الفصل الرابع والأربعون
الخلوة
فلما خلا بنفسه مشى وهو غارق في بحار الهواجس لا يدري إلى أين يسير.فما شعر إلا وقد خرج من الفسطاط ووصل إلى حافة ترعة ظنها لأول وهلة النيل. ثم ما لبث أن رأى ضيقها فعلم أنها خليج وكان الظلام حالكا فوقف برهة وأفكاره تائهة في عبد الله ومصيره وكلما تصور ما هو فيه من الخطر هب جسمه واقشعر بدنه.
وظل واقفا وقد نسي موقفه لانشغال باله فرأى بالقرب منه نخلة فاقترب منها وجلس على حجر تحتها وأسند ظهره إليها وجعل يفكر في حاله وحال عبد الله وما جره إلى تلك المدينة من البواعث الهامة. فتذكر قطاما ووعودها وما مر له معها من الأحوال. وكان الجو هادئا لا يكدره إلا نقيق الضفادع على شاطئ ذلك الخليج فاتخذ نقيقها شؤما على عبد الله وتصور أنه لا يطلع النهار حتى يكون في عداد الأموات. فلما تخيل ذلك اقشعر بدنه فوقف بغتة وقال في نفسه» أأبقى أنا هنا وعبد الله في حال الخطر الشديد ... ماذا تكون حاله مع عمرو.. هل يقتله أم يستبقيه آه ... ماذا أعمل هل أمكث في الفسطاط لأنقذ عبد الله من القتل أم أسير إلى الكوفة لإنقاذ الإمام علي ... ولكن ما الفائدة من بقائي هنا وابن العاص قد عول على قتل عبد الله في صباح الغد ... لابد من المبادرة إلى انقاذه» قال ذلك ومشى بجانب الخليج جنوبا وهو يفكر في مجرى الماء هناك ونقيق الضفادع يعترض مجرى أفكاره. ثم تأمل في ذلك الخليج فتذكر أنها خليج أمير المؤمنين وقد حفره عمرو بن العاص لما فتح مصر منذ عشرين عاما لإرسال المؤونة عليه إلى الحجاز تلافيا لما كانوا يخافونه من القحط هناك. وكان قد حفره بإشارة من الخليفة عمر بن الخطاب
1
لما كان كرسي الخلافة في المدينة. فتذكر حال الإسلام في ذلك العهد وما كان فيه من اجتماع الكلمة وما فتحته سيوف المسلمين من البلاد الواسعة في الشام ومصر والعراق في بضع عشرة سنة. وكيف تحولت تلك السيوف الباترة بعد مقتل الخليفة عثمان إلى الفتنة فانقسم المسلمون فيما بينهم وانشغلوا عن تأييد سلطانهم بالحروب الاهلية حتى أصبحوا يقتلون خلفاءهم بتهم ما أنزل الله بها من سلطان.وأقبح ما آلت إليه تلك الفتنة أنهم تآمروا على قتل أمرائهم وخصوصا الإمام علي وهو ابن عم الرسول وخيرة قواد المسلمين. ولا ذنب له غير السعي في تأييد الكتاب. ولما تصور تلك الحال انقبضت نفسه وغلب عليه الكدر حتى كادت تخنقه العبرات وهو لا يدري أيبكي عبد الله أم يبكي الجامعة الإسلامية أم يبكي الإمام عليا أم يبكي سوء بخته الذي جره إلى تلك المدينة حتى وقع في تلك الحيرة.
الفصل الخامس والأربعون
خليج أمير المؤمنين
ثم وقف بغتة والتفت إلى ذلك الخليج وجعل يخاطبه قائلا: «ألست الخليج الذي أشار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بحفرك؟ قل لي بمائك الذي يجري فيك هل علم ابن الخطاب لما أذن بذلك أن دولة الإسلام سيقضي عليها بالانقسام حتى يحمل عامتهم على خليفتهم فيقتلوه ثم يختلفون على الخلافة فيقتسمونها ثم يختصمون على اقتسامها. هل خطر لابن العاص يوم نزل وادي النيل وحاصر هذا الحصن المنيع حصن بابل أنه سيجرد سيفه على المسلمين ويقتل ابن أبي بكر حرقا بالنار ثم ينقم على ابن عم الرسول فيستخرج الخلافة من يده بالحيلة .. أين أنت يا عمر يا أمير المؤمنين يا جامع كلمة المسلمين كانت المدينة مقر الخلافة وأنت على كرسيها فأصبحت منقسمة على نفسها يدعيها غير أهلها.. آه ياربي ما هذه الحال ياليتني مت قبل ذلك ... هنيئا لك يا أبا رحاب أن عظامك ساكنة في هذا التراب وروحك تنتظر لقاء ربها في يوم الحساب.. أما أنا الشقي فإني تائه بعدك تتنازعني عوامل لا أدري مصدرها ولا أعلم مصيرها. أأبقى لأرى مصير أخي عبد الله أم أسرع إلى الكوفة لأنبئ الإمام بما تآمروا عليه؟ ... أرشدني يا جدي ويا سندي ... ابقى هنا؟ وما الفائدة من بقائي هل يعفو عمرو عن عبد الله فيبقى حيا فأراه ...؟ لا أظنه يفعل.. إذا ماذا يفعل أيقتله ولا أستطيع الدفاع عنه؟؟ «آه يا خولة ... يخيل لي أنك ملاك أرسلك ربك لترشديني إلى سواء السبيل ...فهل يتم لي السعد على يدك فتنقذين عبد الله من القتل ...».
الفصل السادس والأربعون
Unknown page