كان البحر أسود اللون كالبازلت، ومغطى برغوة مزبدة، وزبد متخثر لونه أخضر ثلجي، وجدران عالية مهتزة مليئة بإبر من هواء ترتفع إلى أعلى وأعلى وتسقط لتصطدم بجدران أخرى من الماء على شواطئ العالم المتهاوية.
أطلقت السفينة في الشرق، وكانت سفينة مهيبة وجميلة، مصنوعة من مادة طافية وشفافة على نحو باهت؛ ألا وهي أظافر البشر الميتين الصلبة، التي انتزعت وهي ناتئة، بعدما توقف الدم. لقد كانت سفينة أشباح بلون العظام ، فكان لونها رماديا مميتا، كما لو أن جميع أشكال الفوضى العائمة في المياه، التي لا تتعفن ولا تتحلل، قد تجمعت والتصق بعضها ببعض في هذه السفينة المنزلقة. كانت تدعى «نجلفار». وكان قائد دفتها هو العملاق «هريم». تخيلتها الطفلة النحيلة بالطبع بحكم سنها الصغيرة مثل قارب شراعي بحبال شبحية ورايات خفاقة. ثم صارت تتخيلها مثل سفينة ذات جسم طويل وعنق طويلة ومقدمة على شكل تنين، وتهدف إلى الإغارة على السفن الأخرى، ومثل جلد ثعبان ميت مصنوع من طبقات من الحراشف المتمثلة في أظافر أصابع الأقدام، يلمع لمعانا خافتا. كان يديرها عمالقة الجليد وعمالقة النار معا، وانطلقت في سحابة من بخار يغلي.
مع تقاذف قشرة الأرض وغليانها، بدأ غطاء البحر يتراقص بجنون، مع اندفاع فوارات المياه وارتطامها بالأمواج، التي كانت مليئة بالجثث الطافية، وأسراب من الأسماك اللامعة النافقة، وجثث الحيتان، وكركدن البحر، والحيتان القاتلة، والسبيدج العملاق، وثعابين البحر، كلها تتدافع لأعلى وتمزق إربا بفعل الحرارة والبرودة وقوى الطبيعة الأولية.
ثم ارتفع سطح البحر عاليا خلف مؤخرة «نجلفار» كأنه جبل هائل ومتدفق، به شقوق وأخاديد متحركة، تنهمر منه أعشاب بحرية ممزقة وحبيبات الشعاب المرجانية المدمرة. وفي وسط هذا الجبل ظهر الرأس المفزع لأفعى «يورمنجاندر»، أفعى «ميدجارد»، هذا الشريط من جلد الثعابين الذي حافظ على شكل العالم المادي. ارتفعت الأفعى وخرجت وهي تسير متلوية إلى الأمام، ويرتفع رأسها المغطى بلبدة لحمية عاليا، ويرتفع ذيلها من بين الصخور والرمال محركا بذلك البحر بأكمله. طفت «نجلفار» بخفة على الدوامة التي أحدثتها حركة الأفعى، وهز «هريم»، عملاق الثلج، فأسه لتحية هذا الوحش. كان جسمها ملفوفا بأعشاب بحرية ممزقة وحبال وسلاسل البشر الميتين، التي لا تزال جثثهم المشقوقة تتدلى منها. بدأت تتلوى في الماء، متجهة بعزم نحو ساحة المعركة «فيجريد». ضحكت تلك الأفعى الضخمة، تماما مثل والدها وأخيها، بصوت مرتفع، وبدأ السم يقطر من أنيابها ويحدث لهيبا عند قمم الأمواج. غمرت مياه البحر الشديدة الارتفاع السواحل والشواطئ والصخور وجدران الموانئ ودلتا الأنهار، والمصبات والمستنقعات. فلم يعد من الممكن تمييز معالم العالم.
عندما فك القيد الموجود حول الأرض، انكسرت القيود الأخرى. قضم «جارم» كلب الجحيم سلسلته وقفز إلى الخارج لينضم إلى أخيه الذئب. ضربت الشمس في عربتها، وضرب القمر في عربته، خيولهما وهي تعدو في اندفاعهما الأبدي حول السماء. إلا أن الذئاب التي تبعتهما دون كلل، والتي انضم إليها «جارم» بعينين وحلق قرمزيين، علمت أن وقتها قد حان، فأسرعت في ركضها، وانقضت بأسنانها على السيقان الخلفية للحصان الفضي والآخر الداكن اللون. فصرخ الحصانان وانحرفا عن الطريق، فجن جنون الضوء في العالم، وأصبح معتما، ثم أبيض ملتهبا، ثم معتما كالجحيم، ثم أحمر قانيا. مزقت الذئاب حنجرتي الحصانين والتفتت إلى السائقين في عرباتهما، السيدة الشمس، والأم الليل، والفتى القمر، والفتى في عربة النهار المشرقة. في مكان ما في وسط الهواء، بينما كانت العربات تهوي إلى الأسفل، مزقت الذئاب الشمس والقمر والنهار والليل إربا، وشربت دماءهم وابتلعتهم بالكامل.
أما النجوم فقد كانت، كما اعتقد البعض، أنوارا خارجية، تشع عبر ثقوب في جمجمة «يمير». أما الآن، حين بدأت الذئاب تعدو ضاحكة عبر السماء نحو «فيجريد»، بدأ ضوء النجوم يخبو، وتساقطت مثل الشموع المحترقة أو الألعاب النارية المنطفئة، وانهمرت على الأرض المشتعلة التي تغلي. رأى «فنرير» إخوته في السماء فأصدر عواء لتحيتهم. لقد كبر حجمه. فصار خطمه يحتك بجمجمة «يمير»، وفكه يقع على امتداد الأرض المحترقة.
تقدمت الآلهة ومحاربو «فالهالا» مثل البيرسيركيين الهائجين تجاه سهل المعركة. أصدروا زئيرا في تحد - فهذا ما كانوا يجيدونه - فزأرت الذئاب والثعابين وعمالقة النار وعمالقة الصقيع في المقابل وأصدرت حفيفا، بينما وقف «لوكي» مبتسما في ضوء ألسنة اللهب الحمراء المتطايرة، والتي كانت مصدر الضوء الوحيد الموجود. «راجناروك»، المعركة الأخيرة.
تقدم «أودين» نحو الذئب «فنرير»، وهو يعدل رمح المران «جونجنير». انتصب شعر رأس هذا الذئب. ولمعت عيناه الخبيثتان. وتثاءب. فغرس الإله رمحه في فك الذئب الفاغر. هز الذئب نفسه، وقضم الرمح، وتقدم ثلاث خطوات إلى الأمام، وأطبق على «أودين» الكبير وهزه، ومزقه، وابتلعه. سرى النحيب بين «الإينهيرجار». وترنحوا، وتقهقروا، ثم تقدموا مرة أخرى، ولكن في صمت الآن. فلم يسعهم فعل أي شيء آخر.
اعتلى أبناء «لوكي» ساحة المعركة، وقد امتزج صوت ضحكات الذئب بالحفيف الفرح للأفعى. وبدافع الحزن الذي يغمره، رمى «ثور» نفسه فوق الأفعى، وانهال عليها ضربا بقبضتيه ومطرقته الرعدية، فهشم جمجمتها. تلوت الأفعى، وسقطت، ونفثت السم. استدار «ثور» ليخبر الآلهة أنهم لم يخسروا بعد، فقد قضى على الأفعى. لم يتقدم «ثور» سوى تسع خطوات في سيل السم الذي غمرته به، ثم سقط ميتا.
حدثت معارك أخرى على غرار تلك المعركة. فقد قاتل «تير» بذراع واحدة، وهو لا يزال يرتدي جلد الذئب، كلب الجحيم «جارم»، حتى أنهك كلاهما وسقطا مهزومين، ولم ينهضا مرة أخرى. كذلك قتل «فرير» بسيف «سورتر» البراق. زحف أحد أبناء «أودين» الصغار، الذي يدعى «فيدار»، بين الجثث وطعن الذئب «فنرير» في فرائه المضرجة بالدماء. سعل الذئب وسقط، فخنق «فيدار» المنتقم تحت وزن جسمه.
Unknown page