Rahman Wa Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
ينتمي النص إلى جنس الأدب الديني الرؤيوي، وفيه يتحدث أخنوخ بن يارد، السلف السادس بعد آدم من سلالة ابنه شيت، عن رؤيا نبوية عرجت به إلى السماوات وصولا إلى عرش الرب، وهناك استمع من فمه مباشرة إلى قصة الخلق والتكوين: «عندما كنت في سن الخامسة والستين بعد الثلاثمائة، وفي أحد أيام الشهر الثاني، كنت وحيدا في بيتي وأشعر بضيق عظيم، فرحت أبكي وأنتحب على وسادتي حتى غلبني النوم، عندها ظهر لي رجلان هائلان في الحجم لم تر عيني مثلهما على الأرض، كان وجهاهما يضيئان مثل الشمس، وعيونهما تتقد كمشعل، ومن فميهما تخرج النيران، وأذرعهما لها شكل أجنحة ذهبية. وقفا على رأس سريري وهتفا باسمي، عندها انتبهت من نومي وانتصبت واقفا فانحنيت أمامهما بعد أن سترت وجهي خوفا وفرقا. فقالا لي: تشجع يا أخنوخ ولا تخف، فنحن رسولان من عند الرب الأزلي. اليوم سترتفع معنا صعدا نحو السماء، فأخبر زوجك وأفراد أسرتك بما يتوجب عليهم فعله في البيت، وقل لهم ألا يبحثوا عنك حتى يعيدك الرب إليهم.»
22
بعد ذلك يرفع الملاكان أخنوخ على أجنحتهما ويرقيان به إلى السماء الأولى، وهناك يقوده الملاك المتصرف بشئون النظام النجمي فيريه مسالك النجوم ومداراتها ومعابرها، ويريه هنالك بحرا واسعا أكبر من بحار الأرض، ومئات من الملائكة ترف فوقه بأجنحتها، ويريه مخازن السحب والبرد والثلج والندى وعليها ملائكة يحرسونها، ثم يعود إليه الملاكان فيرقيان به إلى السماء الثانية، وهنالك يرى ظلمة مترامية في أعماقها ملائكة سود مقيدون بسلاسل وهم ينتحبون، فيسأل عنهم وعن سبب تعذيبهم، فيجيبه الملاكان بأنهم الملائكة العصاة الذين ساروا وراء كبيرهم، وهم الآن في انتظار الحساب الأخير. في السماء الثالثة يلج الملاكان بأخنوخ إلى جنة غناء يقوم على حراستها ثلاثمائة ملاك، فيها من كل شجر وثمر، وما لم تره عين ولا يستطيع كائن بشري وصفه. وفي وسط الجنة شجرة الحياة ونبعان يفيض منهما نهران من لبن وعسل ، ثم يتفرعان إلى أربعة روافد من زيت وخمر. إنها الميراث الأبدي للأبرار الذين ساروا في حياتهم أمام الرب بدون خطيئة، وطهروا أرواحهم من الشر، وأطعموا الجائع وألبسوا العريان، وأعانوا الأرملة واليتيم. في الجهة الأخرى من السماء الثالثة يقف الملاكان بأخنوخ على عتبة مكان مظلم مخيف تتأجج فيه نيران أبدية، ويقوم عليه ملائكة مخيفو الهيئة يحملون أدوات تعذيب مرعبة. إنه الميراث الأبدي للخطأة الذين اختاروا طريق الشر وعاكسوا إرادة الرب فسرقوا وقتلوا وحسدوا، وكدسوا الثروات على حساب الفقراء، وأجاعوا المسكين وظلموا الأرملة واليتيم.
في السماء الرابعة يرى أخنوخ الشمس والقمر ومساريهما، والنجوم الأربعة التي ترافق الشمس، وتحت كل واحد منها ألف نجم تابع له، وهنالك عشرات الألوف من الملائكة المعينين بشئونها، ومن وسط هذه السماء الرابعة تناهى إلى سمعه صوت جوقات الملائكة تسبح بحمد خالقها وتنشد على إيقاع المزامير والصنوج. في السماء الخامسة يرى أخنوخ الملائكة الساقطين المدعوين بالعمالقة، وهم أول زمرة من الملائكة تمردت على الرب وتبعت رئيسها المدعو «ساتانا إيل»، فأدارت وجهها عن نور الرب ثم أغوت بقية الملائكة الساقطين الذين رآهم في السماء الثانية، وكانوا في كرب عظيم وحزن عميق صامتين إلى نهاية الأزمنة عندما يحين يوم عقاب الرب. في السماء السادسة يرى سبع زمر من الملائكة هم الرؤساء الموكلون بشئون الأرض، فما من ظاهرة من ظواهر الطبيعة إلا وعليها ملاك حارس منهم، وبينهم من يسجل ويحصي أعمال البشر على الأرض، السيئة منها والحسنة، وكل هؤلاء يسبح بأنغام عذبة تتردد دوما تحت قدمي الرب الجالس في السماء السابعة.
عندما يصل أخنوخ إلى السماء السابعة، يرى العرش من بعيد وحوله طبقات الملائكة العليا من الكروبيم والسيرافيم وهم منشغلون بالإنشاد والتسبيح. هنا يقول له الملاكان بأن مهمتهما قد انتهت ويتركانه وحيدا، يسقط أخنوخ على وجهه لهول المشهد، ولكن الملاك جبرائيل يتقدم نحوه ويناديه قائلا: تقدم يا أخنوخ ولا تخف. قم معي إلى سدة العرش العظيم. ثم يتقدم إليه فيرفعه عن الأرض كورقة شجر عصف بها الريح ويضعه أمام وجه الرب . يأمر الرب أن يؤتى لأخنوخ بقرطاس وورق ومداد ليكتب كل ما رآه وكل ما سيسمعه من فم الرب، ليبلغه إلى أرواح البشر المعدة للأبدية من قبل أن يخلق العالم، ثم يقص عليه قصة الخلق والتكوين.
تتطابق قصة الخلق في سفر أخنوخ الثاني مع قصة الخلق التوراتية في خطوطها العامة، ولكنها تضيف إليها عنصرين جديدين: الأول هو خلق الملائكة في اليوم الثاني من أيام التكوين، والثاني عصيان الملاك الرئيس ساتانا- إيل وتمرده على ربه وتحوله إلى إبليس ورئيس للشياطين، إضافة إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان الأول في اليوم السادس. فلقد خلق الرب الملائكة من جوهر النار، وجعلهم في عشر طبقات لكل طبقة رئيس، ثم إن أحد رؤساء هذه الطبقات قد تصور في قلبه خطة مستحيلة، وهي أن يعلو فيصبح ندا للرب في القوة، فتمرد هذا الرئيس على خالقه ثم أغوى من تحته من الملائكة وزين لهم العصيان، ولكن الرب رماه من الأعالي مع ملائكته، ففقدوا بريقهم الإلهي وصاروا أرواحا متمردة شريرة تهيم فوق وجه الهاوية السفلى.
في اليوم السادس خلق الرب الإنسان من سبعة عناصر، فجعل لحمه من تراب الأرض، ودمه من الندى، وعينيه من الشمس، وعظمه من الصخر، وذكاءه من الغيوم ومن سرعة الملائكة، وشعره وأوردته من عشب الأرض، وروحه من نفس الرب ومن الريح، ودعا اسمه آدم، ثم أسكن الرب آدم في جنة زرعها على الأرض في عدن شرقا، ليرعى عهده ووصاياه، وأراه الطريقتين، طريق النور وطريق الظلام، وقال له هذا حسن وذاك سيئ، ومع ذلك فقد كان الخالق مطلعا على فؤاد آدم عارفا بطبيعته الخاطئة، فقال في نفسه: وهل بعد الخطيئة سوى الموت، ثم أوقع الرب سباتا على آدم وأخذ من أضلاعه واحدا وخلق منه زوجا له دعاه حواء. ولكن الشيطان تسلل إلى الفردوس وأغوى حواء وجعلها تخطيء ولكنه لم يقارب آدم.
23
وهنا يقول النص على لسان الرب: «فحلت لعنتي على الجهل، أما ما باركته سابقا فلم ألعنه، لا الإنسان ولا الأرض ولا بقية المخلوقات، وإنما أعمال الإنسان الشريرة. وقلت له إنك من تراب وإلى تراب الأرض التي أخذتك منها تعود. لن أهلكك وإنما سأبعدك عن المكان الذي أسكنتك فيه، ولسوف أضمك إلي في مجيئي الثاني. ثم باركت جميع مخلوقاتي المرئية منها وغير المرئية. وكانت فترة إقامة آدم في الجنة خمس ساعات ونصف. وباركت يوم السبت الذي فيه استرحت من جميع أعمالي، وجعلت اليوم الثامن رأس الأيام المخلوقة التي تلت أعمالي، وجعلت بعده سبعة آلاف سنة بعدد الأيام السبعة الأولى، وفي بداية الألف الثامن جعلت موعدا للأبدية، لزمان لا يقاس بالسنوات والشهور والأسابيع والأيام والساعات.»
بعد ذلك يأمر الرب أخنوخ أن يعود إلى الأرض ويخبر بما رآه عبر رحلته من السماء الأولى وإلى العرش العظيم، ويعطيهم ما سطره في كتابه ليتناقلوه من جيل إلى جيل. فيرجع أخنوخ ويبشر بين الناس ويعظهم بالحياة الأخلاقية السوية، لأنهم سوف يجدون أعمالهم الحسنة تنتظرهم يوم الحساب الأخير. وبعد أن ينتهي من مهمته يرسل الرب ظلمة على الأرض ويرفع أخنوخ إليه ليعيش خالدا في السماء. وعندما تنقشع الظلمة يتلفت الناس حولهم فلا يرون أخنوخ، وفي الموضع الذي كان واقفا فيه يرون لفافة كتب عليها: الله الخفي.
Unknown page