عرفت الطفلة النحيلة أن الوعد لا يمكن الوفاء به. لا بد أن هناك شيئا ما، في مكان ما، قد فقد وذهب في طي النسيان. إن القصص حتمية. وفي هذه المرحلة من كل قصة، لا بد أن يحدث خطأ ما، أو يخرج أمر عن مساره، مهما كانت النهاية التي ستقع. فحتى الآلهة لا تحظى بفرصة اتخاذ احتياطات كاملة ومضمونة و«مثالية». دائما ما ستكون هناك ثغرة، زلة، غرزة غير محاكة، أو لحظة من التعب أو عدم الانتباه. توسلت الإلهة «لكل شيء»، كل شيء، وطلبت التعهد بعدم إيذاء ابنها. ومع ذلك، فقد كانت حبكة القصة تقتضي أنه لا بد من تعرضه للأذى لا محالة.
احتفلت الآلهة باتحاد الأرض والهواء والنار والماء وجميع الكائنات التي تعيش في هذه العناصر وعليها. وكما كان متوقعا، فقد احتفلوا بالقتال والصياح. كانوا ينخرطون في المشاجرات التي تشبه المشاجرات المدرسية التي يجتمع فيها الجميع ضد ضحية أعزل، ولكن في هذه الحالة، كان «بالدر» الجميل، هو ضحية الشجار؛ فها هو يقف هناك بسلام، وبشيء من الفخر بحصانته ضد الأذى. فقذفوه بكل أنواع الأشياء، بكل ما وقعت عليه أيديهم. العصي، والهراوات، والحجارة، ورءوس الفئوس المصنوعة من حجر الصوان، والسكاكين، والخناجر، والسيوف، والرماح، حتى إن «ثور» في النهاية قذفه بمطرقته الرعدية، وشاهدوا بسعادة هذه الأشياء وهي تندفع برشاقة مثل قطعة الخشب المقوسة المرتدة غير المؤذية وتعود إلى أصحابها مجددا. وكلما عاد ما كانوا يقذفونه إليهم مرة ثانية، قذفوا أكثر وأغلظ وأسرع. كانت لعبة جيدة. كانت أفضل لعبة على الإطلاق. ضحكت الآلهة وابتسمت وظلت تلقي بالأشياء عليه، وتمادت في ذلك.
جاءت امرأة عجوز لرؤية «فريج» التي كانت في قصرها «فينسالير». لا يبدو أن «فريج» قد تساءلت عن هويتها أو من أين أتت. كانت مجرد امرأة عجوز عادية مثل أي عجوز أخرى، بل كانت امرأة عجوزا نمطية. ففي الواقع عند النظر إليها بتمعن سنجد أنها كانت عجوزا شبه مثالية، تغطي وجهها ورقبتها شبكة من التجاعيد، وترتدي عباءة طويلة تنسدل ثناياها المتشابكة فوق فستانها الداكن، فبدت أشبه بأيقونة للسيدات العجائز. إذا نظرت إليك تلك العجوز - حتى لو كنت ملكة «الإيسر» - فلن يمكنك تحمل مواصلة النظر في عينيها ذواتي النظرة الرمادية الباردة، ولكنك ستعلم أنك بحاجة إلى التحدث معها؛ فقد كانت تثير تلك الحاجة في نفس من يراها، كما لو كانت تلك الحاجة هي ما جعلها تتجسد في شكل امرأة عجوز. كانت هذ المرأة قطعا هي «لوكي» المتحول، الذي يمارس سحره ليأسر العقول. ومن ثم سألتها «فريج»، كما أرادها أن تفعل، عما كانوا يفعلونه جميعا في حقول «أسجارد» وهم يصرخون ويصيحون؟
قالت المرأة العجوز إنهم كانوا يقذفون «بالدر» بالأسلحة، ولم يستطع شيء أن يؤذيه. وأشارت بتواضع إلى أنه لا بد وأن شخصا ذا نفوذ عظيم قد أقنع كل الأشياء بعدم إيذاء «بالدر».
فقالت «فريج»، كما كان يجب عليها وكما تتطلب الحكاية، إنها هي، والدته، التي طلبت من كل الأشياء ألا تؤذيه، وقد استجابت لها.
فسألتها العجوز: «كل الأشياء؟» «حسنا، لقد لاحظت برعما صغيرا ناميا على شجرة في غرب «فالهال». إنه شيء يدعى نبات الدبق. كنت قد مررت به قبل أن ألاحظه، وكان بالكاد حيا، وواهنا، وأصغر من أن يقطع وعدا.»
ومع ذلك، فكرت الطفلة النحيلة أنها لا بد قد شعرت بالقلق عند نقطة ما، وإلا فكيف كانت ستتذكر هذا النبات الضئيل؟
وبعدها، اختفت المرأة العجوز تماما وبكل بساطة. ربما لم تكن موجودة من الأصل. كان المجهود الهائل الذي بذلته «فريج» قد أرهقها. فقد كانت عيناها لا تريان بدقة. واستمعت إلى الصراخ المحموم للآلهة السعيدة.
ذهب «لوكي» بحثا عن الدبق. إن الدبق قاتل ضعيف. ذلك أنه يلتصق بأفرع الأشجار وأغصانها، ويرسل خيوطا دقيقة تشبه الديدان الشعرية العمياء إلى أعمدة المياه المتصاعدة التي تمتصها أوراق الشجرة، ثم تخرجها إلى الهواء. ليس للدبق أفرع ولا أوراق حقيقية؛ فهو عبارة عن مجموعة متشابكة من السيقان الشمعية، ونتوءات غريبة على شكل مفاتيح وحبات توت لونها أبيض غروي يمكن من خلال لحمها الشفاف رؤية بذور سوداء، تشبه بيض الضفدع، مثلما ظنت الطفلة النحيلة دائما، كلما رأت كرات الدبق الثقيلة التي تنمو بكثافة على الأغصان العارية شتاء. كانت أغصانها الصغيرة مثبتة على حوامل المصابيح، وفوق المداخل في مطلع الشتاء، وكان الأحبة يتبادلون القبلات أسفلها؛ لأنها كانت دائمة الخضرة ومتماسكة، فقد كانت تجسيدا للثبات والحيوية الدائمة. وبجانب شجرة البهشية التي يلتف الدبق حولها أحيانا، كان يبدو شاحبا، وكأنه غير موجود أصلا. كانت البهشية لامعة وقرمزية وشائكة وقوية. أما الدبق، فقد كان ناعما، ولينا، ولونه مصفرا كالأوراق المحتضرة. لقد أخبرت الطفلة النحيلة عنه أثناء دراسة مادة الطبيعة. وقد حذرت من أكله؛ لأنه سام، كما قيل لها، وهذا على الرغم من أنها أخبرت أيضا أن الطيور تتغذى عليه وتبعثره في كل مكان وهي تنظف صمغه من مناقيرها على لحاء الأغصان، تاركة البذور والصمغ.
ويمكن للدبق أن ينتشر على أي شجرة كالمعطف وأن يمتص ماء الحياة من الخشب، بحيث يصبح الهيكل المتبقي مجرد دعامة جافة وميتة للأوراق السعفية ذات اللون الرمادي والذهبي.
Unknown page