلمين، وإبطال نبوة محمد (ص)، وأحضره بعض المسلمين، وجعل يقرؤه علي لأجيب عن حجج النصارى وأبين فسادها (٢) .
* وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني: أن قلت له: أنتم مشركون
_________
(١) ومن دواعي الأسف الشديد أن جهال المسلمين يأخذون بهذه الضلالات والوثنيات فيدخلوا في نطاق الشرك وهو لا يشعرون، حتى أصبحوا يقلدون اليهود والنصارى في طقوسهم الوثنية.
(٢) راجع كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ﵀ في الرد على أوهام وأغلاط النصارى وكشف ما هم فيه من زيف وضلال.
(*)
1 / 191
وبينت من شركهم ما عليه من العكوف على التماثيل والقبور وعبادتها، والاستغاثة بها.
فقال لي: نحن ما نشرك بهم ونعبدهم: وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك.
* فقلت له: وهذا أيضا من الشرك، وليس هذا من المسلمين، وإن فعله الجهال؟ فأقر أنه شرك، حتى إن قسيسا كان حاضرا في هذا المسألة، فلما قرأها قال: نعم، على هذا التقدير: نحن مشركون.
* وكان بعض النصارى يقول لبعض المسلمين: لنا سيد وسيدة، ولكن سيد وسيدة، لنا السيد المسيح والسيدة المريم، ولكم السيد حسين والسيدة نفيسة.
* فالنصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يقوى ذلك ويكثر، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عباد المسلمين وقسيسيهم مثل قضاة المسلمين، ويضاهؤون المسلمين، فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله.
* ولهذا يسهل إظهار الإسلام على كثير من المنافقين الذين أسلموا منهم، فإن عنده: أن المسلمين والنصارى كأهل المذاهب من المسلمين، بل يسمون الملل مذاهب، ومعلوم أن أهل المذاهب - كالحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية - دينهم واحد.
وكل من عطاء الله ورسوله منهم بحسب وسعه كان مؤمنا سعيدا باتفاق المسلمين.
* فإذا اعتقد النصارى مثل هذا من الملل يبقي انتقال أحدهم عن ملته كانتقال الإنسان من مذهب إلى مذهب.
وهذا كثيرا ما يفعله الناس لرغبة أو
1 / 192
رهبة.
فإذا بقي عقاربه وأصدقاؤه على المذهب الأول لم ينكر ذلك، بل يحبهم ويودهم في الباطن.
لأن المذهب كالوطن، والنفس تحن إلى الوطن، إذا لم تعتقد أن المقام به محرم.
* فلهذا يوجد كثير ممن أظهر الإسلام من أهل الكتاب لا يفرق بين المسلمين وأهل الكتاب.
* ثم منهم من يميل إلى المسلمين أكثر، ومنهم من يميل إلى ما كان عليه أكثر.
ومنهم من يميل إلى أولئك من جهة الطبع والعادة، أو من جهة الجنس والقرابة والبلد، والمعاونة على المقاصد.
ونحو ذلك.
* وهذا كما أن الفلاسفة ومن سلك سبيلهم من القرامطة (١) والاتحادية (٢) ونحوهم، يجوز عندهم أن يتدين الرجل بدين المسلمين واليهود والنصارى.
ومعلوم أن هذا كله كفر باتفاق المسلمين.
* فمن لم يقر باطنا وظاهرا بأن الله لا يقبل دين سوى الإسلام (٣)،
_________
(١) والقرامطة إسم شهرة للإسماعيلية وسموا بالباطنية، لأنهم قالوا أن لكل ظاهر باطنا ولكل تنزيل تأويلا، ولهم أتعاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم: فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان يسمون التعليمية والملحدة، وهم يقولون نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الإسم.
راجع الملل والنحل للشهرستاني (١ / ١٩٢) ط.
الحلبي والباطنية درجات في دعوتهم.
راجع الفرق بين الفرق للبغدادي ص ٣٠١.
(٢) الإتحادية: وهي فرقة هالكة خرجت على السنة والجماعة فحوى دعوتها الزندقية أن المخلوق اتحد بالخالق فأصبح الإثنان ذاتاواحدة فالخالق عندهم والمخلوق سواء، كذلك القائلين بالحلول مثل محيى الدين بن عربي صاحب الفتوحات المكية الذي قال أن الله روحه حلت في كل الموجودات وكلا الحلوليين والاتحاديين زنادقة كفرة لتأويلاتهم وشطحاتهم وقد كفرهم ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي وعلماء السلف الغيورين على عقيدة التوحيد.
راجع في الحلولية التبصير (ص ٧٧) والفرق بين الفرق (ص ٢٥٩) (٣) لقوله تعالى في صريح النص القرآني: - (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران (٣ / ١٩) كذلك لقوله: - (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) آل عمران (٣ / ٨٥) راجع تفسير الطبري.
(٦ / ٥٧٥) (*)
1 / 193
فليس بمسلم.
* ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد (ص) ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرا (١)، فليس بمسلم.
ومن لم يحرم التدين - بعد مبعثه (ص) - بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين.
والمقصود هنا: أن النصارى يحبون أن يكون المسلمين ما يشابهونهم به ليقوي بذلك دينهم، ولئلا ينفر المسلمون من دينهم.
* ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بمخالفة اليهود والنصارى، كما قد بسطناه في كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) .
وقد حصل للنصارى من الجهال كثير من مطلوبهم، لا سيما من الغلاة من الشيعة، وجهال النساك والغلاة في المشايخ، فإن فيهم شبها قويا بالنصارى في الغو، والبدع في العبادات ونحو ذلك، فلهذا يلبسون على المسلمين في مقابر تكون من قبورهم، حتى يتوهم الجهال أنها من قبور صالحي المسلمين.
وإذا كان ذلك المشهد العسقلاني قد قال طائفة: إنه قبر بعض النصارى أو بعض الحواريين - وليس معنا ما بدل أنه قبر مسلم - فضلا عن أن يكون قبرا لرأس الحسين - كان قول من قال: إنه قبرا مسلم - الحسين أو غيره - قولا مردودا على قائله.
فهذا كاف في المنع من أن يقال: هذا مشهد الحسين.
_________
(١) والبعض الصوفيون هم الذين جعلوا للقرآن ظاهرا وباطنا وقالوا أن العلماء والفقهاء هم أهل الظاهر أما الصوفية فهم أهل الأسرار وأهل الباطن (*)
1 / 194
فصل * ثم نقول: بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهدا للحسين، من وجوه متعددة.
* منها: أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة، ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة.
وقد جائت خلافة بني العباس وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق ما كان كثير منها كذبا.
وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هنالك مشهدا.
وكان ينتابه أمراء عظماء.
حتى أنكر ذلك عليهم الأئمة، وحتى أن المتوكل تقدم فيه بأشياء، يقال: إنه بالغ في إنكار ذلك، وزاد على الواجب.
* دع خلافة بني العباس في أوائلها، وفي حال استقامتها، فإنهم حينئذ لم يكونوا يعظمون أبدا المشاهد، سواء كانت صدقا أو كذبا، كما حدث فيما بعد.
لأن الإسلام كان حينئذ يغد في قوته وعنفوانه.
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في شئ في بلاد الإسلام - لا الحجاز، ولا اليمن
ولا شام، ولا العراق، ولا مصر، ولا خراسان، ولا المغرب - مشهد، لا على قبر نبي، ولا صاحب، ولا أحد من أهل البيت، ولاصالح أصلا.
بل عامة المشاهد محدثة بعد ذلك.
1 / 195
* وكان ظهورها وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثرت فيهم الزنادقة المنتسبون إلى الإسلام.
وعلت فيهم كلمة أهل البدع.
وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية (١) بأرض الغرب.
ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر.
* وقريبا من ذلك: يقال إنه حدثت المكوس (٢) في الإسلام.
* وقريبا من ذلك: ظهر بنو بويه الأعاجم: وكان في كثير منهم زندقة وبدع قوية وفي دولتهم قوى بنوا عبيد القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي ﵁ بناحية النجف، وإلا فقيل ذلك لم يكن أحد يقول: إن قبر علي هناك، وإنما دفن علي ﵁ بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أنه حكى عن الرشيد.
أنه جاء إلى بقعة هناك، وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا: إنه علي، وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا: هذا هو قبر علي، وقد قال قوم: إنه قبر المغيرة بن شعبة، والكلام عليه مبسوط في غير هذا الموضع.
* فإذا كان بنو بويه وبنو عبيد - مع ما كان في الطائفين من الغلو في التشيع.
حتى إنهم كانوا يظهرون في دولتهم ببغداد يوم عاشوراء من شعار الرافضة ما لم يظهر مثله، مثل تعليق المسوح على الأبواب، وأخراج النوائح بالأسواق، وكان الأمر يفضي إلى قتال تعجز الملوك عن دفعه.
وبسبب ذلك
خرج الخرقي صاحب المختصر في الفقه من بغداد، لما ظهر بها سب السلف.
وبلغ من أمر القرامطة الذين كانوا بالمشرق في تلك الأوقات: أنهم أخذوا الحجر الأسود، وبقي معهم مدة، وأنهم قتلوا الحجاج وألقوهم ببئر زمزم.
_________
(١) والذين جاءوا إلى مصر ولقبوا أنفسهم بالفاطميين نسبة الى فاطمة الزهراء، وهي بريئة منهم، لأنهم كذابون فجار وثنيون أدخلوا الطقوس والرقص والطرب في دولة الإسلام وأحالوا شعائر الدين وعباداته إلى حانات لمعاقرة المنكرات، وأكثر من عالم مخلص كشف ما هم فيه من زيف وبهتان.
(٢) وفي الحديث الشريف (لا يدخل صاحب مكس الجنة) .
(٣) أي بشرق الجزيرة العربية على شاطئ الخليج الفارسي.
(*)
1 / 196
* فإذا كان مع هذا لم يظهر حتى مشهد للحسين بعسقلان، مع العلم بأنه لو كان رأسه بعسقلان لكان المتقدمون أعلم بذلك من المتأخرين، فإذا كان مع توفر الهمم والدواعي والتمكين والقدرة لم يظهر ذلك، علم أنه باطل مكذوب مثل من يدعي أنه شريف علوي: وقد علم أنه لم يدع هذا أحد من أجداده، مع حرصهم على ذلك لو كان صحيحا، فإنه بهذا يعلم كذب هذا المعي، وبمثل ذلك علمنا كذب من يدعي النص على علي، أو غير ذلك من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها ولم ينقل.
* الوجه الثاني أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله - مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، وأبي القاسم البغوي وغيرهما - لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان، ولا إلى القاهرة.
* وقد ذكر نحو ذلك أبو الخطاب بن دحية في كتابه الملقب بالعلم المشهور في فضائل الأيام والشهور،! ذكر أن الذين صنفوا في مقتل الحسين أجمعوا على
أن الرأس لم يغترب (١)، وذكر هذا بعد أن ذكر أن المشهد الذي بالقاهرة كذب مختلق: وأنه لا أصل له، وبسط القول في ذلك، كما ذكر في يوم عاشوراء ما يتعلق بذلك.
* الوجه الثالث أن الذي ذكره من يعتمد عليه من العلماء والمؤرخين أن الرأس حمل إلى المدينة (٢) ودفن عند أخيه.
_________
(١) أي لم يذهب به إلى أمصار غريبة عنه.
(٢) يقول القرطبي: - (لما ذهب بالرأس إلى يزيد بعث به إلى المدينة فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم وضم إليهم عدة من موالي أبى سفيان ثم بعث بثقل الحسين وجهزهم بكل شئ ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر لهم بها، وبعث برأس الحسين ﵇ إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عامله على المدينة فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به إلى، ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين ﵇ فكفن ودفن با لبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة والسلام) التذكرة (٢ / ٦٦٨) وقد نقل القرطبي هذا الرأي عن العلامة الحافظ أبو العلا الهمداني وهذا ما نطمئن إليه ونثق فيه.
المحقق.
وإن كانت الإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما أو إلى عسقلان في مشهد هناك أو في المشهد القاهري المعروف فهذا شئ باطل لا يصح وقد أنكره القرطبي أيضا =
1 / 197