ربما تشبه جدك قليلا، لكن الأمر طبيعي، إنها الوراثة، كان جدك رجلا حاسما، لكنك فريد من نوعك، لم يكن بإمكان أحد أن يدفع جدك عن تحريك رأيه.
حتى إنه خسر 100 رجل في إحدى المعارك جراء صرامته ... وقد لقب بالرجل الذي لا يمكن تحريكه، لكنك واحد في هذا العالم، أنت فريد بني. بعد مدة طلق والدي والدتي، كانت مريضة وازداد مرضها حينما أصبحت تناديني بوالدي، ما تحمل والدي ذلك الأمر، واتجه يعاقر الخمر لينسى، كنت قد جعلت والدتي مجنونة، لسبب ما كنت أنا من دفعها إلى الجنون، وجعلنا ذلك نخسر والدي، توفيت والدتي بعد أن انتحرت بغرفتها، فعلت ذلك حينما منعها الجميع من مقابلتي، ما تحملت فقداني، أو فقدان والدها - حسب ما اعتقدت - واتجه والدي ليختبئ بمكان ما في هذا العالم، تخلى عن كل شيء، واختفى فقط، وعشت رفقة جدتي بفرنسا، ولسبب ما كانت تعي ما أنا عليه، لم تحدثني يوما عما حدث لنا، لم تحدثني عن جدي بشكل مفصل، بل اكتفت ببعض الأمور، قالت فقط إنني وإن كنت أشبه جدي، فالأهم أن أعيش حياتي بكل ما تحمله كلمة الحياة من معنى، إن كنت حقا جدي، فإنه إن حدث ذلك، فيجب أن أعيش أيضا الحياة، وبأخطاء أقل، كنت قد جهلت كجهل الأطباء مرض والدتي، صدقتها جدتي بطريقة خفية، صدقت أنني زوجها كذلك، لكنها كانت ولغاية ما تخفي ذلك التصديق لنفسها، أما البقية فصدقوا قول الأطباء بخصوص مرض والدتي، لم أصدق أنا ذلك، وشاركت والدتي وجدتي ما تصدقان، ليس لأنني كنت أعرف شيئا، وكيف لي أن أعرف شيئا وأنا بالخامسة؟ لكنني آمنت أن والدتي كانت على حق، وفعلت ذلك لإنقاذها، أو هذا ما وددته، وأعتقد أن هذا السبب في اختياري للطب، أردت دوما أن أفهم ما حدث لوالدتي؛ لذا لم يكن لي اليوم حيلة ما، لا أحد يمكنه أن يتفهم وضعي، فأنا لا أكره البشر بل أكره القدر، هو يعاقبني بالبشر فكرهتهم ليس إلا لأنهم العقاب، مثلما يكره العبد أداة السوط فيشمئز عند رؤيتها.
الكولونيل دي لا بوت
كثيرا ما قصت لي جدتي عن الكولونيل دي لا بوت، أو المعروف بالرجل الذي لا يمكن تحريكه، وهو مثل العديد من الرجال الذين لن يذكرهم التاريخ، سيندثر اسمه من بعدي؛ فأنا لا أود أن أذكره لابنتي أو لأي شخص آخر، وسيبقى مجرد شخص خيالي بذاكرتي مثلما كان في طفولتي، كانت روايتها مركبة بعض الشيء؛ ذلك أنها كانت تجهل زوجها، أشبه بجهلي له، وأخذت زمنا قبل أن أفهم شخص دي لا بوت، جدي الكولونيل المجنون. كانت تجلسني إلى جانبها، ثم تقص لي أعظم إنجازاته، لم تكن عظيمة إلى ذلك الحد، لكن جدتي رأت ذلك نتاج الشهامة التي عرف بها دي لا بوت، احترام رجاله له مكنه من الحصول على منزلة رفيعة بقلب جدتي، مع أنه لم يكن يعر الأمر اهتمامه، وأحبته جدتي بعد مدة، جدتي التي تزوجته كخطة خاطتها كلتا العائلتين، أضافت جدتي أنها اختارت ذلك أيضا مع أنها كانت تحب شخصا آخر، لكن مغرية هي فكرة الزواج من كولونيل مرموق، لورد دي لا بوت كان صفقة جيدة لتأمين مستقبل العائلتين. اعترفت جدتي خلال حكاياتها بخيانة ما أحست به مع الرجل الآخر، اعترفت بتمردها على الحب الذي جمعها بعاشقها الأول وعلمتني بذلك درسا عن الحب، أن تتحدث لطفل في الخامسة عن أشياء أشبه بالخيانة والحب والأنانية أمر غريب ونادر الوجود، لكن جدتي تلونت ببعض من طباع دي لا بوت الرجل الذي لا يهمه سوى ما يؤمن به، حتى إنها أخبرتني بأنه فقد 100 رجل في إحدى معاركه من أجل فتاة أخرى أحبها أيام زواجه بجدتي، لو لم تخبرني جدتي بأن ارتباطهما كان خطة لا أكثر، لتساءلت كيف لها أن ترضى بما فعل. أذكر أنني سألتها إن كانت حزينة، فضحكت وأخبرتني أنها أحبت دي لا بوت لدرجة دفعتها إلى تقبل كل الخطايا التي ارتكبها. إن تلك الخطة تحولت بعد سنوات إلى حكاية حب. من المؤكد أن جدي دي لا بوت ما كان يشعر بمثل ما شعرت به جدتي، إلا أنه سايرها في تلك العملية حفاظا على كلمته، أن ينهي حياته إلى جانبها وأن يشيخ معها. كان من أعظم وأقدس القرارات التي اتخذها، والرجل الشهم بعقل جدي دي لا بوت هو رجل لا يتراجع عن قراراته وإن اختلفت النتيجة عما توقع. أعتقد دوما أن القوة تكمن في تحمل نتائج الاختيار، وحسبه أن يتحمل نتائج اختياراته على اختلافها فهو رجل قوي، لذلك تحمل دي لا بوت وفاة 100 من رجاله، تحمل كذلك وفاة تلك الفتاة منتحرة في غرفتها بقلعة زوجها، بعد أن حاصرهم جدي ورجاله لمدة 20 يوما، تحمل كذلك فكرة أنه قتل على يد مزارع شاب بعد سنوات حينما اتجه إلى دير في الجنوب.
ذكرت لي جدتي أن والدة دي لا بوت حكت لها هذه الحادثة بعد أن سمعتها من شخص دي لا بوت نفسه؛ معركة جوانا.
ثم تجهز الكولونيل للمعركة بعد أن استعجل التخطيط لها وتحرك إلى قلعة رجل آخر كان قد أحب دي لا بوت إحدى زوجاته (جوانا) وعلى رأس جيش صغير كان قد بلغ الكولونيل القلعة وأحاط بها يحاصرها لأيام، كان قد طلب من اللورد أن يسلمه جوانا، وأن تلك هي الوسيلة الوحيدة لبقاء سكان القلعة في أمان، ومنح دي لا بوت اللورد أياما قبل أن يهجم، أخبره أنه رجل له كلمته، وأنه إن قال أنه سيسمح له بالعيش فإنه سيحدث ذلك، وإن هو قرر قتل الجميع فإنه لم يخلق الرب بعد شخصا سيمنعه من فعل ذلك. كرامة اللورد دفعته إلى الامتناع عن تلبية طلب الكولونيل، فكيف له أن يقدم زوجته جوانا كثمن مقابل حياته، وكان له رجال من حوله يدفعونه إلى مجابهة الكولونيل، يملئونه شجاعة وقوة للتصدي لهذا المجنون الذي أتى ليأخذ جوانا، بعد أيام رأى اللورد أنه لا مجال للبقاء خلف الأسوار وأنه يجب أن يخرج إلى دي لا بوت، كانت النساء داخل القلعة قد اخترن أن ينتحرن إن هو انهزم اللورد، واعتزمن أنه لن يبلغهن الكولونيل وهن على قيد الحياة، وقد شهد سكان القرية القريبة من القلعة على حدث المعركة، حتى إنهم ذكروا أنهم لم يروا يوما جثثا تملأ المكان من قبل على نحو مخيف مثلما حدث في معركة جوانا، خسر دي لا بوت 100 رجل قبل أن يتمكن من قطع رأس اللورد، واتجهوا يبيدون كل حياة خلف أسوار القلعة، وفي المساء دلف دي لا بوت إلى داخل القلعة وسط صيحات الرجال، الكل ينادي بعظمة اللورد، يتحرك بعضهم لجمع الجثث بينما اشتغل الآخرون في حمل ممتلكات اللورد المهزوم، وتبع الكولونيل بضعة من خيرة رجاله إلى داخل القصر ودلفوا جميعا، بعد مدة اقترب الجميع من غرفة الفتاة، إحدى زوجات اللورد المهزوم، الفتاة التي أحبها دي لا بوت، مع أنها لم تلتقه من قبل سوى أنها سمعت في كثير من الأحيان أن الكولونيل المجنون قادم من أجلها، كان الجميع يقف قبالة الباب الخشبي المزدوج، شهروا أسلحتهم وصرخوا صرخة واحدة يخبرون الكولونيل باستعدادهم لكسر الباب، وغرابة القصة تكمن فيما حدث بعد الصرخة، جدتي كانت دوما ما تقص لي الحكاية بنفس الشكل، مع أنني تخيلت دوما أن ما حدث مغاير لذلك، وكأنه حدث معي، رأيت ما حدث بعد الصرخة، حتى أنها وفي كل يوم تكرر قص الحادثة، أسمع تلك الصرخة، صرخة الرجال الواحدة، وأتخيل نهاية الحكاية بما شعرت أنه حدث، كان يتملكني إيمان قوي أن ما حدث لا يعرفه سوى دي لا بوت وحده، ربما ليس وحده، لكنه احتفظ بما حدث لنفسه، وما روي لي كان شيئا آخر.
قد يتساءل الجميع عن السبب الذي دفع بجدتي لتقص علي حكاية الكولونيل، حتى إنني تساءلت بدوري، واكتشفت السبب لاحقا، حدث الأمر في الثالثة من عمري، كنت يومها بإحدى الغرف ألعب ببعض الدمى الخشبية حينما دلفت علي والدتي، كنت أعيد حكاية القصة بواسطة تلك الدمى، يومها كنت أجهل القصة، حكاية دي لا بوت كانت مجرد تخيلات طفل في الثالثة، تخيلت دوما أن بعضا من الدمى هاجمت قلعة لإنقاذ الفتاة المنتحرة، وبلعبة خاطها القدر دلفت والدتي لتسمعني ألعب القصة وعلى لسان دي لا بوت الجبار. جلست إلى جانبي كأي أم عادية، جلست تراقبني، ثم انتبهت إلى أن اللعبة هي ما حدث مع والدها الكولونيل، ثم تساءلت في بادئ الأمر، كانت تسألني في كل مرة أحرك فيها الدمى عن سبب فعلي لذلك، واتضحت لها القصة وكأنها تعيشها من جديد، أو أن والدها يحكي لها الحادثة، أذكر أنها ركضت بعيدا عني، لم ألاحظ لحظتها مدى تأثرها بلعبي للقصة، مع أنني كنت أجهل يومها أن ما ألعبه كان قد حدث قبل سنوات من مولد والدتي، بعد دقائق امتلأت الغرفة بكل العائلة، حتى إن بعضا من الخدم تسللوا لرؤية الأمر، دنت مني والدتي وطلبت من الجميع أن يصغي للعبي، وأعادت طرح الأسئلة في كل حركة أقوم بها، كان الجميع ينظر في ذهول، استغرب الجميع معرفتي للقصة، وببراءة طفل اعتقدت أنهم يودون اللعب معي، أو أنه يعجبهم ما أفعل، فأكثرت من سرد القصة، أحرك دي لا بوت وجيشه من الدمى، أجعله ينتصر، ويصل إلى غرفة الفتاة المنتحرة، كانت الفتاة دمية رجل خشبي جعلتها تبدو أشبه بأميرة، التفتت والدتي إلى الجميع ثم سألتني من أخبرني بالقصة، أذكر أنني رفعت رأسي أجول ببصري في كل الزوايا، أنظر في وجوه الحضور، أحاول أن أجد شخصا قص لي الحكاية، وما كان بمقدوري أن أخبرها أنها مجرد قصة ألعبها من نسج خيالي، لم يذكر لي أحد قبل هذا اليوم اسم دي لا بوت، ثم اكتفيت بالقول إنني أعرف القصة، التفتت والدتي في حيرة إلى والدي، واتجهت ببصرها إلى جدتي، أنكر كلاهما الأمر، لم يرو لي أحد ما حدث مع الكولونيل، أذكر أن والدتي لم تتجاوز الأمر قط، ثم صرخت في أنحاء المنزل لأيام تخبرهم أنني مجنون، ثم ترسب بعقلها أن المجنون ليس بمقدوره اكتشاف حادثة في الماضي، خاصة وإن لم يكن هناك توثيق لها، ثم فكرت مجددا في كل الاحتمالات، إن كان هناك توثيق لما حدث فأنى لطفل بالثالثة أن يحصل عليه، وأكثر ما أرق والدتي هو تجسيدي لنهاية الحادثة والتي تخيلتها مخالفة لما حدث مع دي لا بوت في رواية الجدة، وتساءلت: كيف لصبي أن يعرف القصة، وأن يروي النهاية بشكل آخر؟ إن أخبره أحدهم عنها فإنه سيعيد قصها بنفس الشكل، ربما سيتخيلها بطريقة طفولية، لكنه لن يغير القصة أبدا، فتغيير القصة، سيحطم سنوات من الاعتقاد بأن جدي رجل لا يمكن تحريكه، بأنه من دون قلب، بأنه عاد إلى جدتي حينما وجد الفتاة منتحرة. ستتغير نظرة جدتي لدي لا بوت، سيكتشف الجميع حقيقة ما حدث، إذن كيف لي أن أعرف القصة وبنهاية أخرى؟ حملتني جدتي إلى غرفتها وقصت لي القصة، أخبرتني لأول مرة عن دي لا بوت، شعرت هي أنه يجب أن أعرف هذا الشخص، وأنه من واجبها أن تتحقق إن كان ما تقصه لي هو حقا ما حدث. أخبرتني أن رجال دي لا بوت صرخوا جميعا صرخة واحدة، ثم تجهزوا لفتح الباب عنوة، ثم أمرهم الكولونيل بالتريث قليلا. ذكرت أنه نزع سلاحه وقدمه إلى أحد الرجال ولم يبق سوى سكينته إن هو حدث شيء ما ثم أمرهم بالانتظار هنا، وطرق الباب، لم يفتح له أحد، إلا أنه دلف إلى الداخل بعد أن فتحه بنفسه، انتظر الرجال لمدة، أطال دي لا بوت مكوثه بالغرفة، حتى إن الرجال استغربوا ذلك، اعتقدوا أن أحدا قتله بالداخل، أرادوا بشدة الدخول إلى الغرفة، لكنه أمرهم بالبقاء خارجا قبل أن يدخل، وكان الرجال يخافون عدم إطاعة الأوامر، خاصة أوامر رجل مثل دي لا بوت، ثم بعد مدة فتح الباب على مصراعيه، وخرج ببطء وهو يحمل حبلا، خرج في صورة غريبة، شيء ما حدث غير انتحار الفتاة، بدا وكأنه شارد العقل، طأطأ رأسه، وأخذ من الرجل سلاحه ليعيده إلى حوضه، نفس الرجل الذي انتبه للجرح الذي أصيب به دي لا بوت في يده، وخلفه رأى الجميع فتاة معلقة، وبعد صمت غريب تكلم دي لا بوت بصعوبة، كان شارد العقل، لم يطل البقاء وطلب منهم أن يستعدوا للرحيل في الحال، كان قد استدار إلى الباب وأغلقه وذكرهم أنه لن يدخل أحد هذه الغرفة مطلقا، توعد بقطع رأس كل شخص يفكر في فعل ذلك، كان الجميع يفكر أنه يتوجب على دي لا بوت أن يدفن محبوبته، وألا يتركها معلقة بذلك الشكل، لكن من يتجرأ على قول ذلك أو حتى اقتراح الأمر، سيقطع رجليه لأنه قال ذلك وسيقطع رأسه لأنه فكر بذلك، وختمت جدتي القصة بأن الكولونيل والرجال غادروا القلعة إلى الأبد من دون رجعة، حتى إنها سمعت إشاعات أن سكان القرية القريبة من القلعة قد اتخذوا القصة أسطورة، وأن العديد منهم ما زال يعتقد أن الفتاة المنتحرة معلقة هناك، وأن دي لا بوت الرجل الذي لا يمكن تحريكه يحرس غرفتها بانتظار من يتجرأ على الدخول.
لكن ما حدث لم يحدث يوما برأس ذلك الصبي الذي كنته، وأحسست لسنوات أنه إن حدث ذلك فإنه سيتغير الكثير مما حدث بعد ذلك، ثم اكتشفت شيئا لاحقا؛ بعد سنوات من الآن، حينما سأجلس بتلك المحكمة المعلقة بين السماء والأرض، حينما سأنتظر لتسعة أشهر، سيخبرني أحدهم عن حكاية دي لا بوت، وسأكتشف ما حدث، سأكتشف علاقتي بالفتاة المنتحرة.
بعد خمس ساعات من وفاة العجوز
تمددت إلى الكرسي، ونظرت إلى الطريق، كانت الحافلة تسير ببطء، وابنتي تبكي إلى جانبي، كان الركاب يعتقدون أنني ضربتها، لكن لا يهم ما يعتقد الآخرون، فالبشر يحكمون دوما على ظواهر الأمور بخبايا أنفسهم، وأنا الآن لا يهمني ما يعتقدون، حتى إنني لم أهتم لبكاء ابنتي، جلست وكأن شيئا لم يحدث، التفت إليها مجددا وأخبرتها أننا لن نغادر الجزائر كما كان مقررا، فقد طلبت مني والدتها قبل شهر مبلغا من المال، مبلغا كبيرا، كانت بالجنوب وأخبرتني بأنها في حاجة إليه، لذا أرسلت لها مدخراتنا، لم يكن يجب أن أفعل ذلك، فقد طلقتها ولم يكن على عاتقي نفقات كهذه، لكنها وعدتني أنها ستعيد لي المال بعد ثمانية عشر شهرا، وهكذا كنت قد أغظت ابنتي فهي كانت تود بشدة زيارة جدتها صوفي بفرنسا، وقد أحبت جدتها صوفي أكثر من حبها لي، كانت ترى أن جدتها - ربما حتى جديها - أفضل بمراحل مني ووالدتها؛ ذلك أنها عاملتها دوما بمودة لم تكن لتعامل بها زوجتي، أحبت ابنتي في العائلة الجيل السابق لأمور عديدة، جهلت الكثير منها لانشغالي بمعرفة أمور أخرى غير ما تحبه ابنتي أو ما تكرهه، وأعتقد أن الانشغال عنها هو أحد الأسباب التي دفعتها لتفضل جيل العائلة الذي سبقنا، وتساءلت دوما عن الأفراد الذين لم تتمكن من الالتقاء بهم، كوالدتي ووالدي، أفراد العائلة الراحلين، من لم تستطع مقابلتهم كشرط وضعه القدر لتتمكن من القدوم إلى العالم، أفراد من العائلة الكبيرة رحلوا عنها قبل أن يكون لصوفي وجود، وكان والدي أحد أفراد العائلة الذين أكثرت صوفي السؤال عنهم، والدي الذي أذكره الآن وأتذكره ما بعد ذلك بأشواط من الزمن، اعتدت أن أتذكره في صفة تساؤلات، كان أشبه بسراب أبلغه في مرحلة معينة من التذكر، ربما كان يشغل بالي بعض الوقت، ليس لأنني أشتاق إليه، لكن لنسمه الفضول في معرفة أين هو، إلى أي مدى قد ابتعد، تساؤلات عن كونه ميتا أو على قيد الحياة. وعلى خلاف الجهد الذي بذلته في التفكير به، لم أفكر يوما في البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة، كانت مجرد أفكار مجردة برأسي، وكأنها تمرين لي لتقوية حس الفضول بي، لم أبذل جهدا في البحث عن الأجوبة، وبمثل ذلك لم أبحث عن والدي قط؛ فقد فكرت دوما أن البحث عن الأجوبة لهو جزء من البحث عن والدي، ولم أكن أود أن أبحث عنه، ليس لأنني أكرهه، وكذا ليس لأنه يصعب علي أن أفعل ذلك، لكنني لم أرد أن أفعل ذلك ببساطة، وقد كان مجرد شعور بأنه لا يهم إن أنا بحثت عنه، وفكرت أن والدي ابتعد لأنه لم يرد أن يجده أحد، وإن أنا اعتزمت فعل ذلك فإنني ومن دون وعي سأكون قد جعلته يفقد الهدف من ابتعاده عنا.
Unknown page