شكر وتقدير
تمهيد السلسلة
مقدمة
1 - أحلام رحلات الفضاء والمقتضيات العسكرية
2 - سباق الفضاء في الحرب الباردة
3 - علوم الفضاء واستكشافه
4 - البنية التحتية للفضاء العالمي
5 - الثقافة الفلكية: رحلات الفضاء والخيال
6 - رحلات الفضاء المأهولة بعد الحرب الباردة
الخاتمة: ماضي رحلات الفضاء ومستقبلها
مسرد المصطلحات
ملاحظات
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد السلسلة
مقدمة
1 - أحلام رحلات الفضاء والمقتضيات العسكرية
2 - سباق الفضاء في الحرب الباردة
3 - علوم الفضاء واستكشافه
4 - البنية التحتية للفضاء العالمي
5 - الثقافة الفلكية: رحلات الفضاء والخيال
6 - رحلات الفضاء المأهولة بعد الحرب الباردة
الخاتمة: ماضي رحلات الفضاء ومستقبلها
مسرد المصطلحات
ملاحظات
قراءات إضافية
رحلات الفضاء
رحلات الفضاء
تاريخ موجز
تأليف
مايكل جيه نيوفلد
ترجمة
هبة عبد العزيز غانم
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
شكر وتقدير
قدم لي زميلي في المتحف الوطني للطيران والفضاء ديفيد ديفوركين تعليقات قيمة على الفصول كافة. كما منحني رون دويل وماثيو شينديل وبول سيروزي وعاصف صديقي آراء سديدة أفادتني أيما إفادة. علاوة على ذلك، أود أن أتوجه بالشكر إلى المراجعين المجهولين في مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على اقتراحاتهم، ولمحررتي، كاتي هيلك لاهتمامها المخلص بالعقد وعملية المراجعة وإنتاج هذا الكتاب. كما أدين بالشكر لزوجتي، كارين ليفنباك، التي منحتني الحب والدعم والاقتراحات التحريرية طوال عملية الكتابة، ولقطتينا بارجيتر ورامسي اللتين كانتا تشتتان ذهني أحيانا، تشتيتا محببا إلى نفسي، أثناء الساعات التي أقضيها على الكمبيوتر.
تحول رحلات الفضاء دون الانهيار الحضاري الذي قد تجلبه علينا الحرب أو التغييرات المناخية؛ ومن ثم فإنها ستستمر على الأحرى في المستقبل، كونها قد أضحت جزءا لا يتجزأ من الحياة على كوكب الأرض.
تمهيد السلسلة
تقدم سلسلة المعرفة الأساسية لمطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كتبا موجزة بلغة جزلة سهلة الفهم وشكل أنيق وحجم صغير يلائم الجيب، وتتناول من الموضوعات ما هو رائج في الآونة الأخيرة. ويؤلف الكتب في هذه السلسلة عدد من كبار المفكرين، الأمر الذي يجعلها قادرة على أن تمنح القارئ نظرة عامة سليمة عن موضوعات شتى تتنوع ما بين الثقافة والتاريخ والعلم والتكنولوجيا.
في ظل ما يشيع في هذا العصر من إشباع لحظي للمعلومات، أضحى لدى الجميع القدرة على الوصول إلى الآراء والأفكار والشروح السطحية بسرعة وسهولة، وأصبح من الصعوبة بمكان أن يحظى المرء بالمعرفة الأساسية التي تيسر فهما صادقا للعالم. وما تفعله كتب هذه السلسلة هو أنها تحقق ذلك الغرض. وكل كتاب من هذه الكتب المختصرة يقدم للقارئ وسيلة ميسرة للوصول إلى الأفكار المعقدة، من خلال تبسيط المواد المتخصصة لغير المختصين، وشرح الموضوعات المهمة بأبسط طريقة ممكنة.
بروس تيدور
أستاذ الهندسة البيولوجية وعلوم الكمبيوتر بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
مقدمة
رحلات الفضاء هي واحدة من أعظم الإنجازات التي حققها البشر في القرن العشرين؛ ففي عام 1900، لم يكن هناك سوى شخص أو اثنين فقط على وجه الأرض يعلمون أن الصاروخ ربما يجعل السفر عبر الفضاء ممكنا، ولم تمر أربعة عقود، إلا وبدأت الصواريخ الألمانية «في-2» رحلاتها إلى ما وراء الغلاف الجوي. وبحلول عام 1963، كان الاتحاد السوفييتي قد أطلق أقماره الصناعية الأولى، ووصل إلى القمر، ووضع أول رجل وأول امرأة في مدار الأرض. وفي نهاية ذلك العقد نفسه، دار رواد الفضاء الأمريكان حول القمر ثم هبطوا عليه. وبحلول السبعينيات من القرن العشرين وصلت الروبوتات الأمريكية والسوفييتية إلى سطح كوكب الزهرة والمريخ، وقبل عام 1989، كانت مركبات الفضاء الأمريكية قد حلقت بالقرب من الكواكب الثمانية الكبرى جميعها. وانطلقت أربع من هذه المركبات في رحلات ذهاب فقط إلى فضاء ما بين النجوم، فكانت بذلك أول أجهزة من صنع البشر تستطيع الهروب ليس فقط من تأثير جاذبية الأرض، بل من تأثير جاذبية الشمس أيضا.
رحلات الفضاء هي واحدة من أعظم الإنجازات التي حققها البشر في القرن العشرين.
هذا الاستكشاف المباشر للكون، بالتزامن مع التليسكوبات الفضائية والأرضية، قد غير فهم الإنسان لكوكبنا، وللنظام الشمسي، وللكون تغييرا جذريا. ومع ذلك، فإن الاستكشاف لم يكن أبدا هو السبب الوحيد، أو حتى السبب الرئيسي، الذي جعلنا نتجه للفضاء؛ فالأغلبية العظمى من مركبات الفضاء تدور حول كوكب الأرض لتمده بخدمات، أو لتجمع حوله معلومات. منذ الستينيات من القرن العشرين، نجحنا في ربط الفضاء القريب من الأرض، بداية من المدار الأرضي الجغرافي المتزامن (المدار الذي يدور فيه القمر الصناعي في نفس اتجاه كوكب الأرض حيث المدة التي يستغرقها ليدور دورة كاملة حول الأرض تساوي مدة دوران الأرض حول نفسها) على بعد 22200 ميل (35800 كيلومتر)، وأقمنا منطقة جديدة للحكم والنشاط الاقتصادي. وقد أصبح ما يحدث هناك الآن جوهريا للحياة اليومية، لا سيما في العالم المتقدم، وذلك من خلال توفير سبل التواصل العالمية، والملاحة بالأقمار الصناعية، وعمليات رصد الطقس، والاستطلاعات العسكرية، والإنذار المبكر ضد الصواريخ، وعلوم الأرض، وما إلى ذلك. وكان ثمرة ذلك خلق بنية تحتية فضائية نامية، ولكنها في الوقت نفسه غير مرئية.
ما زال «برنامج الفضاء» حتى الآن مرادفا لرحلات الفضاء المأهولة بالنسبة للكثيرين. إلا أن رواد الفضاء قد قطعوا أقل من 400 ميل (650 كيلومترا) تقريبا من سطح الأرض منذ رحلة «أبولو» الأخيرة للقمر في ديسمبر 1972. ومن المتوقع أن يتغير ذلك في العشرينيات من القرن الحادي والعشرين، ولكن ما زلنا لا ندري ما إذا كان ذلك سيثمر عن مستقبل نابض بالحياة من بناء قواعد على سطح القمر أو القيام برحلات استكشافية إلى كوكب المريخ. وفي حين أننا تعلمنا دروسا مهمة في ما يقرب من نصف القرن الذي لم يتخط فيه رواد الفضاء مدار الأرض المنخفض، إلا أن قيمة التغيير التكنولوجي والإنجاز في الرحلات الفضائية المأهولة سوف تتضاءل عند مقارنتها بكل من عمليات استكشاف الفضاء العميق الآلية والبنية التحتية للفضاء القريب. ومن ثم، فإن أحد أهدافي الرئيسية من تأليف هذا الكتاب الموجز هو تمهيد الطريق أمام القارئ الواعي العادي ليرى بوضوح النطاق الواسع من الأنشطة التي طورناها كبشر في الفضاء، وتأثير هذه الأنشطة على الوعي والثقافة.
علاوة على ذلك، لا مناص من أن يصف التاريخ الأصول والأسباب، وليس فقط الأحداث وتداعياتها. إن خيال الإنسان ورغبته الملحة في الاستكشاف كان له بالضرورة علاقة وطيدة برحلات الفضاء، ولكن أي نشاط في هذا الاتجاه يكلف أموالا طائلة. في مستهل القرن العشرين، سرعان ما حلت سباقات التسلح العالمية والحرب محل الحماس المتقد كدوافع أساسية للتطوير. وما زالت البعثات العسكرية وبعثات الأمن الوطني تمثل جزءا كبيرا جدا فيما يحدث في مدار الأرض. ولا ريب أن اكتساب الهيبة والقوة التكنولوجية كان من العوامل الخطيرة، لا سيما لرحلات الفضاء المأهولة أثناء الحرب الباردة، وبعدها. وقد دخلت المنافسة التجارية والأرباح المعادلة في ستينيات القرن العشرين، وكان ذلك في البداية من خلال الأقمار الصناعية الخاصة بالتواصل فحسب. ثم بدأ النشاط يمتد إلى قطاعات أخرى، في أواخر الحرب الباردة، حتى وصل بحلول العقد الأول من الألفية الثانية إلى رحلات الفضاء المأهولة.
نظرا لأن الدول القومية هي الفاعل الرئيسي في هذا المجال؛ فإن تاريخ الفضاء كثيرا ما يكتب كتاريخ البرامج القومية، أو كتاريخ البرامج التعاونية بين الدول. ويسوق ذلك معظم السرد في هذا الكتاب، خصوصا في الفصول الثلاثة الأولى التي تسرد قصة أصول تكنولوجيا الفضاء وأفكاره، وسباق الفضاء في الحرب الباردة، وعلوم الفضاء والاستكشاف (الذي كان ثمرة الحرب الباردة). بيد أن الحركات العابرة للحدود القومية للبشر والأفكار والتكنولوجيا كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من قصة رحلات الفضاء، وقد تنامت أهميتها منذ اضطلعت الشركات والدول الجديدة بدور أكبر منذ نهاية الحرب الباردة. في الفصول الثلاثة الأخيرة، سأناقش نمو البنية التحتية العالمية في الفضاء (البنية التحتية العسكرية والمدنية)، وظهور «ثقافة فلكية» عالمية وتدويل رحلات الفضاء المأهولة وخصخصتها بعد الحرب الباردة. ويعد التكامل العالمي لاقتصادات العالم والنظم السياسية هو أساس بعض هذه التغييرات، ولكن رحلات الفضاء تؤثر أيضا على عملية العولمة ومعدلها، وذلك من خلال التأثير، من بين أمور أخرى، على ثقافة الكوكب وشبكات التواصل الخاصة به.
تحول رحلات الفضاء دون الانهيار الحضاري الذي قد تجلبه علينا الحرب أو التغييرات المناخية، ومن ثم فإنها ستستمر على الأحرى في المستقبل، كونها قد أضحت جزءا لا يتجزأ من الحياة على كوكب الأرض. ومن الممكن أن يتوسع الجنس البشري للخارج وينتشر على أكثر من كوكب، وفقا لتوقعات الداعين إلى رحلات الفضاء منذ زمن طويل، ولكنه ليس أمرا مؤكدا بأي حال من الأحوال . أيا كان ما سيحدث، فإن رحلات الفضاء سواء المأهولة أو الآلية تعد إنجازا مذهلا ولها آثار بالغة الأهمية على حيواتنا؛ ومن ثم يجدر بنا أن نفهم شيئا عن تاريخها.
الفصل الأول
أحلام رحلات الفضاء والمقتضيات العسكرية
ظلت السماء لآلاف السنين عالم الآلهة والكائنات الأسطورية، ولم تكن قط مكانا يمكن للمرء أن يتخيل السفر إليه، باستثناء القمر الذي جعله وجهه المرئي يبدو كعالم حقيقي. ولكن مع ذلك، لم تكن ثمة وسيلة للذهاب إليه غير الوسائل الخارقة للطبيعة. ورويدا رويدا أضحى بوسعنا أن نتخيل إيجاد تكنولوجيا للهروب من كوكب الأرض في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مع ظهور المناطيد، والسكك الحديدية، والسفن البخارية، وغيرها من الإنجازات التي تبدو إعجازية في وسائل المواصلات والاتصالات. ثمة تأثير آخر مهم وهو بزوغ علم الفلك الحديث في أوروبا؛ إذ حول القمر والكواكب إلى أماكن يستطيع المرء تخيل السير عليها، حتى وإن كان الذهاب إليها يبدو مستحيلا.
نشر الكثير من الحكايات الخيالية، بل التهكمية، مصورة السفر إلى الفضاء، ولكن أكثرها تأثيرا كانت مؤلفات الكاتب الفرنسي جول فيرن؛ فقصته «من الأرض إلى القمر» (1867) ومكملتها «حول القمر» (1870)، كانتا مثل باقي مؤلفاته في الخيال العلمي تضعان معيارا جديدا للواقعية التكنولوجية. وبصرف النظر عن حقيقة أن المدفع العملاق الذي استخدمه لقذف المسافرين للفضاء كان سيسحقهم على الفور في لحظة إشعاله، إلا إنه ألهم الحالمين لتخيل رحلة للقمر وكيف يمكن حل تلك المعضلة.
أحد هؤلاء الحالمين كان كونستانتين تسيولكوفسكي، الذي ولد عام 1857، الذي انتصر على إعاقة السمع ليصبح مدرسا في كالوجا بروسيا القيصرية. كان مهووسا في وقت فراغه بابتكار أفكار لرحلات الطيران في الجو وفي الفضاء. وقضى وقتا في تطوير أفكار المناطيد ذات المحركات أطول مما قضاه في مركبات الفضاء، ولكنه استوحى أفكاره من فيرن وأيضا من فلسفة روسية غريبة يطلق عليها «الكونية»، وهي فلسفة ترى أن اختراع السفر عبر الفضاء ربما يؤدي إلى كمال البشرية وإعادة إحياء الموتى، وشرع أيضا في البحث عن طريقة لقذف الأشياء في الفراغ. وبحلول عام 1883م أدرك أن الصاروخ يمكن أن ينجح في هذه المهمة.
1
لم يكن استخدام علم الصواريخ في رحلات الفضاء أمرا واضحا بأي حال من الأحوال. كان الصينيون قد اخترعوا صواريخ المسحوق الأسود نحو عام 1100 قبل الميلاد، كتطوير لصواريخ البارود. وأصبحت مهمة في الألعاب النارية وفي الحروب، خصوصا في آسيا، وانتقلت إلى أوروبا في أواخر العصور الوسطى. وحظيت الصواريخ بفرصة ثانية للحياة في الحروب النابوليونية، عندما طور المخترع البريطاني ويليام كونجريف أغلفة حديدية وأجرى تعديلات أخرى جعلتها أكثر تنافسية مع المدفعية التقليدية. ولكن علم الصواريخ خبا وهجه مرة أخرى في أواخر القرن التاسع عشر نظرا إلى أن مواسير البنادق كانت تتيح دقة أكبر في التصويب. مرة أخرى، نظرا إلى أن الصواريخ لم تكن سوى ألعاب نارية، فلم يكن ثمة إمكانية واضحة لأن تحمل على متنها مركبة بتلك السرعات التي لا يمكن تخيلها لرحلات الفضاء: 17500 ميل في الساعة لمدار الأرض المنخفض و25000 ميل في الساعة للهروب من الأرض، في الوقت الذي لم تكن فيه أية مركبة مأهولة قد سافرت حتى ذلك الحين بسرعة 100 ميل في الساعة. علاوة على ذلك، أدرك قليلون أن قانون الحركة الثالث لإسحاق نيوتن الذي ينص على أن «لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه» (كما في ردة فعل البندقية) ينطبق أيضا على الصواريخ. وكانت الفكرة الخاطئة المسيطرة هي أن دفقة العادم تحتاج إلى هواء لتدفع الصاروخ إلى الأمام.
نظرا إلى أن الصواريخ لم تكن سوى ألعاب نارية، فلم يكن ثمة إمكانية واضحة لأن تحمل على متنها مركبة بتلك السرعات التي لا يمكن تخيلها لرحلات الفضاء.
لكي يرى قدرة الصاروخ؛ حقق تسيولكوفسكي عدة وثبات خيالية تتجاوز حدود المسحوق الأسود. فقد استعان هذا العالم الهاوي، الذي علم نفسه بنفسه، بآخر الإنجازات المحققة في الكيمياء ليفهم أن حرق وقودين سائلين سيزيد مخرج الطاقة والكفاءة زيادة هائلة. بالإضافة إلى ذلك، سينتج الأكسجين السائل والهيدروجين السائل أعلى مخرج طاقة ممكن تقريبا، لكل وحدة من كتلة الوقود السائل. (أنتج الأكسجين السائل ، الذي يتكثف عند درجة حرارة −297 فهرنهايت، لأول مرة في معمل عام 1883، بينما أنتج الهيدروجين السائل، الذي يتكثف عند درجة حرارة −423 فهرنهايت، في عام 1898.) كذلك استخدم تسيولكوفسكي ميكانيكا نيوتن في حساب عجلة مثل هذا الصاروخ الافتراضي، الذي تتضاءل كتلته مع احتراق الوقود، وكان أول من كتب المعادلات الأساسية لحركة الصاروخ. وقد خلص من هذه الحسابات في النهاية إلى أن قصور أي جهاز يمكن أن يزيد عن طريق تكديس الأجهزة، وهو ما يعرف حاليا باسم التكديس. وقد سمح ذلك بالتخلص من الوزن غير المرغوب فيه في طريق الصعود، مما أتاح الوصول إلى سرعات أعلى.
في البداية كان ذلك المدرس الغريب الأطوار ينشر أفكاره في قصص الخيال العلمي التعليمية المعقدة في التسعينيات من القرن التاسع عشر، ثم بعد ذلك بدأ ينشرها كأوراق علمية في عامي 1903 و1911. لكن منشوراته لم تكن مشهورة في روسيا إلى أن بدأت الحرب العالمية الأولى، ولم تعرف على الإطلاق خارجها. وفي مستهل تسعينيات القرن التاسع عشر، نشر مخترع ألماني على القدر نفسه من الغرابة، يدعى هيرمان جانسوينت، فكرة سفينة فضاء، تطرد كتلا فردية لخلق نوع من الدفع الرد فعلي، ولكن علمه كان واهيا وسرعان ما نسيت فكرته. وحوالي عام 1908، اكتشفت مجموعة جديدة أصغر سنا من المنظرين في أوروبا وأمريكا كل على حدة الكثير من أفكار تسيولكوفسكي. وكان كل منهم مقتنعا تمام الاقتناع أنه أول شخص على وجه الأرض تراوده هذه الأفكار.
2
حفزت الرحلات الجوية المذهلة للطائرات والمناطيد ذات المحركات في مستهل القرن العشرين الخيال. فإذا كان البشر يستطيعون الطيران في الغلاف الجوي، فماذا عن تجاوزه؟ وتجلى الرابط بين الاثنين واضحا في حالة الفرنسي روبرت إسنو بيلتيري، الذي كان طيارا ومخترع طائرات مهما، بدأ في التفكير في رحلات الفضاء باعتبارها التحدي التالي. ونشر ورقة علمية تسرد جزءا من النظرية في 1912، ولكنه كان يتخيل أن الطاقة الذرية المكتشفة حديثا يجب استغلالها بطريقة ما لتوليد السرعات المطلوبة، وفاتته احتمالات الصاروخ ذي الوقود السائل.
شكل 1-1: كونستانتين تسيولكوفسكي؛ مدرس روسي غريب الأطوار كان أول من اكتشف الأفكار والمعادلات الجوهرية لإثبات أن علم الصواريخ يمكن أن يجعل السفر عبر الفضاء ممكنا. بدأ الكتابة والنشر في أواخر القرن التاسع عشر، قبل باقي المنظرين بعقدين كاملين (المصدر: المتحف الوطني للطيران والفضاء).
من بين منظري رحلات الفضاء الأوائل، يبرز اثنان باعتبارهما ندين لتسيولكوفسكي: روبرت إتش جودارد في الولايات المتحدة وهيرمان أوبرث في وسط أوروبا. (كان أوبرث ألمانيا إثنيا من ترانسيلفينيا، التي كانت جزءا من الإمبراطورية النمساوية المجرية حتى عام 1918 ثم أصبحت جزءا من رومانيا فيما بعد.) عندما كان جودارد طالبا في السابعة عشرة من عمره في ورسستر بماساتشوستس، أصبح مهووسا برحلات الفضاء في عام 1899 بعدما قرأ قصة إتش جي ويلز «حرب العوالم» عن غزو رجال المريخ للأرض. وبينما كان جالسا فوق شجرة كرز في الباحة الخلفية لمنزل والديه واتته رؤية لمركبة تصعد إلى كوكب المريخ. كانت تلك هي الطبيعة شبه الدينية للتجربة، حتى إنه عندما ضرب إعصار نيوإنجلاند الهائل عام 1938 الشجرة، كتب في مذكراته: «سقطت شجرة الكرز؛ سأضطر لأن أكمل المسيرة وحدي.» حثته رؤياه على أن يبحث عن ضالته المنشودة في نظام دفع يستطيع العمل في الفضاء؛ وفي مستهل عام 1909، أدرك أنه هو الصاروخ وبدأ يضع كل المبادئ. وبعد ذلك بفترة قصيرة، وصل أوبرث، الذي ولد عام 1894، إلى النتائج نفسها بعد أن ألهمته كتابات فيرن. وقد ساعده كونه ابن طبيب وأنه هو نفسه درس الطب في النهاية في أن يجري أول الأبحاث عن الآثار الممكنة لانعدام الوزن. ورغم أنه لم يبد في البداية بنفس غرابة أطوار جودارد وتسيولكوفسكي، فقد انتهى به الأمر كمخبول يؤلف كتبا عن التواصل بتوارد الخواطر مع الكائنات الفضائية؛ ومن ثم يبدو أن موضوع السفر إلى الفضاء كان يجذب على الأحرى غريبي الأطوار. ولذا ظل بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من الناس، إما ثوريا للغاية أو جنونيا تماما.
3
كان جودارد واحدا من المنظرين القلائل الذين نجحوا في تجارب الصواريخ. وقد عانى من نوبة من مرض السل كادت تودي بحياته، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء وأصبح أستاذا في جامعته الأم، جامعة كلارك في ورسستر. وبدأ تجارب اختبارية، منها إثبات أن الصاروخ يعمل في وعاء مفرغ من الهواء. واستنتج من خلال التجارب الكم المطلوب من المسحوق الوامض ليثبت أن أحد صواريخه قد ارتطم بالجانب المظلم من القمر. وفي أواخر عام 1916، كتب إلى مؤسسة سميثونيان في واشنطون العاصمة طالبا تمويلا أكثر مما يستطيع الحصول عليه في جامعة كلارك. وحالفه الحظ في طلبه؛ إذ كان دائما شديد الحرص فيما يتعلق بالإفصاح عن أحلامه العريضة في مجال رحلات الفضاء، فحاول إقناعهم باختراع صاروخ جديد له القدرة على حمل معدات إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي. وكان هذا يتفق بشدة مع برنامج تشارلز جريلي أبوت، مدير مرصد سميثونيان للفيزياء الفلكية، الذي أراد قياس الناتج الإشعاعي للشمس في غياب الغلاف الجوي. وفي بداية عام 1917، بينما كانت الحرب تستعر في أوروبا، حصل جودارد على خطاب يعده بخمسة آلاف دولار (وهو ما يكافئ عشرين ضعف المبلغ اليوم). وعندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، كان يقوم بأعمال صواريخ تكتيكية لصالح الجيش. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، ضغط عليه أبوت لينشر ورقة علمية حول عمله وأفكاره.
يبدو أن موضوع السفر إلى الفضاء كان يجذب على الأحرى غريبي الأطوار. ولذا ظل بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من الناس، إما ثوريا للغاية أو جنونيا تماما.
على مضض، أنهى جودارد المتحفظ ورقته العلمية المعنونة «وسيلة للوصول إلى الارتفاعات القصوى». كان معظم الورقة عبارة عن بحث رياضي صرف حول المبادئ الأساسية، ولكنه ناقش في نهايتها فكرته الخاصة بارتطام صاروخ يحمل مسحوقا وامضا بسطح القمر. وعندما نشرت مؤسسة سميثونيان هذه الورقة العلمية في مطلع يناير عام 1920، نشرت أيضا بيانا صحافيا يضم فكرة القمر. وأثارت الفكرة رد فعل غير متوقع على الإطلاق. وأعلنت الصحف الأمريكية أن أستاذا جامعيا محترما يخطط لإطلاق صاروخ إلى سطح القمر، وانتشرت القصة انتشار النار في الهشيم في العالم بأسره. وأذكت الصحافة النيران بقولها إن جودارد أوشك أن ينطلق بالصاروخ بنفسه. وكتب متطوعون لينضموا إليه على متن رحلته القمرية، بينما سخرت صحيفة «نيويورك تايمز» من جودارد ومن مؤسسة سميثونيان لافتقارهما إلى «المعلومة التي يتلقاها طلاب المدارس الثانوية يوميا في المدارس» وهي أن الصاروخ يحتاج إلى هواء كي يندفع للأمام. وبصرف النظر عن الجوانب الهزلية في «وسيلة للوصول إلى الارتفاعات القصوى»، فقد منحت مصداقية جماهيرية جديدة لرحلات الفضاء ولعلم الصواريخ بوصفه الوسيلة التي ستستخدم للوصول إلى هناك.
4
بزوغ حركة رحلات الفضاء
في ألمانيا والنمسا، عتمت الفوضى والثورة التي أعقبت الهزيمة في الحرب على قصة جودارد. ولكن في عام 1923، نشر هيرمان أوبرث كتابا صغيرا في ميونخ: «وصول الصاروخ إلى فضاء ما بين الكواكب». كان قد تسرب من كلية الطب، وخدم في الحرب طبيبا، ثم كتبه باعتباره رسالة دكتوراه في الفلك ولكن جامعة هايدلبرج رفضت قبولها. تضمن الكتاب أفكارا حول تكنولوجيا رحلات الفضاء اتسمت بأنها أكثر تقدمية من أي شيء نشر من قبل خارج روسيا. وحالف أوبرث الحظ أيضا في وطنه الأم رومانيا؛ فقد تبنى قضيته ماكس فالير، طيار نمساوي كان يدعو لنظرية شبه علمية مشهورة تنص على أن الجليد يشكل معظم الكون. في عام 1924، نشر فالير مقالات في مجلات وكتابا يروج لأفكار أوبرث. وأثار الحماس الوليد للفضاء حركة صغيرة، في المجتمعات المتكونة في النمسا عام 1926 وفي ألمانيا عام 1927.
5
في الاتحاد السوفييتي الجديد، ألقت الحرب المشئومة وبعدها الثورة البلشفية والحرب الأهلية بظلالها القاتمة على كونستانتين تسيولكوفسكي، فتركته في فقر مدقع؛ بل إن الشيوعيين قد ألقوا القبض عليه لفترة قصيرة. وذهبت شهرته في الأعمال العلمية الشهيرة قبل الحرب أدراج الرياح. ولكن في عام 1924، عادت هذه الشهرة إلى الحياة مرة أخرى نتيجة إثارة شائعات عاصفة حول جودارد وأيضا نشر كتاب أوبرث. وتمسك به الروس المتحمسون للفضاء باعتباره بطلهم الوطني، وأعادوا إصدار منشوراته السابقة للحرب، كما كتب هو المزيد من المنشورات. كما ظهر من العدم آخرون كانوا يعملون على فكرة السفر إلى الفضاء منذ ما قبل الحرب، ومن أكثرهم شهرة فريدريك تساندر. بينما انحلت سريعا أول جمعية لرحلات الفضاء في العالم، التي تأسست عام 1924، عزز المناخ اليوتوبي لروسيا الشيوعية الأفكار المتعلقة بالفضاء ربما بدرجة أكبر من وسط أوروبا في انقلاب ما بعد الحرب.
6
في الناحية الأخرى من المحيط الأطلنطي، كان جودارد يلقي خطبا جماهيرية، ويكتب مقالات يرد بها على الصحافة، ولكنه كان في أغلب الوقت يعمل بصمت على الصواريخ في جامعة كلارك، بتمويل من مؤسسة سميثونيان. لم تنجح فكرة تعديل الصاروخ ذي المسحوق الأسود باستخدام الخراطيش، التي راودته قبل الحرب؛ إذ كانت في الأساس بمثابة مدفع آلي يطلق رصاصات فارغة. في عام 1921، تحول إلى استخدام الوقود السائل، الذي ذكره بتحفظ شديد في الملاحظات الختامية لأطروحته «وسيلة للوصول إلى الارتفاعات القصوى». واختار الجازولين والأكسجين السائل اللذين يسهل الحصول عليهما. وبعد إحرازه تقدما بطيئا كاد يحبط أبوت، الذي صار في ذلك الوقت رئيس مؤسسة سميثونيان، أطلق أول صاروخ يعمل بالوقود السائل في العالم في يوم 16 مارس 1926 القارس البرودة، في أوبرن بماساتشوستس. ولم يحلق هذا الشيء الرديء الشكل إلا مسافة 184 قدما فقط، ولكن جودارد لم يخبر أي شخص خارج دائرته الحميمة وأبوت. كان جودارد دائم العمل على تطبيقات جديدة يسجل لها براءات اختراع، وكان يتمنى أن يصل بصاروخه إلى الكمال قبل أن يعلن عنه للعالم. ولم يحالفه الحظ مرة ثانية إلا في صيف 1929 عندما أثار إطلاقه لأحد الصواريخ موجة جديدة من التغطية الصحفية. وتدخل الطيار الشهير تشارلز ليندبرج مع مؤسسة جوجنهايم، بادئا جولة جديدة أكثر تعقيدا من تطوير الصواريخ في نيومكسيكو في الثلاثينيات من القرن العشرين.
تكونت جماعات أوروبية تهتم بالصواريخ نحو عام 1930، جاهلة تماما بأمر عمل جودارد وتجاربه التي استخدم فيها الوقود السائل، آملة في تطوير تكنولوجيا تستطيع التمكين من إجراء رحلات الفضاء في وقت قريب؛ ففي ألمانيا، انتشرت موضة الصواريخ والفضاء في عام 1928 بعد أن انضم ماكس فالير لفترة قصيرة مع وريث السيارات فريتز فون أوبل. وقاما معا وكل على حدة بإجراء سلسلة من التعديلات الثورية المذهلة، وإن لم تكن ذات جدوى تكنولوجية، على صاروخ المسحوق الأسود مع السيارات وعربات السكة الحديد والمزلجات الجليدية والطائرات الشراعية. وأصدر مخرج السينما فريتز لانج، الذي اشتهر بفيلمه «ميتروبوليس» فيلما عن رحلات الفضاء بعنوان «امرأة في القمر» («وومان إن ذا مون») في خريف 1929، مستعينا بأوبرث وكاتب علمي صغير السن يدعى ويلي لي، كمستشارين علميين. أغرى لانج أوبرث بالحضور من رومانيا إلى برلين، ثم موله ليطلق صاروخا يعمل بالوقود السائل من أجل العرض الأول للفيلم.
7
استأجر أوبرث رادولف «نيبل» وكان طيارا مقاتلا ومهندسا سابقا يتسم بالمراوغة، لمساعدته، ولكن أوبرث كان مخترعا يائسا؛ فبعد إصابته بانهيار عصبي، عاد مرة أخرى إلى رومانيا في نهاية عام 1929. وحصل نيبل سرا على 5000 مارك من الجيش الألماني، الذي كان قد بدأ يوجه نظره إلى التكنولوجيا، لإكمال صاروخ أوبرث وإطلاقه. ولم يثمر ذلك عن الكثير بخلاف بعض اختبارات محركات ذات نطاق ضيق شارك فيها أوبرث في يوليو 1930. بيد أن نيبل أنشأ في ذلك الخريف ميناء برلين للصواريخ في مستودع ذخائر مهجور في الجزء الشمالي من المدينة، بمساعدة الجيش. وأصبحت مجموعته التجريبية الضعيفة الإمكانيات هي النشاط الأساسي لرابطة السفر عبر الفضاء، التي كانت تتراجع بسبب مشاكل مالية وبسبب حلول الكساد الكبير. في عام 1931 أطلقوا أول صواريخهم البدائية العاملة بالوقود السائل. وكان أحد المشاركين المؤقتين طالب هندسة أرستقراطيا يدعى فيرنر فون براون، ولد عام 1912، الذي أصبح مهووسا برحلات الفضاء بعد محاولته قراءة كتاب أوبرث الرياضي المعقد باعتباره طالبا في الثالثة عشرة من عمره.
8
في الاتحاد السوفييتي، تكونت جماعة صواريخ جديدة للهواة في موسكو عام 1931، ومنحت مؤسسة صغيرة للوقود الصلب في لنينجراد (سانت بيترسبرج) جدول أعمال موسعا للأبحاث في العام نفسه. وقاد تساندر جماعة موسكو، ولكنه سرعان ما توفي. وبعد وفاته تسلم قيادة الجماعة مهندس طيران أكبر من فون براون بست سنوات، ويدعى سيرجي بافلوفيتش كوروليف. وعلى غرار الألماني فون براون، كان كوروليف سيصبح أحد المنظمين الأساسيين في مستقبل عالم الصواريخ المحكوم من قبل الجيش. في 1933، أطلقت جماعة موسكو صواريخها الأولى، فور اندماجها مع لنينجراد لتشكيل أول مؤسسة بحثية حكومية في العالم لتطوير الصواريخ العاملة بالوقود السائل والصلب . وكانت لها صلة وثيقة مع الجيش الأحمر. وشهدت هذه السنة أيضا تولي النازيين زمام السلطة؛ الأمر الذي أدى إلى سيطرة الجيش الألماني، في غضون سنة، على تطوير الصواريخ ونهاية تجارب الهواة ونهاية العلنية.
استحواذ الجيش على السلطة
أدى تدعيم ستالين وهتلر للسلطة الاستبدادية، وما نتج عن ذلك من انسحاب المتحمسين لرحلات الفضاء سواء من الألمان أو الروس من المشهد الدولي، إلى ثلاثة عقود سيطر خلالها تطوير الصواريخ العسكرية على علم الصواريخ. كما نجم عن ذلك أيضا منع الشبكة العابرة للحدود القومية التي تكونت في أواخر العشرينيات من القرن العشرين من نشر بشارة انطلاق رحلات الفضاء من خلال صواريخ تعمل بالوقود السائل. وكان ثمة كاتبان متعددا اللغات مهمين في هذه الشبكة، وهما: ويلي لي في برلين، ونيكولاي راينين في لنينجراد. ومن خلال المراسلات الدولية وتوزيع المنشورات، ربط لي وراينين المتحمسين الحقيقيين لرحلات الفضاء ومن أجروا تجارب في هذا المجال في أوروبا وفي الولايات المتحدة؛ حيث تأسست جمعية الكواكب الأمريكية في نيويورك عام 1930. وعندما فقد الألمان والروس القدرة على التواصل، انتقل من تبقوا في الشبكة إلى المحور بين نيويورك وإنجلترا، حيث تأسست جمعية الكواكب البريطانية في عام 1933. وقد هرب لي نفسه من ألمانيا النازية في بداية 1935، بمساعدة أصدقاء من جمعية الكواكب البريطانية ونظيرتها الأمريكية. وعاش لي حياة هامشية في السنوات القلائل الأولى باعتباره كاتبا علميا حرا وأجرى تجارب على الصواريخ في منطقة نيويورك. أما راينين فمات في الحصار النازي للنينجراد.
بدأت جمعية الكواكب الأمريكية أعمالها بإجراء تجارب بالوقود السائل تقليدا للألمان. وزار أول قائد لها، وهو كاتب الخيال العلمي ورجل العلاقات العامة جي إدوارد بندراي، برلين في 1931 وراسل لي حتى هبط الأخير على أرض الولايات المتحدة تحت رعاية بندراي. وفي الفترة من منتصف إلى آخر الثلاثينيات، غيرت الجمعية اسمها إلى اسم أقل غرابة «جمعية الصواريخ الأمريكية» وتوقفت عن محاولة إطلاق الصواريخ. وركزت قيادتها الجديدة من المهندسين والتقنيين صغار السن على تطوير المحركات على نطاق ضيق، وهو ما كانوا يستطيعون تحمل تكلفته من جيوبهم الخاصة الفارغة في الغالب.
9
ابتعد روبرت جودارد عن جمعية نيويورك، حرفيا ومجازيا. وانتقل إلى روزويل، بنيومكسيكو، بتمويل من مؤسسة جوجنهايم، في منتصف عام 1930 وبقي هناك حتى عام 1942، باستثناء فترة توقف لمدة عامين في 1932-1934 نتيجة لعواقب الكساد الكبير على استثمارات جوجنهايم. وعلى عكس أسطورة العبقري المنسي التي نسجت فيما بعد حول جودارد، كان جودارد من أفضل العلماء تمويلا في الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن العشرين، في الوقت الذي كانت فيه الأعمال الخيرية الخاصة لا تزال تسيطر على قطاع البحث العلمي والتكنولوجي الأضيق نطاقا. وحقق جودارد إنجازات مهمة قبل عام 1935، مثل بناء مركبات وصلت إلى ما يقرب من 10 آلاف قدم وسرعات وصلت إلى عدة مئات من الأميال في الساعة. ولكن مرة أخرى أحبط ممولوه عندما لم يستطع قط تحقيق عدة وعود للوصول إلى ارتفاعات عالية باستخدام «صاروخ تجارب» يحمل معدات، كما سيطلق عليه بعد الحرب العالمية الثانية. وحثه أبوت وليندبرج وهاري جوجنهايم على طلب مساعدة خارجية في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، خصوصا من جماعة جديدة مهتمة بالصواريخ تحت قيادة فرانك مالينا التي بدأت في عام 1936 في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا. وقاوم جودارد؛ إذ لم يكن قادرا على الانتقال إلى قيادة فرق هندسة الصواريخ الكبيرة، مثل تلك التي ستنبثق تحت قيادة فون براون وكوروليف. وظل كما هو، وقرر العمل مع حفنة من الرجال الذين وعدوه بالحفاظ على سرية الأمر. ويمكن أن يعتبر صاحب أول صواريخ تعمل بالوقود السائل، ولكن فيما بعد أصبح تأثيره على التطور التكنولوجي شبه منعدم. ولعل تأثيره الأعظم سيظل دائما يتمثل في إلهام الآخرين بالإيمان بالصواريخ باعتبارها وسيلة لرحلات الفضاء.
10
في الوقت الذي كان فيه جودارد يصل إلى طريق تكنولوجي مسدود، كان ثمة فريق في الجيش الألماني يحقق إنجازات جوهرية. في أواخر 1932، وقبل شهرين من تولي هتلر منصب مستشار ألمانيا، عين الجيش فيرنر فون براون البالغ من العمر وقتها عشرين عاما لكتابة رسالة دكتوراه سرية حول الصواريخ التي تعمل بالوقود السائل. كانت بداية بسيطة للغاية، ولكن سرعان ما تضخم المشروع للغاية بفضل أموال إعادة التسليح النازية وموهبة فون براون وافتتان ضباط المدفعية ب «بالصاروخ البعيد المدى» - الذي أطلقنا عليه فيما بعد الصاروخ الباليستي - باعتباره سلاحا حاسما مفاجئا. في عام 1935 تحالف الجيش مع القوات الجوية السريعة البزوغ؛ وفي عام 1936 بدأت القوتان في إنشاء مركز صواريخ مشترك، سري للغاية في بيناموندا، على جزيرة في بحر البلطيق شمال برلين. وتحت القيادة الكاريزمية لفون براون ولقائده العسكري، المقدم (اللواء فيما بعد) فالتر دورنبرجر، سرعان ما عين مشروع الصواريخ في الجيش متخصصين في الجيروسكوب (أداة تستخدم لحفظ التوازن وتحديد الاتجاه) والديناميكا الهوائية، ومهندسين ميكانيكيين وكيميائيين لتحقيق إنجازات كبيرة في تحديد اتجاه الصواريخ والتحكم بها، وفي الديناميكا الهوائية فوق الصوتية، ومحركات الصواريخ.
11
كان هدفهم العسكري الأول صاروخا باليستيا يطلق عليه «إيه-4»، وهو رابع تصميم في سلسلة الصواريخ الخاصة بهم، كان الغرض منه حمل رأس حربي من مادة شديدة الانفجار أو غاز سام يزن طنا متريا واحدا (2200 رطل) لمسافة 175 ميلا على الأقل. ولقب دعاة النازية هذا الصاروخ فيما بعد باسم سلاح الانتقام 2 أو «في-2». بحلول عام 1939، بدأ فريق دورنبرجر وفون براون اختبار محركات الأكسجين السائل/الكحول التي تحتاج إلى قوة دفع 25 طنا متريا (55000 رطل) للارتفاع بها. لم يكن جودارد والسوفييت قد تجاوزوا قط قوة دفع تبلغ بضع مئات من الأرطال. ووفر الثنائي الألماني التمويل لبناء أكبر وأسرع نفق هوائي يتجاوز سرعة الصوت في بيناموندا، لكي يتقنا الديناميكية الهوائية لمركبة تصل سرعتها إلى خمسة أضعاف سرعة الصوت. واتضح أن إنشاء نظم التوجيه اللاسلكي والتحكم هو مهمتهم الأكثر تحديا، مما أثمر توسعا كبيرا في الخبرات داخل المؤسسة وفي الخبرات الجامعية، بالإضافة إلى المزيد من التعاقدات مع شركات صناعية. كانت القيادة العسكرية مقتنعة تمام الاقتناع بأنها ستحظى بسلاح فائق، ولذا كانت على استعداد لأن توجه للمشروع مبالغ طائلة، رغم شكوك هتلر، الذي خفض أولوية إنشائه في عامي 1940-1941. ولكن ليس ثمة دليل واضح على أن هذا الإجراء بطأ تطور التكنولوجيا، على الرغم من محاولة دورنبرجر بعد الحرب إلقاء اللوم على القائد لأنه أخر صاروخ «إيه-4»/«في-2» إلى الحد الذي جعله غير قادر على تغيير مسار الحرب.
12
في 3 أكتوبر 1942، نجحت جماعة بيناموندا في محاولة الإطلاق الثالثة؛ إذ انطلق الصاروخ إلى ارتفاع حوالي 56 ميلا ولمسافة 120 ميلا في بحر البلطيق. وكان أول آلة من صنع البشر تقترب من حافة الفضاء، المحددة الآن على ارتفاع 100 كيلومتر (62,1 ميلا). وحطم كل الأرقام القياسية العالمية للآلات من صنع البشر، من حيث النطاق والسرعة والارتفاع. واعتبر فون براون ودورنبرجر هذا الإنجاز بمنزلة الخطوة الأولى في الفضاء، ولكنهما استغلاه أيضا كوسيلة للضغط في قضية إنتاج الصواريخ بكميات ضخمة كسلاح. كان كلاهما نازيا بطريقة مختلفة؛ فون براون باعتباره عضوا انتهازيا في الحزب وضابطا في البوليس السري النازي، ودورنبرجر باعتباره مؤيدا مفوها للاشتراكية القومية، حتى وإن كان الضباط لا يمكنهم الانضمام لعضوية الأحزاب.
13
في أواخر 1942، أقنع وزير التسلح ألبرت شبير هتلر بأن يأذن بإنتاج صاروخ «في-2»، بعد أن وشت انتصارات الحلفاء في شمال أفريقيا وروسيا بانعطاف مسار الحرب انعطافا حاسما. إلا أن إنتاج مثل هذا السلاح الغريب كان صعبا؛ نتيجة للعجز الشديد في الأيدي العاملة الماهرة، وذلك في الأساس بسبب قتل أعداد هائلة في الحرب الدائرة مع الاتحاد السوفييتي. وكان الاقتصاد بالكامل يعتمد على العمالة القسرية والعبيد من الأراضي المحتلة. في ربيع 1943، قرر مشروع الصواريخ العسكري ووزارة شبير استغلال المساجين المعتقلين في معسكرات البوليس السري النازي في الأعمال التي تتطلب مهارة بسيطة أو لا تتطلب مهارة على الإطلاق، بينما جعلوا الإنتاج روتينيا قدر الإمكان. وبعد أن هاجمت القوات الجوية الملكية البريطانية بيناموندا في أغسطس 1943، قررت القيادة النازية تركيز تجميع صاروخ «في-2» في منجم بالقرب من نوردهاوزن في ألمانيا الوسطى. وكان مصنع «ميتالفيرك»، كما يطلق عليه، يستقدم الأيدي العاملة من معسكر اعتقال دورا المنشأ حديثا آنذاك في بوخنفالد. أنتج أكثر من خمسة آلاف صاروخ، ولكن عشرات الآلاف من المعتقلين إما عانوا أو قتلوا في سبيل ذلك، وهو الأمر الذي كان دورنبرجر وفون براون على علم مسبق به؛ ولذا فإنهما يحملان جزءا من المسئولية عن جرائم الحرب الهائلة التي نجمت عن إنتاج صواريخ «في-2»، حتى إذا كان البوليس السري النازي هو المجرم الأول.
14
عندما أدرك الحلفاء برنامج الجيش الألماني في 1943-1944، سرعوا خطى دراسة علم الصواريخ. كانت جميع القوى قد طورت بالفعل الصواريخ ذات الوقود الصلب معتمدة على المساحيق ذات القاعدة المزدوجة (نيتروسيليلوز-نيتروجليسرين) التي كانت أكثر قوة من المسحوق الأسود وفي الوقت نفسه ليس لها نفس الأثر الدخاني. ولكن في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قد بدآ الانتباه إلى إمكانيات الصواريخ الباليستية ذات الوقود السائل، بفضل تطوير القوات الجوية الألمانية «القنبلة التلقائية التوجيه» المجنحة «في-1»، والقذائف الموجهة المتنفسة.
في 1944، مول قسم ذخائر جيش الولايات المتحدة مشروع صواريخ جديدا في جنرال إلكتريك يطلق عليه مشروع «هرمس» وحول مشروع صواريخ كالتيك، الذي كان يطور صواريخ
JATO
أو الإقلاع بمساعدة القوة النفاثة للقوات الجوية الأمريكية، إلى مختبر الدفع النفاث (
JPL ). (كانت كلمة «صاروخ» تفتقر إلى الاحترام في أمريكا نتيجة لكثرة أعمال الخيال العلمي المتحدثة عن الفضاء من قصص ورسوم هزلية وأفلام في الثلاثينيات من القرن العشرين؛ انظر الفصل الخامس.) حث تطوير صواريخ
JATO
في الحرب العالمية الثانية روبرت جودارد على التحول إلى العمل لصالح الأسطول في ماريلاند، وشجع على تطوير أول شركتين لإنتاج الصواريخ ذات المواد الدافعة السائلة في الولايات المتحدة: شركة «ريأكشن موتورز» المنبثقة عن جمعية الصواريخ الأمريكية في نيويورك، وشركة «إيروجت» المنبثقة عن جماعة كالتيك في باسادينا. كل هذا التطوير الوطني خلق خبرة أصلية وطنية للحرب الباردة القادمة، حتى وإن كانت النتائج الفعلية متواضعة أثناء الحرب.
15
أدرك الاتحاد السوفييتي أعمال الصواريخ الألمانية بالتجسس على الألمان والحلفاء، وباحتلال الجيش الأحمر لمواقع اختبار صواريخ «في-2» في بولندا. في أغسطس 1944، أمر ستالين بإطلاق سراح خبيرين مهمين في الصواريخ من معتقل جولاج، وهما سيرجي كوروليف وفالونتين جلوشكو، وكان الأخير متخصصا في محركات الصواريخ. اعتقل الاثنان في عام 1938، وكادا يقتلان، نتيجة لحركة التطهير الكبير المروعة التي أودت بحياة ملايين البشر. أطلقت النيران على أكبر قائدين في معهد بحوث الصواريخ. فيما بعد اتخذ التطهير الجنوني الذي قام به ستالين مبررا مناسبا لفشل البرنامج السوفييتي في الوصول إلى إنجازات الألمان، ولكن معهد الصواريخ أعيق بالمناحرات الداخلية في منتصف الثلاثينيات على الاختيار ما بين المواد الدافعة الصلبة والسائلة، وبين الصواريخ الباليستية والمجنحة، وغيرها من الاختيارات التكنولوجية. وكان من بين مميزات مشروع الوقود السائل الألماني تركيزه الشبيه بالليزر على الصاروخ الباليستي طويل المدى الذي يعمل بالأكسجين السائل والكحول، وهي تركيبة المواد الدافعة التي اقتبسها فون براون من أوبرث وميناء برلين للصواريخ.
16
ومن المفارقات الغريبة أنه عند نشر صواريخ «في-2» أخيرا في مدن غرب أوروبا في سبتمبر 1944، لم تكن «سلاحا مذهلا.» كان يوزيف جوبلز وزير الدعاية قد أطلق هذه التسمية على صواريخ «في-1» و«في-2»، وعلى المعجزات التكنولوجية الأخرى التي كان من المفترض أن تقي من اندلاع حرب كارثية. على الأقل كان صاروخ «في-1» الخاص بالقوات الجوية، الذي أطلق أولا على لندن في يونيو 1944، زهيد الثمن وحول انتباه قوات الدفاع الجوي للحلفاء إلى استهدافه. أما صاروخ «في-2» الخاص بالجيش فهو بعشرة أضعاف التكلفة وكان معقد التصنيع للغاية ويطلق بأعداد ضخمة، ولا يشتت انتباه إلا عدد أقل من موارد الحلفاء، لأنه كان أسرع من الصوت، وبالتالي كان من المستحيل اعتراض سبيله. وكانت قذيفته شديدة الانفجار - لم ينتهوا قط من قذيفة الغازات السامة - تصنع حفرة كبيرة في الأرض بهذه السرعة الرهيبة، ولكنها كانت تفتقر إلى الدقة والموثوقية، وكان ذلك ينطبق أيضا على صواريخ «في-1». بالكاد كان بالإمكان إصابة منطقة حضرية ضخمة. وخصوصا في حالة صواريخ «في-2»، كانت وسيلة مكلفة للغاية لإلقاء طن من المتفجرات الشديدة الانفجار. وبحلول 1943-1944، كانت بريطانيا وأمريكا قد توصلتا إلى تكنولوجيا قاذفة قنابل بأربعة محركات وأتقنوها لدرجة أنهم كانوا يستطيعون تدمير مدن بأكملها وقتل عشرات الآلاف من البشر في ليلة واحدة - وكان ذلك قبل ظهور القنبلة الذرية المفاجئ في أغسطس 1945. كانت قوة سلاح صواريخ «في» بالمقارنة قوة مذهلة ولكنها كانت غير فعالة استراتيجيا. لقد كانت تكنولوجيا القذائف والصواريخ الألمانية غير ناضجة بما يكفي لأن يستفاد منها عسكريا، أكثر من كونها قد تأخرت بحيث لم تستطع تغيير نتيجة الحرب.
17
لكنها كانت تتمتع بإمكانيات ضخمة ومثلت هدفا مهما لقوات الحلفاء عندما غزوا الرايخ في ربيع 1945. بانتهاء الحرب، بدأ صراع على امتلاك الأيدي العاملة والتكنولوجيا الألمانية، الأمر الذي أنبأ ببداية الحرب الباردة. كانت الولايات المتحدة هي أكثر الفائزين، ولكن الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا التي بعثت للحياة مرة أخرى حصلوا جميعا على غنائم. لم يكن لرحلات الفضاء أية صلة بالأسباب التي جعلت التكنولوجيا الألمانية مهمة ومرغوبة في 1945، ولكنها كانت ستمكن من الوصول إلى الفضاء في غضون فترة زمنية قصيرة جدا.
سباق صواريخ الحرب الباردة والخطوات الأولى في طريق الفضاء
استسلم دورنبرجر وفون براون لجيش الولايات المتحدة في جبال الألب يوم 2 مايو، بعد ثلاثة أسابيع من اجتياح القوات الأمريكية لمصنع ميتالفيرك. ونظرا لأن معظم قيادة بيناموندا كانت بالقرب من أحد هذين الموقعين، استطاعت الولايات المتحدة اصطياد أهم قادة البرنامج. وقرر قسم الذخائر أخذ مائة صاروخ «في-2» إلى الولايات المتحدة لاختبارها، على الرغم من أن معظم ما شحن كان عبارة عن أجزاء من الصواريخ لعدم وجود أي صواريخ كاملة تقريبا. تمت هذه العملية بسرعة؛ إذ كان هذا المصنع السري في المستقبل منطقة تحت الاحتلال السوفييتي.
عندما غزا الجيش الأحمر بيناموندا في مطلع مايو، وجد المكان مجردا بجلاء الألمان عنه، ولكن معدات إنتاج مصنع ميتالفيرك والأجزاء المتروكة من الصواريخ كانت هي الأساس لفهم تكنولوجيا الصواريخ الألمانية. وجرى ضم كوروليف وجلوشكو، اللذين كانا يرتديان الآن زي الضباط، في فرق التفتيش. وساعدوا في إنشاء معاهد خاصة للصواريخ في منطقتهم المحتلة، انجذب إليها المهندسون والعلماء الألمان الراغبون لأنها كانت تقدم أجورا أعلى ومميزات أفضل مما يقدمه الأمريكان. وفيما بعد اقتيد معظم هؤلاء الألمان، ومن بينهم القليل من الأشخاص المؤثرين في بيناموندا، إلى روسيا تحت تهديد السلاح في أكتوبر 1946.
18
لم يكن لرحلات الفضاء أية صلة بالأسباب التي جعلت التكنولوجيا الألمانية مهمة ومرغوبة في 1945، ولكنها كانت ستمكن من الوصول إلى الفضاء في غضون فترة زمنية قصيرة جدا.
على مدار صيف 1945، كانت الحكومة الأمريكية قد وضعت برنامجا لاستجلاب الخبرات الألمانية والنمساوية، عرف باسم، مشروع «مشبك الورق». جرى تسليم الجنرال دورنبرجر للبريطانيين كسجين حرب، أما فيرنر فون براون فقد اختير ليرأس جماعة صواريخ في فورت بليس، خارج إل باسو، تكساس. ووصل نحو 125 شخصا بحلول بداية 1946 لمساعدة الجنود ومهندسي مشروع «هرمس» في إعادة تجميع صواريخ «في-2» وإطلاقها من وايت ساندس بروفينج جراوند في نيومكسيكو.
19
ساعد بعض الألمان في البداية الجيش البريطاني في إعداد وإطلاق ثلاثة صواريخ «في-2» من ساحل بحر الشمال في ألمانيا كتدريب تعليمي. ولكن سرعان ما قررت الحكومة البريطانية أنها لا تستطيع تحمل تكلفة برنامج صواريخ ضخم إلى جانب تطوير الطائرة النفاثة؛ ومن ثم جلبت نحو عشرين شخصا فقط من ألمانيا والنمسا كانوا يعملون من قبل في برامج الصواريخ. وفي الوقت نفسه، بدأ الفرنسيون في جذب المهندسين والعلماء والفنيين على مهل إلى مشروعات الصواريخ الخاصة بهم. وشكلوا جماعة ألمانية للصواريخ في فيرنون، فرنسا، التي أصبحت فيما بعد حجر الأساس لبرنامج الفضاء والصواريخ الفرنسي.
20
أثارت أخبار صواريخ «في-2» واستجلاب العاملين عليها لاحقا اهتمام من كانوا متحمسين سابقا للفضاء وحركت اهتماما جديدا برحلات الفضاء في الجماهير وفي الجيش على حد سواء، لا سيما في الولايات المتحدة. ورأى المؤمنون الحقيقيون على الفور أن هذا الصاروخ يمثل الإنجاز التكنولوجي المنتظر، بغض النظر عن فشله كسلاح. وتنامت الإثارة عندما بدأ الجيش إطلاق صواريخ «في-2» من وايت ساندس، في نيومكسيكو، في منتصف 1946، حاملة المعدات العلمية الأولى إلى الفضاء القريب. (أطلق الألمان صواريخ «في-2» رأسيا لأكثر من 100 ميل في 1944، ولكنها لم تكن تحمل أي معدات.) بل إن المتحمسين الجدد في الأسطول والقوات الجوية (التي انفصلت عن الجيش في 1947) بدءوا مشروعات سرية لإطلاق أقمار صناعية والوصول إلى القمر. ولكن سرعان ما ألغيت هذه المشروعات، وتقلصت أبحاث الصواريخ، حينما صرفت الولايات المتحدة النظر عنها وشطبت ميزانيتها، وحاولت الرجوع إلى نمطها التاريخي من تشكيل جيش صغير وقت السلم. ولم تغير الولايات المتحدة وجهة نظرها إلى أن بدأت الحرب الباردة في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين.
سرعان ما شعرت الولايات المتحدة وحلفاؤها بأنها مهددة على نحو مباشر بسيطرة سياسات ستالين المتوحشة على أوروبا الشرقية، وبالتدخل الشيوعي في أوروبا الغربية والجنوبية، وبانتصار الشيوعيين الصينيين في 1949. ولكن من وجهة النظر السوفييتية، فإن التقدم الهائل لقوات المشاة الخاصة بهم قد أحبطته قنبلة الولايات المتحدة الذرية وحلقة القواعد الأمريكية المحكمة التي تطوق الأراضي التي يسيطر عليها الاتحاد السوفييتي. ولذا أمر ستالين - كي يلحق بركب الولايات المتحدة تكنولوجيا، ويتمكن من رد ضرباتها - بتقليد صواريخ «في-2» وقاذفة القنابل «بي-29» الأمريكية، وقنبلة الرجل البدين الذرية (القنبلة التي ألقيت على ناجازاكي). أحبط خبراء الصواريخ السوفييت بأمر تقليد صواريخ «في-2»؛ لأنهم كانوا يفضلون بدء العمل من جديد، ولكنهم لم يملكوا إلا أن يطيعوا الأمر. وأثمر الإخلاء الإجباري لمعاهد الصواريخ في ألمانيا الشرقية في أكتوبر 1946 عن تسريع خبراء الصواريخ السوفييت والألمان عملهم على تجهيز صواريخ «في-2» التي استولوا عليها للإطلاق. وبدأت عمليات الإطلاق في السهل الواقع شرقي ستالينجراد في أكتوبر 1947. وساعد الألمان، بقيادة هيلموت جروتروب من جماعة توجيه بيناموندا، في حل بعض المشاكل الخطيرة، ولكنهم سرعان ما فصلوا عن نظرائهم السوفييت. وعزل معظمهم في معسكر على جزيرة في بحيرة روسية شمالية وشرعوا في العمل على مفاهيم مستقبلية، وتقلص تأثيرهم تدريجيا على أعمال الصواريخ الباليستية السوفييتية التي يرأسها كوروليف. وكان هذا العزل تجهيزا لعملية إرسالهم إلى بلدهم، التي بدأت في مستهل الخمسينيات من القرن العشرين؛ فقد كان من المستحيل في مثل هذه الدولة الشمولية المصابة بجنون الشك، التي لا تملك نظاما للهجرة، أن تحتضن خبراء الصواريخ الألمان، على عكس ما فعلته الولايات المتحدة.
21
شكل 1-2: جنود وفنيون أمريكان يجهزون صاروخا ألمانيا باليستيا من نوع «في-2» للإطلاق في وايت ساندس في 10 مايو 1946. أول إطلاق ناجح في الولايات المتحدة. لم يكن صاروخ «في-2» سلاحا شديد الفاعلية، ولكنه كان إنجازا ثوريا في تكنولوجيا الصواريخ ذات الوقود السائل التي سرعت ظهور الصاروخ الباليستي العابر للقارات وصاروخ الفضاء (المصدر: إدارة الأرشيف والوثائق الوطنية).
استعين بفون براون وجماعته، الذين شكلوا حوالي خمس الألمان المسئولين عن مشروع «مشبك الورق»، والذين جلبوا في بداية البرنامج، في تطوير قذيفة موجهة للجيش. وكانت النسخة التجريبية من القذيفة ستطلق على صاروخ «في-2». ولكن عمليات التخفيض الدفاعية التي تمت في 1946-1947 تركت فون براون محبطا من التقدم المتجمد نحو صاروخ ضخم يمكن أن يحقق حلم رحلات الفضاء الذي كان يراوده. كتب فون براون رواية خيال علمي حول رحلة استكشافية إلى كوكب المريخ وأضاف لها ملحقا رياضيا تفصيليا يثبت إمكانية القيام بها، أملا في إقناع الجماهير. لم يكن الخيال قط من نقاط قوته، فلم ينشر سوى الملحق فيما بعد. لكن مع احتدام الحرب الباردة، زادت الحكومة الفيدرالية تمويل تطوير الصواريخ تدريجيا وجعلت مشروع «مشبك الورق» سبيلا من سبل الحصول على المواطنة، ماحية بذلك الماضي النازي لفون براون وغيره. في 1950، ركز الجيش على تطوير الصواريخ في ريدستون أرسينال بهنتسفيل ألاباما، ناقلا الألمان وعدة آلاف من الأمريكيين هناك. وفي خضم هذه الحركة، غزت كوريا الشمالية الشيوعية الجنوب، فزادت هيستيريا مقاومة الشيوعية وزادت نفقات الدفاع الفيدرالي. وأعيد توجيه فون براون وجماعته لصاروخ «في-2» فائق يحمل سلاحا نوويا يطلق عليه ريدستون. لعب هذا الصاروخ دورا حاسما في بداية سباق الفضاء.
على أية حال، ينبغي ألا نرجع الفضل إلى خط تطوير صواريخ «في-2»/هنتسفيل وحده، كما فعل تابعو فون براون فيما بعد. على الرغم من أن التكنولوجيا الألمانية قد منحت تطوير الصواريخ الأمريكي انطلاقة سريعة، فإن مختبر الدفع النفاث، وشركة «إيروجت»، وشركة «ريأكشن موتورز»، ومشروع صواريخ «جنرال إلكتريك» قد نموا بسبب استثمارات الحرب العالمية الثانية. أنشأ معمل أبحاث البحرية الأمريكية في واشنطون العاصمة معدات علمية لعمليات إطلاق صواريخ «في-2» من وايت ساندس وقرر تطوير صاروخ تجارب ضخم خاص به، وأسماه «فايكينج»، وتعاقد مع شركة «مارتن» للطائرات في ماريلاند لتجميعه ومع شركة «ريأكشن موتورز» لتصنيع محركه. استثمرت القوات الجوية الأمريكية الجديدة في محركات الصواريخ، مما أدى إلى مزيد من التوسع في إيروجت وريأكشن موتورز، وإلى إنشاء روكيتداين التابع لشركة «نورث أمريكان أفييشن»، أول شركة أمريكية لتطوير محركات الصواريخ التي تعمل بالمواد الدافعة السائلة في الستينيات. بعد أن أصبحت القوات الجوية أول قوة نووية طويلة المدى في أمريكا، سرعان ما فاق تمويلها للصواريخ القوات السابقة. وتحالفت مع شركات طائرات الساحل الغربي الكبرى مثل كونفير ودوجلاس وبوينج، التي طالبت كل منها بنصيب في صناعة الصواريخ. وسرعان ما سادت الصواريخ الضخمة ذات المواد الدافعة الصلبة والتركيب الكيميائي الجديد الأكثر فاعلية التي تمخضت عنها تجارب مختبر الدفع النفاث وإيروجت أثناء الحرب، نظرا إلى سهولة تخزينها وإطلاقها. وأدى ذلك إلى بزوغ شركات مثل ثيوكول وهيركوليز باودر، وغيرها من شركات الهندسة الكيميائية في صناعة الصواريخ.
22
حانت لحظة حاسمة في سباق الفضاء وسباق التسلح عندما قررت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مواصلة إنتاج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. كان الجيش الأمريكي قد ركز على الصواريخ الموجهة بعد عام 1945؛ لأن توجيه مركبة مجنحة في الغلاف الجوي بدا أسهل من توجيه صاروخ باليستي، مع الوضع في الاعتبار عوز صواريخ «في-2» إلى الدقة. واستغرق الأمر عدة سنوات قبل أن يكتشف الجيش الحقيقة نتيجة للمشاكل التي واجهها الجيش في الصواريخ المتنفسة، سواء في الدفع أو التحكم. عندما تحسنت نظم الملاحة بالقصور الذاتي، وأصبحت القذائف أخف وزنا وأكثر قوة، بات قذف قنبلة على مسار أسهل بكثير من قذفها دون توجيه إلى الجانب الآخر من العالم. بعد أن أجرت الولايات المتحدة أول اختبار على «القنبلة الهيدروجينية» النووية الحرارية في خريف 1952، وعد مصممو الأسلحة بتحقيق إنجاز سريع لتصغير حجم الأجهزة. جعل المردود الهائل لهذه القنابل، والذي يعد أقوى ألف مرة من القنابل التي ألقيت على اليابان، الدقة أمرا غير ذي بال؛ فهذه القنابل تستطيع التدمير حتى وإن ألقيت على بعد أميال من هدفها. وافقت إدارة الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، التي اعتلت سدة الحكم في يناير 1953، على مشروع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات «أطلس» وجعلته في صدارة الأولويات الوطنية في 1954-1955. كما وافق أيزنهاور، في 1955، رغم ما لديه من تحفظات على زيادة الميزانية الفيدرالية ، على صاروخين باليستيين متوسطي المدى (يبلغ مدى كل منهما 1650 ميلا) كسلاح مؤقت ضد السوفييت. أنتجت جماعة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التابعة للقوات الجوية بقيادة الجنرال برنارد شريفر صواريخ «ثور» من نفس العناصر المكونة لصواريخ «أطلس»، في حين طولبت جماعة فون براون بتطوير صاروخ «جوبيتر» لصالح الجيش والبحرية الأمريكية. وأصبحت كل تلك الصواريخ التي تعمل بالأكسجين السائل والكيروسين، منصات إطلاق أقمار صناعية بعد سنوات قليلة.
23
هذه البرامج المتضاربة، خاصة «ثور» و«جوبيتر»، كانت ردود أفعال للتهديد المتزايد الذي يمثله تطوير السوفييت للصواريخ الباليستية. وعلى غرار فون براون، نبغ كوروليف في التنسيق بين الجيش ومكاتب التصميمات وشركات الإنتاج للتركيز على هدف واضح: الصواريخ الباليستية البعيدة المدى. وبتمويل رئيسي من مدفعية الجيش السوفييتي، قلد صاروخ «في-2» وصنع «آر-1»، ثم ضاعف مداه بصاروخ «آر-2». طور مكتب تصميمات ميخائيل يانجل صاروخ «آر-5» متوسط المدى، الذي اختبر للمرة الأولى في 1953، وحوله إلى صاروخ «آر-5إم» المسلح نوويا، وهو ما مثل تهديدا للأمريكان حول قواعدهم وحلفائهم في أوروبا الغربية وآسيا. في 1955، بالتوازي مع «أطلس»، وافقت قيادة سوفييتية تالية لستالين، وهي قيادة نيكيتا خوروشوف، على أول صاروخ يستطيع إصابة أمريكا مباشرة، وهو صاروخ «آر-7» الباليستي العابر للقارات. ونظرا إلى أنه كان يحمل قذيفة نووية أثقل وزنا، كان «آر-7» أكبر حجما من «أطلس»، بمرحلة واحدة أساسية بالإضافة إلى أربعة معززات ملحقة. وقد ثبت بعد ذلك أنه سلاح غير عملي ولكنه مع ذلك كان مركبة إطلاق رائعة؛ إذ كان يتمتع بقدرة حمل لا يضاهيها أي صاروخ أمريكي في السنوات الأولى لسباق الفضاء.
أثمر تسارع سباق الصواريخ عن تعزيز رسائل دعاة الفضاء التي تتنبأ بتحليق الأقمار الصناعية وربما أيضا البشر في الفضاء في المستقبل القريب؛ فمنذ 1946، ترسل طرود علمية وأحيانا قرود في رحلات قصيرة (غالبا ما تكون مميتة) إلى الفضاء من وايت ساندس وغيرها من المواقع؛ ففي عام 1949، ارتفع صاروخ التجارب «دابليو إيه سي كوربورال» الذي أنتجه مختبر الدفع النفاث محمولا على صاروخ «في-2» مسافة 250 ميلا عن الأرض. ولحق بهم السوفييت سرا في الخمسينيات؛ بل إنهم أرسلوا كلابا في رحلات دون مدارية. ونشر دعاة الفضاء مثل آرثر سي كلارك من جمعية الكواكب البريطانية وويلي لي، الذي أضحى كاتبا علميا أمريكيا ناجحا أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، كتبا جديدة مؤثرة. في 1952، حقق فون براون أخيرا إنجازا في سلسلة من مقالات مجلة «كوليير» وضح فيها رؤيته الفخيمة لمحطة فضاء ورحلات استكشافية مأهولة إلى القمر والمريخ. وتلا ذلك ثلاث حلقات قدمها لي عن الفضاء في برنامج والت ديزني على التليفزيون الوطني. وعلى الجانب السوفييتي، في بيئة مختلفة اختلافا جذريا، بذل كوروليف وغيره من المتحمسين للفضاء جهدا مضنيا لإقناع المؤسسة السياسية والعسكرية بإجازة رحلات الفضاء عن طريق ربطها بإحياء شهرة تسيولكوفسكي، الذي مات عام 1935، للمرة الثانية. فألقوا خطبا، وعقدوا اجتماعات، وكتبوا مقالات عامة، غالبا تحت أسماء مستعارة نظرا إلى السرية التامة التي كان يتسم بها عملهم. وعززت روايات وأفلام الخيال العلمي «الستار الحديدي»، في الجانبين، رسالتهم. وبحلول عام 1955، كانت رحلات الفضاء بالنسبة إلى الأشخاص العاديين أمرا وشيك الحدوث.
24
الخلاصة
كانت الدعاية والتأييد اللذان يبذلان من جانب المؤمنين برحلات الفضاء حاسمي الأهمية لإقناع الأشخاص العاديين والنخبة بأن السفر إلى الفضاء ليس بفكرة مجنونة. ومع ذلك يستحيل تخيل الوتيرة السريعة التي نفذت بها هذه الفكرة دون الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. فقد أدى قرار ألمانيا غير الحكيم بتطوير صواريخ «في-2»، متبوعا بالانهيار السريع للتحالف الذي أعقبه هزيمة الرايخ بقيادة هتلر، إلى تعجيل ظهور معزز الفضاء بعقد على الأقل. وأصبح من الضروري وجود قضية جديدة تشجع الحكومات على تمويل الأقمار الصناعية. ومرة أخرى ستكون هذه القضية هي الحرب الباردة.
الفصل الثاني
سباق الفضاء في الحرب الباردة
عندما أطلق الاتحاد السوفييتي «سبوتنيك» («المسافر الزميل» أو «القمر الصناعي») في 4 أكتوبر 1957، كانت لحظة فارقة في تاريخ البشرية. فلأول مرة في التاريخ، تصل سرعة جهاز من صنع البشر إلى ما يزيد عن 17 ألف ميل في الساعة ويوضع في مدار الأرض. وعلى الفور رحبت الصحافة العالمية بقدوم «عصر الفضاء»، وسرعان ما أطلقت على منافسة القوى العظمى المقبلة «سباق الفضاء». نجم عن هذه المنافسة الوصول إلى القمر في أقل من اثني عشر عاما. ولكن السباق في الحقيقة بدأ في صيف 1955، عندما أعلن الجانبان أنهما سيرسلان مركبات علمية في سياق مشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية في 1957-1958.
الأقمار الصناعية الأولى
في الولايات المتحدة، يرجع أصل القمر الصناعي الخاص بمشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية إلى اجتماع عقد في يونيو 1954 في مكتب أبحاث البحرية الأمريكية. وكان من بين الحضور خبير الصواريخ فريدريك سي ديورانت الثالث، ضابط في الاحتياطي البحري للولايات المتحدة، وضابط سري في وكالة الاستخبارات المركزية (
CIA ) في وحدة الاستخبارات العلمية. وكان أيضا رئيس الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية (
IAF )، الذي تشكل في 1951 لربط جمعيات الفضاء التي كانت لا تزال في معظمها أوروبية، في شبكة جديدة تتجاوز الحدود القومية. ودعا ديورانت الألماني فيرنر فون براون لحضور اجتماع الأقمار الصناعية؛ إذ كانا قد صارا صديقين منذ قرأ ديورانت الورقة العلمية الخاصة بالألماني في أحد مؤتمرات الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية.
لأول مرة في التاريخ، تصل سرعة جهاز من صنع البشر إلى ما يزيد عن 17 ألف ميل في الساعة ويوضع في مدار الأرض.
جاء فون براون باقتراح مركبة إطلاق منخفضة التكلفة: ثلاث مراحل من القذائف العنقودية الصغيرة المضادة للطائرات محمولة على صاروخ «ريدستون». كانت إمكانياتها محدودة؛ إذ لم تضمن الدراسات اللاحقة سوى قدرتها على وضع جسم خامل يزن 5 أرطال في المدار. كانت حجة فون براون وشركائه أنها كانت طريقة سريعة ورخيصة لهزيمة الاتحاد السوفييتي. أقنع ديورانت وكالة الاستخبارات المركزية بالتصديق على الاقتراح نظرا إلى تأثير القمر الصناعي المحتمل على الرأي العالمي في الحرب الباردة. وأصبح السؤال المطروح هو كيف نتتبعه بصريا لاستخلاص معلومات علمية عن الغلاف الجوي الخارجي للأرض وحقل جاذبيتها، وهي معلومات غاية في الأهمية لتحسين دقة الصواريخ البعيدة المدى. في يناير 1955، بدعم مشترك من الجيش والبحرية الأمريكية، لقب هذا المشروع السري رسميا باسم «أوربيتر».
1
بدأ العلماء والمهندسون وخبراء السياسة في بناء دعم جماهيري لمشروع القمر الصناعي. أجرت جمعية الصواريخ الأمريكية، التي أعادت تعريف نفسها كمنظمة قومية للهندسة بعد الحرب العالمية الثانية، دراسة عامة. وصنع لويد بيركنر، وهو قائد أمريكي علمي مؤثر له صلة وثيقة بإدارة الدفاع الأمريكية، قرارا في المؤتمر الجيوفيزيائي العالمي في خريف 1954 يروج لإطلاق أقمار صناعية لصالح مشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية. واستهدفت هذه الحملة العلمية، التي كان من المقرر أن تبدأ في 1 يوليو 1957 وتستمر حتى 31 ديسمبر 1958، مع بلوغ نشاط الشمس ذروته، المناطق القطبية والغلاف الجوي والغلاف الأيوني للأرض. وكان من المتوقع أن تثمر قياسات الأقمار الصناعية عن الكثير من البيانات الجديدة، إلا أن بيركنر كانت لديه حوافز أخرى مهمة متعلقة بالحرب الباردة، ومنها مكانة الولايات المتحدة القومية، وربما أيضا سابقة إطلاق قمر صناعي لمراقبة البلدان الأخرى جوا.
2
في أثناء العام نفسه، عام 1954، كانت إدارة أيزنهاور تجري دراسة سرية للغاية حول احتمالية شن الاتحاد السوفييتي هجوما مفاجئا بالصواريخ وقاذفات القنابل النووية. وأقرت الدراسة عدة إجراءات، منها صنع الصاروخ الباليستي المتوسط المدى باعتباره حلا مؤقتا، وطائرة الاستطلاع ذات الارتفاع العالي كي تحلق فوق الاتحاد السوفييتي بصورة غير شرعية (سميت بعد فترة قصيرة «يو-2») وأيضا إطلاق قمر صناعي ليكون بمثابة سابقة للاستطلاع من الفضاء، وحل نهائي لمشاكل الاستخبارات. رأى خبراء القانون الدولي الأمريكان أن السيطرة القومية على الجو تنتهي عند الغلاف الجوي المدرك؛ ومن ثم فإن أي جسم يوضع في المدار يستطيع العمل بحرية. في ربيع 1955، كان هذا الرأي أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الرئيس دوايت أيزنهاور يقرر المصادقة على مشروع القمر الصناعي للسنة الجيوفيزيائية الدولية الذي يحمل أجندة سياسية خفية.
3
في الاتحاد السوفييتي، تتبع سيرجي كوروليف وشركاؤه، خصوصا مهندس الطيران ميخائيل تيخونرافوف، أدبيات رحلات الفضاء الأمريكية والأوروبية وكافحوا من أجل إشعال روح الحماسة في وطنهم. وفي الفترة ما بين 1953 و1955، قاد تيخونرافوف فريقا صغيرا في معهده لكتابة تقرير طويل حول إمكانيات الأقمار الصناعية، بالتوازي مع دراسات مشابهة قامت بها مؤسسة راند الأمريكية بتمويل من القوات الجوية. وذكر التقرير تطبيقات عسكرية، لأسباب يرجع جزء منها إلى أن ذلك كان سيروق لصانعي القرار السوفييت. ولكن الاستطلاع، على الرغم من أهميته ، لم يكن جوهريا للشأن السوفييتي لأن الأسهل بالنسبة إلى السوفييت في ذلك الوقت كان التجسس على الولايات المتحدة المفتوحة نسبيا. في أواخر عام 1954، استطاع كوروليف وتيخونرافوف، وغيرهما من المتحمسين للفضاء إقناع أكاديمية العلوم المعتبرة بتشكيل لجنة لرحلات الفضاء. وعندما أعلنت إحدى الصحف في موسكو تشكيل هذه اللجنة في أبريل 1955، حدث ما لم يكن في الحسبان؛ إذ استغل الإعلام الغربي المقال، واعتبره دليلا على أن ثمة سباق فضاء يلوح في الأفق، مما عزز قرار إدارة أيزنهاور بتنفيذ مشروع قمر صناعي، ولكن على ألا يتعارض مع تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
4
في الوقت نفسه، اكتسب «أوربيتر» زخما عندما درس أعضاء الفريق سبل تحسين قدراته على الحمل والتتبع. ولكنه فقد تتويجه الذي بدا حتميا باعتباره المشروع الأمريكي الرسمي في صيف 1955؛ إذ قدم ميلتون روزن، كبير مهندسي صاروخ التجارب «فايكينج» في معمل أبحاث البحرية الأمريكية، اقتراح مركبة جديدة ثلاثية المراحل تستند إلى تطوير «فايكينج». ومن ثم سارعت البحرية إلى إنهاء دعمها «لأوربيتر». وأنشأت إدارة الدفاع الأمريكية قائمة اختيار للاختيار من بين هذين الخيارين واقتراح آخر قدمته القوات الجوية يستند إلى مشروع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات «أطلس». وكان الأخير باهظ التكاليف، وسيستغرق وقتا أطول، ويفتقد إلى الدعم العالي المستوى في خدمته. وقد ظن الجنرال برنارد شريفر أنه سيشتته عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات وبرامج الأقمار الصناعية الاستطلاعية. في بداية أغسطس 1955، اختارت اللجنة على نحو مفاجئ اقتراح معمل أبحاث البحرية الأمريكية؛ إذ صوت لصالحه خمسة في مقابل اثنين. أتاحت مركبة فضاء «فانجارد» حمولة 20 رطلا على الأقل، كما يوجد على متنها جهاز إرسال لاسلكي، الأمر الذي يثمر عن عوائد علمية أكبر بكثير. ربما كان ثمة سبب آخر ثانوي وهو أن المركبة كانت تبدو أكثر «مدنية» لأنها لم تستخدم صاروخا عسكريا كمرحلة. أحد أعضاء اللجنة أيضا كان يعتقد أن الأصل الألماني لصاروخ فون براون كان من مساوئه؛ ربما كان لا يزال يكن عداوة تجاه فون براون المهندس النازي سابقا. ولكن هذه الأسباب الثانوية لم تكن حاسمة، كما لم تلعب مسألة المراقبة الجوية من الفضاء دورا؛ في الواقع يبدو أنها كانت سرية للغاية لدرجة أن معظم أعضاء اللجنة لم يكونوا على علم بها. ذهل الجيش وفون براون بحلول صاروخ يحتاج إلى الكثير من التطوير محل صاروخ يستند إلى أجهزة متاحة بالفعل. وحاول الجيش محاولة أخيرة أن يقترح حلا وسطا، بأن يطلق القمر الصناعي الخاص بالبحرية الأمريكية، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل. وبعد أن ذاعت حكاية قرار «فانجارد» بعد عامين، بعد «سبوتنيك»، أثارت الكثير من الاتهامات المتبادلة في الولايات المتحدة.
5
قبل وصول اللجنة لقرارها المبدئي بأيام، كان البيت الأبيض قد أعلن عن القمر الصناعي الخاص بمشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية في 29 يوليو 1955، متصدرا عناوين الصحف العالمية. وكان الاتحاد الدولي للملاحة الفضائية يعقد اجتماعه السنوي في كوبنهاجن الدنمارك، وهو الاجتماع الأول الذي يحضره ممثلو الاتحاد السوفييتي. في 2 أغسطس، أخبر ليونيد سيدوف، الرئيس الاسمي للجنة رحلات الفضاء، الصحافة بأن الاتحاد السوفييتي سوف يطلق أقمارا صناعية أيضا. ويبدو أن هذه العبارة كانت تفتقر إلى الدعم السياسي العالي المستوى، ولكنها ربما كانت بتوجيه من كوروليف وغيره في موسكو، الذين كانوا يعملون في سرية فرضتها الدولة. في 1955-1956، أنتجوا قمرا صناعيا جيوفيزيائيا كبيرا جدا باسم «سبوتنيك 3»، وحصلوا على الموافقة عليه، وكان القمر يزن نصف طن وكان من المقرر إطلاقه أخيرا في عام 1958، بفضل قوة الحمل الهائلة للصاروخ «آر-7». ولكن في أواخر عام 1956، ساور كوروليف القلق من أن السوفييت سيأتون في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في سباق الفضاء، بسبب القمر الصناعي الأول. وأبقى فون براون وقادته في الجيش على مشروعهم، في ترسانة «ريدستون»، مقتنعين بأن «فانجارد» ستفشل لا محالة. بمساعدة قرار أيزنهاور بالموافقة على صاروخ «جوبيتر» متوسط المدى، وضعوا خطة لاستخدام نسخة معدلة من مركبة الإطلاق «أوربيتر» لاختبار تقنيات الدرع الحراري لكي تحتمل القذائف النووية إعادة الدخول. وسميت هذه النسخة «جوبيتر-سي» للدلالة على أولويات ذلك البرنامج، على الرغم من أن المرحلة الأولى كانت «ريدستون». وفي سبتمبر 1956 أجري اختبار نتج عنه رقم قياسي عالمي؛ إذ وصلت القذيفة إلى مسافة 3355 ميلا. وكان كوروليف، نظرا للشائعات التي روجت في الصحافة الغربية، مقتنعا بأن فون براون قد أخفق في محاولة إطلاق قمر صناعي. فوضعت جماعته خطة لإطلاق جسم أبسط يحمل جهاز إرسال لاسلكي، وهو ما أطلق عليه لاحقا «سبوتنيك 1». كان من الممكن إطلاقه بمجرد نجاح اختبارات صاروخ «آر-7» الباليستي العابر للقارات الأول.
6
تماما كما توقع فون براون (الذي كان في ذلك الوقت مواطنا أمريكيا)، تأخر «فانجارد» عن خطته الزمنية تأخرا ملحوظا، كما زادت تكلفته زيادة ملحوظة أيضا، رغم أن روزن وزملاءه استطاعوا في النهاية السيطرة على مشكلات التطوير. وحاول الجيش مرتين إقناع أيزنهاور بالموافقة على «جوبيتر-سي» كخطة بديلة ل «فانجارد»، لضمان احتلال الولايات المتحدة للمركز الأول في السباق، ولكن الرئيس لم يوافق على ذلك ولم يلق له بالا. فقد كان ذلك سيكلف مزيدا من الأموال في الوقت الذي كانت فيه ميزانية «فانجارد» قد ارتفعت بالفعل ارتفاعا كبيرا، كما أنه كان سيغير سياسة الولايات المتحدة التي اعتبرت «فانجارد» هو المشروع العلمي الرسمي للسنة الجيوفيزيائية الدولية. هذه القرارات، مثلها مثل القرار الأصلي باختيار «فانجارد» (التي لم يكن لأيزنهاور دور في اتخاذها، بخلاف أنه لم يمنع اتخاذها في المقام الأول) كانت جوهرية في عواقبها: كان تاريخ سباق الفضاء سيختلف اختلافا جذريا إذا كانت الولايات المتحدة قد احتلت المكانة الأولى. فلم تكن ستحتاج إلى أن تزيد من سرعتها للحاق بالسوفييت. ومرة أخرى، سرعت الأحداث إمكانية السفر عبر الفضاء إلى أقصى حد ممكن.
تنظيم برامج الفضاء
غالبا ما يكون تأثير القمر الصناعي «سبوتنيك» على الرأي العام الأمريكي مبالغا فيه؛ فقد استخدم مؤرخون مشهورون كلمات مثل «ذعر»، و«هستيريا»، و«خوف» لوصف تأثيره. أما الدراسات الحديثة، فهي لا تؤيد ذلك. ترك هذا الإنجاز انطباعا لدى كثير من الأمريكان، لكن كثيرين أيضا لم يلقوا له بالا على الإطلاق. إلا أن الصحافة والسياسيين سرعان ما هاجموا إدارة أيزنهاور لإعطائها السوفييت هذا الانتصار الرمزي.
7
وصار الإعلام يتشدق بأن الرئيس عجوز طيب يفضل لعب الجولف على الحكم. وآثر الرئيس الإبقاء على تدخله العميق في اتخاذ قرارات الحرب الباردة سرا، وذلك جزئيا لكي يحمي أجندته السرية، مثل استراتيجية المراقبة الجوية وكذلك مهام الاستطلاع الخطيرة بطائرات «يو-2». هذه الرحلات الجوية، رغم كونها محدودة، أوضحت أنه بخلاف ما كان شائعا عن وجود «فجوة قاذفات» ثم بعدها «فجوة صواريخ»، كان العكس صحيحا؛ فقد كانت الولايات المتحدة متقدمة عن الاتحاد السوفييتي في كل فئات الأسلحة النووية. ولكن جهل ناقديه بهذه المعلومات أتاح لهم الفرصة لنقد إحجامه عن تشجيع التقدم في سباق التسلح والفضاء. ومع ذلك، كانت أجندات النقاد كثيرا ما تتعارض مع أجندته. كان الجيش والقوات الجوية منافسين لدودين في تطوير الصواريخ الباليستية، وانتقلت هذه المنافسة فورا إلى سباق الفضاء. وطالب كلاهما بأحقيتهما في إدارة البرنامج في المستقبل، في حين طالبت البحرية بأحقيتها في الحصول على جزء من الكعكة.
غالبا ما يكون تأثير القمر الصناعي «سبوتنيك» على الرأي العام الأمريكي مبالغا فيه؛ فقد استخدم مؤرخون مشهورون كلمات مثل «ذعر»، و«هستيريا»، و«خوف» لوصف تأثيره.
أثار رد فعل الصحافة العالمية مفاجأة القادة السوفييت كذلك. احتوت الجريدة الرسمية مقالة صغيرة في اليوم التالي للإطلاق، ولكن في السادس من أكتوبر كانت ثمة عناوين ضخمة بينما تنهمر التهاني الدولية. وأراد رئيس الحزب الشيوعي نيكيتا خوروشوف، الذي اعتلى سدة الحكم بعد وفاة ستالين في 1953، تحقيق إنجاز مشهود آخر في الفضاء للذكرى الأربعين للثورة البلشفية في مستهل نوفمبر. أرسل فريق كوروليف كلبا إلى الفضاء، في مقصورة مجهزة من أجل رحلات الفضاء دون المدارية. وفي الثالث من نوفمبر، انطلق القمر الصناعي «سبوتنيك 2» وعلى متنه الكلبة لايكا، كلبة ضالة التقطت من شوارع موسكو. وللأسف ذعرت الكلبة المسكينة وماتت من جراء الحرارة الشديدة، ولكن السوفييت كذبوا بشأنها لمدة أسبوع قبل أن يدعوا قتلها قتلا رحيما. مرة أخرى، أثار حجم القمر الصناعي الضخم، 1121 رطلا، وهو ما يبلغ أضعاف وزن «سبوتنيك 1» البالغ 184 رطلا، إعجاب الجميع، كما أعطى للسوفييت الحق في ادعاء تحقيق أول اختبار ناجح للصواريخ الباليستية العابرة للقارات في أواخر أغسطس.
8
كان الجيش والقوات الجوية منافسين لدودين في تطوير الصواريخ الباليستية، وانتقلت هذه المنافسة فورا إلى سباق الفضاء.
فاقم النجاح الثاني للاتحاد السوفييتي ما أطلق عليه المؤرخ والتر ماكدوجال «الشغب الإعلامي» في أمريكا حول الإحراج الملحوظ الذي تتعرض له أمريكا. ورويدا رويدا تحول الرأي العام الأمريكي إلى الغضب والقلق ونقد الإدارة الأمريكية. وزاد التهديد السوفييتي باستخدام الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، رغم أنه كان على بعد سنوات من التنفيذ، شعور الأمريكان بالضعف. وكان خروتشوف سعيدا بتغذية هذا الخوف بالتفاخر بالصواريخ السوفييتية وبقدرات السوفييت الفضائية. ما زاد الطين بلة، في السادس من ديسمبر، سقوط صاروخ «فانجارد» يحمل قمرا صناعيا مصغرا على منصة الإطلاق، محدثا انفجارا مدويا على التليفزيون الوطني. عند هذه اللحظة، نجح الجيش في الحصول على موافقة على مشروعه الثاني المستند إلى «جوبيتر-سي». جاء صاروخ ريدستون وتوجيه المشروع من فريق فون براون في هانتسفيل، في حين أدار مراحل الوقود الصلب العليا والقمر الصناعي مختبر الدفع النفاث في كاليفورنيا. في 31 يناير 1958، أصبح للولايات المتحدة أخيرا قمر صناعي في المدار؛ وسماه الجيش «إكسبلورر 1»، وتبعه «فانجارد» في أول نجاح مداري له بعد ستة أسابيع.
9
في الوقت الذي تناحرت فيه قوات الجيش على برنامج الفضاء، أقر كل من الرئيس الجمهوري وقائد الأغلبية في مجلس الشيوخ الديمقراطي ليندون جونسون، الحاجة إلى هيئة مدنية للقيام ببعثات علمية وسلمية. وكانت المرشحة الأولى لهذا العمل هي اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الجوية (التي تعرف اختصارا ب
NACA ) وهي عبارة عن منظمة حكومية للأبحاث تأسست في عام 1915، وتقع أكبر مراكزها في فيرجينيا وأوهايو وكاليفورنيا. وفي نهاية يوليو، وقع الرئيس على مذكرة إنشاء الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (التي تعرف اختصارا ب
NASA
أو ناسا) من رحم
NACA ، بالإضافة إلى جماعة «فانجارد» في معمل أبحاث البحرية الأمريكية وبعض مشروعات الفضاء الخاصة بالجيش والقوات الجوية. رحب مختبر الدفع النفاث، الخاضع للتوجيه الأكاديمي، الذي كانت تديره كالتيك، بأن يتخلى عن الجيش لصالح وكالة ناسا بمجرد أن بدأت الوكالة ممارسة نشاطها في 1 أكتوبر 1958. لكن فون براون وقائده في هانتسفيل قاوموا محاولة نقل نصف فريقه الذي انحل، مخافة عواقب حدوث انفصال في مشروع صاروخ «جوبيتر» وغيره من المشروعات. وأخيرا أصدر أيزنهاور أمرا بالنقل بعد سنة، عندما أمكن استيعاب كل أعضاء فريق فون براون.
10
كان إنشاء هيئة مدنية هو الحل الأمريكي أثناء الحرب الباردة للتحديات التنظيمية، وأيضا السياسية، في السباق السريع الاحتدام. أبرزت الأقمار الصناعية السوفييتية «سبوتنيك» قيمة إنجازات الفضاء في تحقيق المكانة والتدليل على القوة العلمية والتكنولوجية. وقد كان انفصال الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وخاصة بريطانيا وفرنسا في أفريقيا وآسيا، سياقا مهما. كان ثمة دول جديدة تتشكل كل عام، والحركات الثورية القومية غالبا ما تنظر إلى الاتحاد السوفييتي والصين باعتبارهما نموذجين للتطور. كانت إنجازات الفضاء السوفييتية بمثابة إعلان مدو للتفوق المزعوم للاشتراكية على الرأسمالية. وكانت الدعاية الشيوعية تنتقد أمريكا والغرب بلا هوادة على العسكرية والإمبريالية. ولذا فإن إنشاء هيئة فضاء مدنية وعلمية، تنطوي شروط تأسيسها على التعاون الدولي، سوف تصدر صورة أمريكية إيجابية للحلفاء في أوروبا الغربية وغيرها. كما أن إنشاء ناسا جعل الولايات المتحدة تبتكر فئة نشاط الفضاء المدني، في الوقت الذي كانت فيه القوات المسلحة هي الوحيدة، حتى ذلك الوقت، التي تملك التكنولوجيا القادرة على القيام برحلات الفضاء.
11
أقر كل من الرئيس الجمهوري وقائد الأغلبية في مجلس الشيوخ الديمقراطي ليندون جونسون، الحاجة إلى هيئة مدنية للقيام ببعثات علمية وسلمية.
ضلل إنشاء وكالة ناسا الكثير ليظنوا أنها تدير «برنامج» الفضاء الأمريكي. في السنوات الأربع الأولى بعد «سبوتنيك»، وضعت الحكومة الأمريكية فعليا ثلاثة برامج فضاء. كان الأول الجهد المدني الذي توجهه وكالة ناسا. أما الثاني فهو البرنامج العسكري الذي تسيطر عليه القوات الجوية الأمريكية، بعد أن فقد الجيش والبحرية معظم خبراء الفضاء التابعين لهم لصالح ناسا. وظهرت نظم الاستطلاع والاتصالات والملاحة الجوية وغيرها من نظم الأقمار الصناعية العسكرية في هذه الفترة، وواصلت القوات الجوية الأمريكية حلمها بإرسال مركبات فضائية تحمل طيارا، حتى بعد أن سلمت ناسا مهمة إرسال إنسان للمدار. أما برنامج الفضاء الأمريكي الثالث فكان برنامج الاستخبارات، وكان مرتبطا ارتباطا وثيقا مع البرنامج العسكري، ولكنه كان منفصلا عنه تنظيميا. وبدأ البرنامج بمشروع سري للغاية لقمر صناعي استطلاعي للتصوير من الفضاء وإعادة الفيلم إلى الأرض وأطلق عليه «كورونا»، وقد فصله أيزنهاور في بداية 1958. وعلى غرار البرنامج الموازي له، «يو-2»، كان من المفترض أن يجري توجيه هذا القمر الصناعي بالتعاون بين القوات الجوية ووكالة الاستخبارات المركزية. وأسهمت البحرية بعد ذلك بالأقمار الصناعية الأولى لاستخبارات الإشارات. في 1961، أضفيت الصفة الرسمية على هذا البرنامج وسمي مكتب الاستطلاع الوطني (الذي عرف اختصارا باسم
NRO )، وظل هذا الاسم نفسه سريا حتى 1992. وكان يصنع ويشغل أقمارا صناعية للتجسس، بالتعاون الوثيق مع القوات الجوية، ولكنه كان يسلم ما يصل إليه من نتائج إلى الوكالات الاستخباراتية. عملت وكالة ناسا أيضا عن قرب مع وكالة الاستخبارات المركزية ومع القوات العسكرية، لا سيما فيما يختص بالاستخبارات حول برنامج الفضاء السوفييتي، وتكنولوجيا أجهزة الاستشعار ومركبات الإطلاق، ولكنها أخفت جزءا كبيرا من هذا التعاون وراء جدار التصنيف لتحمي صورتها كوكالة سلمية.
12
كانت إنجازات الفضاء السوفييتية بمثابة إعلان مدو للتفوق المزعوم للاشتراكية على الرأسمالية.
لم يشعر السوفييت أبدا بحاجتهم إلى إنشاء وكالة مدنية، حتى وإن كانت واجهة. وكان برنامجهم عسكريا خالصا، ولكنه محاط بأعلى درجات التكتم والسرية. فصل خروتشوف فرق الصواريخ الباليستية عن الجيش، وأنشأ سلاحا منفصلا، أسماه قوات الصواريخ الاستراتيجية، لتنفيذ كافة عمليات الإطلاق للفضاء. وابتكرت التكنولوجيا مصانع ومؤسسات ومكاتب تصميمات عسكرية التوجيه، مثل مكتب التصميمات «أوه كي بي-1» الخاص بكوروليف. واختارت القوات الجوية أول دفعة من رواد الفضاء ودربتهم في 1960. وبالنسبة إلى العالم الخارجي، كانت أكاديمية العلوم السوفييتية هي صاحبة البرنامج؛ ولكن في الحقيقة لم تتدخل الأكاديمية إلا في التجارب العلمية، على الرغم من أن قيادة الأكاديميين كان يمكن أن تحظى بمكانة مرموقة في سياسات السوفييت الداخلية.
كان سباق الفضاء في البداية يقاطعه بين الحين والآخر إنجازات سوفييتية مذهلة تلقي الظل على أفضلية أمريكا في قطاعات أخرى. ففي 1959، حلق القمر الصناعي السوفييتي «لونا 1» بالقرب من القمر، وأصبح أول آلة من صنع البشر تهرب من تأثير الأرض، وهبط «لونا 2» على سطح القمر، والتقط «لونا 3» صورا أولية للجانب الذي لم ير مطلقا من الكوكب الأم. وكان أقصى ما استطاعت الولايات المتحدة عمله في ذلك الحين هو التحليق على مسافة أبعد بكثير. في 12 أبريل 1961، أصبح يوري جاجارين أول إنسان يصعد إلى الفضاء، ويتمكن من الدوران حول الأرض دورة واحدة على متن مركبة الفضاء «فوستوك 1»؛ وبعد أربعة أشهر، قام جيرمان تيتوف بالدوران حول الأرض لمدة يوم كامل. أما برنامج «ميركوري» الأمريكي فعانى من البطء؛ إذ قام آلان شيبارد وفيرجيل جس جريسوم برحلتين دون مداريتين قصيرتين في الفترة ما بين الرحلتين السوفييتيتين. لم تنجح مساعي الولايات المتحدة في مضاهاة إنجاز جاجارين إلا عندما دار جون جلين حول الأرض في فبراير 1962. وفي يونيو 1963، أرسل الاتحاد السوفييتي أول امرأة إلى الفضاء لتدور حول الأرض، وهي رائدة الفضاء فالنتينا تيريشكوفا، في الوقت الذي قاومت فيه وكالة ناسا محاولات إرسال رائدات فضاء.
13
مع ذلك، ما لم يكن ظاهرا للعيان هو أن الولايات المتحدة كانت متقدمة بعامين في مجال الأقمار الصناعية الاستطلاعية؛ إذ حققت إنجازاتها الأولى بحمولات استخبارات إشارات البحرية والأقمار الصناعية الاستطلاعية «كورونا» المعدة للتصوير الفوتوغرافي في ربيع وصيف 1960. كما كانت الولايات المتحدة متقدمة أيضا علميا، من حيث عمليات الإطلاق الأكثر عددا والحمولات الأكثر فاعلية. ولكن كان من الصعب أن يدرك المرء ذلك من ردود أفعال الصحافة بعد كل انتصار سوفييتي.
في يونيو 1963، أرسل الاتحاد السوفييتي أول امرأة إلى الفضاء لتدور حول الأرض، وهي رائدة الفضاء فالنتينا تيريشكوفا، في الوقت الذي قاومت فيه وكالة ناسا محاولات إرسال رائدات فضاء من النساء.
قاوم الرئيس أيزنهاور زيادة الدين الوطني وحجم الحكومة، إلا أنه لم يستطع أن يقف أمام نمو برامج الصواريخ والفضاء، بسبب الضغط الشعبي والسياسي من أجل مواكبة السوفييت في سباقي الأسلحة والفضاء. تنحى الجنرال السابق برتبة خمسة نجوم عن منصبه منددا ب «المجمع الصناعي العسكري» وبنخبة الخبراء الذين حاولوا ترويج مشروعات باهظة التكاليف، كما فعل فون براون. وعلى النقيض، تولى جون إف كينيدي الرئاسة في يناير 1961، جزئيا بفضل التشدق المتواصل ب «فجوة الصواريخ» والقصور الأمريكي في مجال الفضاء.
سباق القمر
وقعت أزمتان في أبريل تمخضتا عن لي ذراع كينيدي: رحلة جاجارين والفشل الذريع للغزو الكوبي الذي تم على يد جماعة من الكوبيين المنفيين بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية بعدها بخمسة أيام. فطالب كينيدي نائبه ليندون جونسون بأن يجد جانبا من جوانب سباق الفضاء «نستطيع الفوز فيه». وكانت إجابة وكالة ناسا بالفعل: «إرسال إنسان ليهبط على سطح القمر وإعادته سالما إلى الأرض»، وفقا لما قاله كينيدي في خطابه يوم 25 مايو أمام الكونجرس. وخمن جيمس ويب، مدير ناسا الجديد، أن أي شيء أقل من رحلة فضاء ذهاب وعودة يهبط بها إنسان على سطح القمر، لن يضمن حصول الولايات المتحدة على فرصة للفوز على الاتحاد السوفييتي. وسيكون الصاروخ المطلوب كبيرا جدا بحيث يتفوق فعليا على أفضلية السوفييت في قوة الحمل. عندما نجحت رحلة شيبارد في 5 مايو، أضافت زخما جديدا للقرار. كانت الميزانية المقدرة 20 إلى 40 مليار دولار، وهو ما كان مبلغا هائلا بمعايير ذلك الوقت. وكان الجدول الزمني أيضا مذهلا: «قبل مضي هذا العقد» وفقا لما قاله كينيدي، وهو ما يعني 1969 أو ربما 1970. إلا أن الكونجرس وافق بشدة لدرجة أنه صادق على زيادة ميزانية وكالة ناسا زيادة ضخمة. مرة أخرى، اجتمعت المنافسة الدولية وحوادث التاريخ لتعجيل الجدول الزمني، فوطئت أقدام البشر على سطح القمر بعد ثماني سنوات فحسب من رحلتي جاجارين وشيبارد القصيرتين.
14
شكل 2-1: يوري جاجارين، أول إنسان في الفضاء، يحييه الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف في الميدان الأحمر في موسكو بعد رحلته التاريخية ذات المدار الواحد في 12 أبريل 1961. أضافت سلسلة من الإنجازات السوفييتية الرائدة زخما لسباق الفضاء الأمريكي السوفيتي المبكر وحفزت الرئيس كينيدي ليقترح إرسال رواد فضاء إلى القمر بحلول نهاية الستينيات (المصدر: متحف سميثسونيان الوطني للطيران والفضاء).
غير هدف الوصول إلى القمر وكالة ناسا تغييرا جذريا؛ فبحلول عام 1966، تضاعفت نفقات الوكالة خمس مرات حتى وصلت إلى 5 مليارات دولار؛ إذ مولت ازدهار صناعة الفضاء الجوي، لا سيما في كاليفورنيا، ودفعت مقابل بناء مرافق جديدة ضخمة عبر جنوب الولايات المتحدة. ومنها مركز مركبات الفضاء المأهولة (الذي سمي لاحقا مركز جونسون للفضاء) في هيوستن بتكساس، بالإضافة إلى توسع ضخم في مركز مارشال لبعثات الفضاء الذي كان يديره فون براون في ألاباما، والمراكز التي انبثقت منه لاحقا، مثل مركز فلوريدا للإطلاق الذي حمل اسم كينيدي تمجيدا له بعد اغتياله عام 1963، ومرفق اختبار الصواريخ في ميسيسيبي (يطلق عليه حاليا ستينيس). وأصبحت رحلات الفضاء المأهولة هي مهمة وكالة ناسا الأساسية. وعندما آل ازدهار مشروع «أبولو» إلى نهاية مفاجئة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين، كان اعتماد الميزانية والبنية التحتية عليه سيصير مشكلة.
لكن بدا أن هذا سيكون في المستقبل البعيد. في 1961-1962، اختارت الوكالة مركبة إطلاق، «ساتورن 5»، وطريقة هبوط، ملتقى القمر المداري، وكان هذا يعني أنها تحتاج إلى تطوير مركبة هبوط مخصصة على سطح القمر ل «أبولو»، بالإضافة إلى مركبة الفضاء الأساسية. كما قرر مركز هيوستن، برئاسة روبرت جيلروث، رئيس برنامج «ميركوري»، أنه بحاجة إلى جسر يوصله من مركبة الفضاء الأولى المأهولة بالبشر التي صنعها إلى «أبولو»: فصنع مركبة الفضاء «جميني» ضمن برنامج «ميركوري» وكانت تسع طاقما مكونا من شخصين. وكان الهدف الأساسي من هذه المركبة هو التعرف بدرجة أكبر على ملتقى القمر المداري وطريقة إرساء المركبة والسير في الفضاء والتأثير الصحي لرحلات الفضاء عندما تستمر أربعة عشر يوما وجميع المعلومات اللازمة للقيام برحلة ناجحة إلى سطح القمر. ونفذت وكالة ناسا، رغم مواجهتها القليل من الأزمات والمشاكل، عشر بعثات مأهولة على متن المركبة «جميني» في غضون عشرين شهرا في 1965-1966، محققة أهدافها كافة. كانت تلك هي الفترة التي لحقت فيها الولايات المتحدة بركب الاتحاد السوفييتي في سباق القمر، بل سبقتها فيه.
15
لم يتضح هذا التفوق للعيان على الفور؛ لأن فريق كوروليف حاز قصب السبق مرات قليلة أخرى. في أكتوبر 1964، أرسل السوفييت ثلاثة رواد فضاء في «فوسخود 1»، وفي مارس 1965، أرسلوا رائدي فضاء في «فوسخود 2». وكان أحد رائدي الفضاء في الرحلة الأخيرة، أليكسي ليونوف ، هو أول شخص يسير في الفضاء. ونجح السوفييت في إخفاء مدى خطورة هاتين الرحلتين عن العالم بأسره. لكي يحافظ كوروليف على مركز الصدارة لصالح خروتشوف، عدل مركبة الفضاء «فوستوك» بإزالة مقعد القذف ليستطيع تكديس المزيد من رواد الفضاء في المركبة. وعليه، إذا حدث أي عطب في المعزز، فلن يتمكن رواد الفضاء من النجاة. واجه ليونوف أزمة خطيرة أثناء سيره في الفضاء عندما انتفخت بذلته أكثر مما ينبغي فأصبح من الصعب عليه الرجوع إلى غرفة معادلة الضغط القابلة للنفخ على متن المركبة «فوسخود 2». كما عانت المركبة الفضائية من مشاكل في السيطرة عليها، ومن ثم هبطت بعيدا جدا عن مسارها. في الواقع، أجبر ليونيد بريجنيف وأليكسي كوزيجين، وغيرهما من قادة الحزب، خروتشوف على تقديم استقالته بعد يوم أو يومين من «فوسخود 1». كان سير ليونوف في الفضاء في مارس 1965 آخر عمل مثير من الطراز القديم. تلا ذلك فجوة محيرة، لم يرسل فيها أي رائد فضاء لمدة سنتين. وكافح مكتب تصميمات كوروليف في الخلفية لتصميم مركبة فضاء جديدة متقنة الصنع باسم «سويوز» (أو الاتحاد) وملحقاتها على سطح القمر.
16
رغم تصدر السوفييت سباق الفضاء بإطلاق بعثتين بالروبوتات إلى سطح القمر في 1966، كان منتصف الستينيات من القرن العشرين هو الفترة التي بدأ فيها برنامج الفضاء السوفييتي في الانهيار. كانت أسباب الانهيار متعددة. في فترة زخم الصواريخ الباليستية في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات، كان كوروليف عبقريا في قيادة العديد من مصانع الصواريخ ومكاتب التصميمات والتنسيق بينها. وبحلول الستينيات، كان نضج صناعة الصواريخ والفضاء يعني أن هناك الآن العديد من المشروعات الكبرى تحت قيادة شخصيات مهمة تتنافس - منافسة لدودة في أغلب الأحيان - للحصول على استحسان المجمع الصناعي العسكري وقيادة الحزب. كان صاروخ «آر-7» الباليستي العابر للقارات الذي صنعه كوروليف غير عملي، ولذا فاز مكتب تصميمات ميخائيل يانجل بتقديمه تصميمات أفضل. كان ثمة خلاف بين كوروليف وفالنتين جلوشكو، مصمم أول محرك صواريخ بالوقود السائل، على اختيار الوقود للمعزز ن-1 العملاق الذي كان سيستخدم للهبوط على سطح القمر، ولذا أوكل كوروليف مهمة تصميم المحرك لشركة أخرى. ثارت خلافات تنافسية أخرى مع مصمم الصواريخ فلاديمير شيلومي، الذي طور صاروخ «بروتون» بمحرك معزز ووضع خططا بديلة للبعثات المأهولة، بما في ذلك مشروع لإرسال رائدي فضاء للدوران حول القمر. نقل البرنامج الأخير إلى مكتب كوروليف، مما نجم عنه مشروعان قمريان وأدى ذلك إلى توزيع الموارد القليلة، وجعلها أقل.
يمكننا أن نقول إن قرار السوفييت بمنافسة «أبولو» جاء متأخرا جدا. لم يوافق خروتشوف على برنامج إلا في أغسطس 1964. ويبدو أن سلسلة نجاحات السوفييت قد جعلت الجميع راضيا عن نفسه. في بداية عام 1966، توفي سيرجي كوروليف إثر إجراء عملية جراحية فاشلة، مخلفا فراغا كبيرا في قيادة برنامج الفضاء. ولكن الصراع المحتدم يبين أن دكتاتورية الحزب الواحد والاقتصاد المخطط كانا أقل نجاحا من النظام الرأسمالي الديمقراطي في الفوز بالمنافسة الاقتصادية الداخلية ووضع برنامج متماسك - على عكس توقعات الغرب الحالية بأن النظم الديكتاتورية هي الأقرب لاتخاذ قرارات حاسمة. علاوة على ذلك كله، لم يملك الاتحاد السوفييتي اقتصادا كبيرا وفعالا بما يكفي لدعم سباق القمر ومنافسة الصواريخ مع الولايات المتحدة التي حشدت إمكانياتها. قصر بريجنيف وكوزيجين في تمويل مشروعات الصعود إلى القمر وجعلوا الأولوية هي اللحاق بالولايات المتحدة في نظم التسليم النووي. وكانت أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962 مهينة؛ واضطر خروتشوف إلى إزالة الصواريخ الموضوعة هناك لتعويض الدونية الاستراتيجية السوفييتية.
في مستهل عام 1967، واجهت برامج الفضاء المأهولة الخاصة بكلتا القوتين العظميين عقبات كئودا أدت كذلك إلى تعتيم الصدارة الأمريكية المتزايدة. وفي يناير، حدث حريق في منصة إطلاق مركبة الفضاء «أبولو» التي كانت تحمل طاقما مكونا من ثلاثة رواد فضاء - هم جس جريسوم وإدوارد وايت (الذي كان أول أمريكي يسير في الفضاء عام 1965) وروجر شافي - مما أسفر عن مقتل الثلاثة. وأدى ذلك ببرنامج «أبولو» إلى كارثة بعد أن انكشف النقاب عن عيوب مركبة الفضاء. بعد ثلاثة شهور، في أبريل، مات فلاديمير كوماروف في تحطم مركبة الفضاء «سويوز 1»، بعد أن تشابكت مظلاته في نهاية الرحلة المنكوبة. وأحجمت كلتا الدولتين عن إرسال رواد فضاء حتى أواخر عام 1968.
أجبر هذا الحريق وكالة ناسا على إجراء فحص كامل دقيق لبرنامج «أبولو»، مما أثمر عن سلسلة مذهلة من النجاحات بين أواخر 1967 وأواخر 1969. تبع الاختبار الأول الناجح لصاروخ «ساتورن 5» الضخم اختبار مداري لمركبة الهبوط على القمر، ثم خمس رحلات فضاء كاملة كان على متنها رواد فضاء بدأت في أكتوبر 1968. جدير بالذكر أن فرانك بورمان وجيمس لوفيل وويليام أندرز قاموا بأول رحلة للفضاء العميق على متن المركبة «أبولو 8»، التي دارت حول القمر في عيد الميلاد. تلا ذلك بعثتان في مدار الأرض ومدار القمر بعد أن أصبحت المركبة الأم ومركبة الهبوط على سطح القمر متوفرتين. كانت مركبة الفضاء «أبولو 11» هي ذروة النصر المؤزر عندما هبط نيل أرمسترونج وباز ألدرين على القمر ووطئت أقدامهما أرضه في 20 يوليو 1969، في حين دار مايكل كولينز فوقهما. وكانت عودتهم السالمة بأول عينات من جسم سماوي آخر بمثابة دليل قاطع على إنجاز كينيدي في تحدي 1961. في وقت متأخر من نفس العام، انطلقت المركبة «أبولو 12» وهبطت بدقة بالقرب من «سيرفيور 3»، أحد المسابير الأمريكية الروبوتية، التي كانت هناك منذ 1967.
نفذ السوفييت عدة بعثات فضاء بمركبات «سويوز» في مدار الأرض المنخفض في الفترة نفسها، بما في ذلك إرساء مركبتين منهما. ولكن هذه البعثات، كان هدفها الرئيسي، بخلاف تطوير خبرة الفضاء، هو تغطية الفشل الذريع لبرامج الهبوط على سطح القمر. كان المقرر أن تحمل إحدى مركبات «سويوز» معدة للدوران حول القمر على متنها رائدي فضاء قبل أن يفعلها الأمريكان. كان النجاح الجزئي لاختبارات المركبات غير المأهولة سببا في الظن بأن الاتحاد السوفييتي كان منافسا قويا ل «أبولو 8». لكن لم يتم إطلاق أي رواد فضاء بسبب احتياج المركبة لإصلاحات، وبعد ذلك حازت الولايات المتحدة قصب السبق ونجحت في إرسال طاقم في مدار القمر، وليس فقط للدوران حوله. فشل الاختباران الأولان للصاروخ «إن-1» - الذي كان حجمه يبلغ نفس حجم «ساتورن 5» - الذي كان من المقرر أن يطلق مركبة الهبوط على سطح القمر، فشلا ذريعا كارثيا في 1969، بسبب تصميم المرحلة الأولى المبالغ في التعقيد والحد الأدنى من التجارب اللذين نجما عن نقص التمويل. استمر برنامج «إن-1» في بداية السبعينيات، ولكن انتهت محاولتا إطلاق أخريان نفس النهاية المؤسفة لسابقتيهما. وأنكر الاتحاد السوفييتي، في العلن، أنه امتلك أصلا برنامجا للهبوط المأهول على سطح القمر.
تناقص سرعة سباق الفضاء
أنهى النصر الذي حققته المركبة «أبولو 11» المرحلة الأولى من سباق الفضاء. وكانت ميزانية وكالة ناسا في تناقص بالفعل بعد أن وصل إنفاق «أبولو-ساتورن» إلى ذروته في 1966 وأدت حرب فيتنام وأعمال الشغب الحضرية، وغيرها من المشاكل القومية إلى تخفيض الدعم العام المقدم للوكالة. شجع النجاح المؤزر في رحلة القمر وكالة ناسا على أن تحاول حث إدارة نيكسون الجديدة على التصديق على إنشاء مكوك فضاء ومحطة فضاء واستكشاف القمر وإرسال بعثة مأهولة إلى كوكب المريخ قبل الثمانينيات من القرن العشرين. ولكن الدولة لم تكن مستعدة لذلك، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نيكسون. استمرت ميزانية ناسا في التراجع حتى منتصف السبعينيات؛ إذ كانت تتمتع بنصف القوة الشرائية التي كانت تتمتع بها في 1966. على الجانب السوفييتي، حول الفشل الذي مني به مشروع القمر تركيز خلفاء كوروليف إلى سلسلة من المحطات المدارية الصغيرة. وفي النهاية، قررت القيادة السوفييتية بناء مكوك فضاء، محاكاة لبرنامج رحلات الفضاء المأهولة الفعلي الجديد الذي وضعته وكالة ناسا في بداية السبعينيات. أقنع نيكسون والكونجرس ببرنامج الفضاء الأمريكي بحجة أن المركبات القابلة لإعادة الاستخدام سوف تقلل تكلفة الإطلاق بدرجة هائلة. وكان من المقرر تأجيل الخطط الأكثر طموحا حتى الثمانينيات أو ما بعدها.
17
هكذا خففت قوى الحرب والمنافسة الدولية التي كانت تعجل تطوير تكنولوجيا الفضاء والصواريخ من سرعتها بشكل مفاجئ. نفذت الولايات المتحدة أربع عمليات هبوط بالمركبة «أبولو» من بين خمس محاولات، ولكن انتهاء ذلك البرنامج في ديسمبر 1972، كان بمثابة آخر مرة يغامر فيها البشر بالابتعاد عن الأرض مسافة تزيد عن 400 ميل، على الأقل حتى هذه اللحظة. والآن عندما نعيد التفكير في تلك الأحداث يبدو جليا أمامنا أن مثل هذا التوجه التاريخي اللامتوازن كان من الصعب أن يستمر . ولكنها كانت مفاجأة غير سارة للمؤمنين باستكشاف الفضاء الذين كانوا يتوقعون أن يستمر استكشاف الفضاء العميق المأهول إلى الأبد.
إلا أن سباق الفضاء لم يكن قد انتهى بعد؛ إذ استمرت المنافسة لمدة عشرين سنة أخرى ولكن بوتيرة أهدأ وأخف حدة؛ فطالما كانت الحرب الباردة مستمرة، لم تستطع الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي التوقف عن محاولة مواكبة كل منهما إنجازات الآخر. كان هذا صحيحا على نحو ملحوظ في عالم الفضاء العسكري، حيث استمرت المنافسة من أجل إمكانيات الفضاء في كامل عنفوانها، حتى أثناء فترة الانفراج الدولي في منتصف السبعينيات، عندما رتب الجانبان عرضا دوليا للتعاون بإرساء مركبتي الفضاء «أبولو» و«سويوز» في عام 1975. واصلت القوتان العظميان تطوير إمكانياتهما في الاستطلاع بالتقاط الإشارات اللاسلكية والصور، كما واصلتا تطوير إمكانيات الإنذار المبكر، والطقس، والاتصالات، والملاحة، وغيرها من نظم الأقمار الصناعية، وذلك للأغراض العسكرية ولأغراض الأمن الوطني. بل إن الاتحاد السوفييتي تمادى إلى حد اختبار أسلحة مضادة للأقمار الصناعية ونظم القصف المداري لمهاجمة الولايات المتحدة.
18
على الرغم من هذه المنافسة الحامية، والسرية في الغالب، توصل الجانبان إلى قبول نظام واقعي مفاده أن يكون الفضاء عسكريا ولكن ليس مسلحا. وبعد فترة عصيبة في بداية الستينيات تضمنت تجارب نووية في الفضاء، اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية في 1963 وعلى معاهدة الفضاء الخارجي التابعة للأمم المتحدة في 1967 والتي كانت تحظر وضع «أسلحة الدمار الشامل» في المدار. احتفظت كلتا القوتين بالحد الأدنى من الإمكانيات التي تضمن لهما مهاجمة مركبة الفضاء الخاصة بالآخر من الأرض أو من أقمار صناعية مدارية مشتركة. ببساطة لم يكن في مصلحة القوتين العظميين مواصلة سباق تسليح الفضاء؛ وأصبحتا تعتمدان على شبكات الأقمار الصناعية الخاصة بكل منهما.
من العوامل الأخرى المهمة في الحرب الباردة المتأخرة أن النشاط الفضائي لم يعد مقتصرا على قطبين اثنين. بدأ هذا التوجه في بداية الستينيات من القرن العشرين، عندما طورت بريطانيا وكندا أقمارا صناعية علمية ليتم إطلاقها بواسطة الولايات المتحدة ، وتلا ذلك في 1965 أن أصبحت فرنسا ثالث دولة تضع قمرها الصناعي في المدار. وشعرت دول غرب أوروبا بأنها أدنى تكنولوجيا من الولايات المتحدة؛ ولذا أنشأت أيضا وكالتين متعاونتين، إحداهما للأقمار الصناعية العلمية والأخرى لتطوير منصة إطلاق مدنية تعتمد على الصواريخ الباليستية البريطانية والفرنسية. نجحت الوكالة الأولى بينما فشلت الأخيرة فشلا ذريعا نتيجة ضعف مستوى إدارة النظم عبر الحدود القومية. في 1975، اندمجت كلتا الوكالتين في وكالة الفضاء الأوروبية (التي تعرف اختصارا ب
ESA )، التي تأسست بناء على اتفاق ودي ألماني-فرنسي: كان الألمان أكثر حرصا على التعاون مع الولايات المتحدة في برامج رحلات الفضاء المأهولة، بينما أرادت فرنسا مرة أخرى أن تجرب تطوير مركبة إطلاق مستقلة. أدى ذلك إلى نجاح صاروخ آريان الذي تتحكم فيه فرنسا، والذي استحوذ على حصة كبيرة في السوق في الثمانينيات عن طريق إطلاق أقمار صناعية للاتصالات في المدار الأرضي الجغرافي المتزامن (المدار الذي يدور فيه القمر الصناعي في نفس اتجاه كوكب الأرض حيث المدة التي يستغرقها ليدور دورة كاملة حول الأرض تساوي فترة دوران الأرض حول نفسها). في آسيا، وضعت الصين الشيوعية قمرها الصناعي الأول في المدار في 1970، وهو القمر الذي تمخض عنه برنامج صواريخ باليستية تحت قيادة مهندس الصواريخ تشيان شيويه سن الذي قضى سنوات طويلة في الولايات المتحدة قبل أن يجبر على المغادرة إثر اتهامه ظلما بالخيانة. وأطلقت اليابان أيضا قمرها الصناعي الأول في 1970. وقد كانت الأقمار الصناعية والمعززات اليابانية في جزء منها ثمرة للجهد الوطني وفي جزء آخر نتيجة للتعاون مع الولايات المتحدة. وفي 1975 أطلق السوفييت أول قمر صناعي هندي، ولكن بعد خمس سنوات نجحت منظمة البحوث الفضائية الهندية في وضع قمر صناعي في المدار بنفسها.
19
فيما يتعلق برحلات الفضاء المأهولة، شهدت السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تطوير أول محطات مدارية. ونتيجة لوضع برنامج منخفض التكاليف لاستغلال تكنولوجيا «أبولو-ساتورن»، احتل رواد فضاء وكالة ناسا محطة فضاء «سكاي لاب» في 1973-1974 بالاستناد إلى مرحلة «ساتورن 5»، ولكن لم يكن ثمة أموال لمتابعة العمل. أنشأ الاتحاد السوفييتي نوعين مختلفين من المحطات الصغيرة في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ولكنه أطلق على كلتيهما اسم «ساليوت» للتعتيم على حقيقة أن إحداهما كانت مركبة فضاء استطلاع عسكري للتجسس على الولايات المتحدة وحلفائها طارت مرتين بنجاح. كان ذلك المشروع ردا على المختبر المداري المأهول التابع للقوات الجوية الأمريكية، الذي لم ينطلق من الأرض أبدا بسبب إصرار إدارة نيكسون على أن هذه المهمة يمكن القيام بها على أكمل وجه بواسطة الأقمار الصناعية غير المأهولة. بيد أن السوفييت قد اكتسبوا خبرة واسعة في آثار انعدام الوزن لمدة طويلة من محطات الفضاء «ساليوت» ومن محطة الفضاء «مير» التي أطلقوها سنة 1986.
20
من غير المدهش أن ناسا عندما شرعت في الدعوة إلى إنشاء محطة فضاء في بداية الثمانينيات، بعد إطلاق مركبة الفضاء الأمريكية أخيرا، استغلت شبح التفوق السوفييتي لدعوة إدارة ريجان المحافظة. على الرغم من ذلك، يبدو أن الدافع الأساسي لوكالة الفضاء كان يتعلق بالعودة إلى ما أطلق عليه أحد العلماء السياسيين «نموذج فون براون» - مكوك فضاء، محطة فضاء، القمر، ثم المريخ - باعتباره الخطوات «المنطقية» في سبيل رحلات الفضاء المأهولة. ونظرا لأن أوروبا وكندا واليابان صاروا يتمتعون بالكفاءة التي تطورت من خلال التعامل مع مكوك الفضاء الأمريكي، ومثل هذا التعاون يبشر بادخار أموال دافعي الضرائب الأمريكان، فإن برنامج محطة الفضاء كان برنامجا دوليا منذ لحظة البدء فيه. لكن الأمر استغرق حتى نهاية الحرب الباردة قبل أن يتمكن أي شخص من التفكير في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي كشريك، واستغرق الأمر حتى عام 1998 قبل أن تبدأ محطة الفضاء الدولية (
ISS ) في التجميع في المدار.
21
عوضا عن ذلك، سيطر مكوك الفضاء على برنامج وكالة ناسا في السبعينيات والثمانينيات. وما كان يعتبر في يوم من الأيام مجرد مركبة لنقل محطة فضاء أصبح غاية في حد ذاته بعد تخفيضات الميزانية في بداية السبعينيات. ولكي تحافظ وكالة الفضاء عليه، أبرمت صفقة مع إدارة الدفاع الأمريكية لجعل مكوك الفضاء هو مركبة الإطلاق القياسية لكل البرامج. وتحدد شكل الجناح وحجم غرفة الحمولة بواسطة متطلبات المهام العسكرية السرية. وبنت القوات الجوية منصة إطلاق منفصلة في كاليفورنيا، لم تستخدم على الإطلاق، من أجل عمليات إطلاق المدار القطبي. ولكي تقلل وكالة ناسا تكاليف التطوير، عزمت على إنشاء نظام قابل لإعادة الاستخدام جزئيا، يحتوي على معززات صاروخية تعمل بالوقود الصلب يمكن إعادة استخدامها، ولكن أيضا خزان وقود للاستعمال مرة واحدة. وقد وضعت تقديرات مفرطة في التفاؤل لمعدل تواتر إطلاق المكوك (كل أسبوع تقريبا) وتكلفة وضع حمولة مقدارها رطل واحد في مدار الأرض (100 دولار. وفي الواقع ثبت أن هذه العملية تكلف نحو 10 آلاف دولار) من أجل إقناع الكونجرس ونيكسون بالبرنامج. في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، قابلت مشروع المكوك عقبات ضخمة فيما يتعلق بقرميد إعادة الدخول للغلاف الجوي القابل لإعادة الاستخدام وبمحرك الصاروخ الأساسي، مما أدى إلى تأخير الإطلاق لأكثر من عامين. وأخيرا انطلق جون يانج وروبرت كريبن بمكوك الفضاء «كولومبيا» متوجهين إلى المدار في 12 أبريل 1981، وهو تاريخ الذكرى المئوية العشرين لرحلة جاجارين التاريخية.
22
كان للمكوك حتما مميزات بقدر ما له عيوب بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ فمن ناحية، كان بمثابة أعجوبة تكنولوجية، فهو أول مركبة فضائية مأهولة قابلة لإعادة الاستخدام (في معظمها). كما أنه مكن أشخاصا ليسوا من فئة الطيارين من الوصول ببساطة إلى مدار الأرض المنخفض مثل أول امرأة ورائد فضاء من الأقليات (سالي رايد وجاي بلوفورد) في 1983. وأرسلت البعثات الأولى لإصلاح الأقمار الصناعية واستردادها في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، الأمر الذي مهد الطريق أمام إنقاذ وصيانة تليسكوب هابل الفضائي في التسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. كان مكوك الفضاء يحمل مختبرات ومعدات أوروبية الصنع وذراع مناورة كندي الصنع إلى مدار الأرض، علاوة على رواد فضاء من هذه الدول وغيرها. من ناحية أخرى، لم يكن المكوك مجديا اقتصاديا على الإطلاق؛ فعملية تجديد المركبة قبل كل رحلة كانت تكلف وقتا ومالا أكثر بكثير مما كان متوقعا، كما أنه كان خطيرا. كان انفجار «تشالنجر» في 28 يناير 1986 هو أول حادث يقع لمكوك فضائي، ونجم عنه مقتل سبعة رواد فضاء، وتوقف جميع رحلات الفضاء لمدة عامين ونصف العام. وأكد للمؤسسة العسكرية ولمكتب الاستطلاع الوطني ما استنتجاه بالفعل من أن مكوك الفضاء لم يكن منصة إطلاق موثوقا بها لبعثات الأمن الوطني. فيما بعد، أنهى الرئيس ريجان سياسة «وضع البيض كله في سلة واحدة» التي استبدل بموجبها جميع الصواريخ الأخرى، وأوقف تسويق ناسا لعمليات إطلاق الأقمار الصناعية التجارية (التي كانت قد خسرت مبالغ ضخمة، ولم تستطع الوكالة التعتيم على الأمر). لقد أعطى مكوك الفضاء الولايات المتحدة مكانة دولية عظيمة، ولكنه كان يمثل أيضا خسارة فادحة؛ إذ ترك رحلات الفضاء المأهولة عالقة في مدار الأرض المنخفض، حتى إذا كانت مركبات الفضاء الروبوتية الأمريكية تطير في أعماق النظام الشمسي. حافظ مكوك الفضاء على البنية التحتية لرحلات الفضاء المأهولة التي أنشأتها وكالة ناسا من أجل «أبولو»، ولكن بدا في بعض الأحيان أن تلك كانت هي مهمته الأساسية، على الأقل بالنسبة إلى بيروقراطية الوكالة ولرجال الكونجرس الذين كانت لديهم مراكز فضاء أو مقاولون في مقاطعاتهم.
23
شكل 2-2: إطلاق مكوك الفضاء «ديسكفري» في بعثته الأولى في 30 أغسطس 1984. أصبح المكوك هو البرنامج الأساسي لرحلات الفضاء المأهولة بعد الهبوط على القمر وسيطر على سياسة الفضاء الأمريكية في أواخر الحرب الباردة وبعدها. لقد كان ناجحا من الناحية التقنية لكنه فشل في إحداث ثورة في تكلفة رحلات الفضاء (المصدر: وكالة ناسا).
في منتصف وأواخر الثمانينيات من القرن العشرين، بدا أن المنافسة الفضائية العسكرية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تهوي إلى منحدر جديد خطير، ثم فجأة أخذت تلك المنافسة تتلاشى تماما. عندما ألقى ريجان خطاب «حرب النجوم» الشهير في مارس 1983، مطالبا بدفاع صاروخي من الأرض والفضاء ضد الهجوم النووي، هدد بتدمير الوضع القائم من حيث الحفاظ على الفضاء القريب من الأرض عسكريا ولكن غير مسلح. وسبب اضطرابا دوليا ومكن منظمات الفضاء العسكرية السوفييتية من المطالبة بمزيد من الأموال لإنشاء محطات فضائية لمعارك بالليزر وأسلحة مضادة للأقمار الصناعية وأدوات مساعدة القذائف على الاختراق. ويبدو من قبيل المبالغة أن نؤكد على أن ترويج ريجان للدفاع ومبادرة الدفاع الاستراتيجي (التي تعرف اختصارا ب
SDI ) قد دفعا الاتحاد السوفييتي إلى حافة الانهيار، لا سيما وأن الركود والخلل الوظيفي الذي مني به الاقتصاد الاستاليني المخطط كانت لهما جذور عميقة. ولكن مبادرة الدفاع الاستراتيجي تركت انطباعا على قادة الحزب من أمثال ميخائيل جورباتشوف، الذي تصدر المشهد في 1985، ودعمت إقدامه الحثيث على اتفاقيات الحد من التسلح لكي يتمكن من توجيه الأموال إلى الاقتصاد المدني الواهن.
24
وكانت النتيجة هي التخفيف المفاجئ لسرعة سباق التسلح النووي، الذي أعقبه على نحو صادم انهيار الإمبراطورية السوفييتية في أوروبا الشرقية عام 1989 واختفاء الاتحاد السوفييتي نفسه في 1991. ونجم عن ذلك انتهاء سباق الفضاء ثنائي القطب، والتحفيز الملحوظ للإنفاق على برامج الفضاء.
الخلاصة
كان سباق الفضاء في الحرب الباردة هو العامل المؤثر الرئيسي في تاريخ رحلات الفضاء. سارعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وغيرهما من القوى إلى بناء منظمات حكومية وتطوير القدرة الصناعية والخبرة العملياتية اللازمة لدعم طيف واسع من أنشطة الفضاء، لا سيما رحلات الفضاء المأهولة، مدفوعين إلى ذلك بالمنافسة المحتدمة بين القوتين العظميين لإثبات الإمكانيات التكنولوجية والقوة العسكرية. كما أدى السباق إلى تحفيز الاستكشاف العلمي للكون وإلى نمو البنية التحتية العالمية في مدار الأرض، وهو ما ظل باقيا من تلقاء نفسه حتى بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها.
الفصل الثالث
علوم الفضاء واستكشافه
في العقود التالية لعام 1945، تغيرت معرفة الأرض والنظام الشمسي والكون بواسطة الإنجازات المتسارعة لرحلات الفضاء تغيرا جذريا، الأمر الذي أثر تأثيرا ملحوظا على فهم أصلنا ومكاننا في الكون. فما بدأ كفحص مبدئي لطبقات الغلاف الجوي العليا والفضاء القريب، بغرض مساعدة العمليات العسكرية في الحرب الباردة في الأساس، أدى بسرعة إلى الاندفاع نحو استكشاف القمر والكواكب نتيجة لسباق الفضاء، وأيضا إلى إنشاء تليسكوبات فضائية قادرة على المراقبة بأطوال موجية محجوبة بفعل قوة حماية غلافنا الجوي.
استفادت علوم الفضاء أيما استفادة من ثورة مركبات الفضاء الروبوتية غير المنتظرة. فبالنسبة إلى دعاة رحلات الفضاء الأوائل، كان البشر جوهريين للإبحار بمركبات الفضاء، وتوجيه المعدات، وأخذ الملاحظات. وعلى أية حال، كان يفترض أن إرسال البشر إلى الفضاء هدف أساسي في حد ذاته. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، جعل تصغير الإلكترونيات والمعدات القادرة على تحمل الاهتزاز والصدمات ودرجات الحرارة المتطرفة وظروف الفراغ الخاصة بالإطلاق ورحلات الفضاء، مركبات الفضاء الموجهة عن بعد؛ ليست مجدية فحسب، ولكنها أيضا أرخص بكثير من رحلات الفضاء المأهولة، التي كانت تتطلب تقنيات متطورة للغاية لحماية حياة رواد الفضاء والحفاظ عليها. مع ذلك، في بعض الأحيان كان رواد الفضاء ينفذون فعليا مهام علمية في الفضاء، سواء لتلبية متطلبات سياسية، مثل سباق القمر، أو لأن دراسة تكيف جسم الإنسان مع رحلات الفضاء كان هو موضوع العلم في حد ذاته.
1
بينما كانت الحرب الباردة هي الدافع الرئيسي لعلوم الفضاء واستكشافه قبل 1989، ظلت هذه الأنشطة في عنفوانها بعد ذلك، باستثناء ما حدث في روسيا بعد حل الاتحاد السوفييتي. أصبحت علوم الفضاء في الولايات المتحدة مشروعا قائما بذاته؛ إذ أنشئت مؤسسات وصناعات وإمكانيات رآها السياسيون ذات قيمة معتبرة بالنسبة إلى مكانة الولايات المتحدة وإمكانياتها الدفاعية واقتصادها القومي. وبالمثل شرعت حكومات أوروبا الغربية وآسيا في توسيع برامج علوم الفضاء الخاصة بها في الستينيات من القرن العشرين، لنفس الدوافع تقريبا، الأمر الذي مكنها في النهاية من ملء الفراغ الذي خلفه التراجع الهائل للإمكانيات الروسية.
التوغل في الفضاء
في حين وضع روبرت جودارد وفريق بيناموندا خططا لإطلاق معدات في الطبقات العليا من الغلاف الجوي، عهد إلى معامل الحكومة والجامعة الأمريكية بمهمة بدء التجارب في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة. وكانت الموارد في البداية ضعيفة نظرا إلى أن الدولة كانت تحاول إلغاء حشد مواردها. وبدأت سلسلة من التجارب الإضافية في وايت ساندس، ونيومكسيكو، غالبا باستخدام صواريخ «في-2» التي استولي عليها وأعدها أفراد الجيش وجنرال إلكتريك، بمساعدة فريق فون براون الألماني. لم يكن ثمة تمويل يكفي لإنشاء نظم استعادة مظلات، كما خطط الألمان؛ لذلك اجتمع العلماء من معمل أبحاث البحرية الأمريكية، ومختبر الفيزياء التطبيقية التابع لجامعة جونز هوبكنز (الذي يعرف اختصارا ب
APL )، وغيرهم ، معا لصنع معدات تستطيع تحمل صدمة السقوط في الصحراء أو ترسل بعض البيانات اللاسلكية عن موقعها. وكانت حالات الفشل كثيرة للغاية لدرجة أن معظم العلماء الذين كانوا يهتمون في الأساس بإجابة أسئلة حول طبقات الغلاف الجوي العليا أو الفضاء أو الشمس أحجموا عن العمل، مفسحين الطريق للتجريبيين في مجال العلوم والهندسة الذين فتنوا بإنشاء جهاز يعمل على صاروخ.
2
يسرت القوات المسلحة الأمريكية، ثم بعدها بفترة وجيزة نظيرتها في الاتحاد السوفييتي، وبريطانيا، وكندا، وغيرها من الدول؛ تجارب الصواريخ لأنهم أرادوا فهم البيئة التي تعمل بها الطائرات العالية السرعة والصواريخ الموجهة، ولأن ذلك سيلقي الضوء على كيفية تفاعل الأيونوسفير - طبقات الغلاف الجوي العليا المحملة بالجزيئات المشحونة - مع النشاط الشمسي. يعكس الأيونوسفير موجات الراديو، التي أصبحت مهمة للتواصل والدفاع. ركز سباق التسلح أثناء الحرب الباردة على الاهتمام بالمناطق القطبية، لا سيما وأن علم الجغرافيا قرر أن الحرب النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ستشن جزئيا على القطب الشمالي. وحتى قبل أن ينفد مخزون الأمريكان من صواريخ «في-2» في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، شرع معمل أبحاث البحرية ومختبر الفيزياء التطبيقية وغيرهما من المؤسسات في العمل على تطوير صواريخ تجارب أرخص مثل «فايكينج» و«إيروبي». مع احتدام الحرب الباردة، امتدت تجربة الصواريخ إلى السفن في البحر والمناطق القطبية، وخصوصا أثناء السنة الجيوفيزيائية الدولية في 1957 / 1958، مما أدى بدوره إلى أقمار صناعية تستطيع وضع معدات علمية في الفضاء لفترات طويلة، وليس فقط لدقائق معدودة.
من بين علماء صواريخ «في-2» الأوائل الفيزيائي جيمس فان آلان، الذي كان يعمل وقتها في مختبر الفيزياء التطبيقية، ولاحقا في جامعة آيوا. تشي سيرته المهنية بعد الحرب بأصول علوم الفضاء ونشوئها. واصل اهتمامه برفع المعدات لرصد «الأشعة الكونية» - أنوية ذرية عالية السرعة منشؤها الفضاء وقد اكتشفت لأول مرة في 1911 - من «في-2»، إلى صواريخ التجارب الصغيرة التي مولها الجيش، إلى الأقمار الصناعية الأولى «إكسبلورر» و«فانجارد». وساعد في إنشاء صاروخ التجارب «إيروبي»، الذي طور عن صاروخ التجارب «دابليو إيه سي كوربورال» الذي أنشأه مختبر الدفع النفاث وأطلق لأول مرة في أواخر 1945. وفي حفل عشاء أقيم في منزل فان آلان في سيلفر سبرينج بماريلاند عام 1950، أطلقت شرارة إنشاء مشروع السنة الجيوفيزيائية الدولية الذي يتزامن مع أعلى نشاط شمسي يحدث كل أحد عشر عاما. وقد اكتشف فان آلن من خلال تجارب الأشعة الكونية الخاصة به على متن القمر الصناعي «إكسبلورر 1» و«إكسبلورر 3» في 1958 بروتونات وإلكترونات من الشمس محبوسة بسبب الحقل المغناطيسي للأرض. وكونت هذه منطقتين كثيفتي الإشعاع أطلق عليهما بعدئذ «حزاما فان آلان». واستمر في العمل ليصبح باحثا أساسيا في تجارب الجسيمات والحقول على متن العديد من مركبات الفضاء المرسلة إلى مدار الأرض، والفضاء بين الكواكب، والكواكب.
3
لم يكن فان آلان فذا، على الرغم من أن مهنته كانت مهمة على نحو خاص. بدأ الفيزيائيون والكيميائيون والمهندسون، بتمويل من القوات المسلحة لبلدان عديدة قبل 1958، في بناء بنية تحتية مؤسسية سواء قومية أو دولية، لإجراء التجارب العلمية في الفضاء أو عنه. في السنوات الأولى لسباق الفضاء، كان الأيونوسفير والشفق القطبي (أضواء شمالية وجنوبية)، والبيئة القريبة من الأرض هي الموضوعات الأهم للدراسة، بهدف فهم تفاعل الجزيئات الشمسية والإشعاع مع الطبقات العليا لغلافنا الجوي وغلافنا المغناطيسي (المنطقة من الفضاء التي يؤثر فيها الحقل المغناطيسي للأرض). ومولت وكالة ناسا وأكاديمية العلوم السوفييتية مؤسسات جديدة وتجارب جديدة، وكانت أيضا نقطة البدء في برنامج ناسا للتعاون الدولي مع بريطانيا وكندا وأوروبا الغربية والهند وغيرها من الدول. ومن هذه الجهود برز علم الفيزياء الفضائي، الذي سمي مؤخرا الفيزياء الشمسية، والذي يدرس التأثير المسيطر للشمس على البيئة بين الكواكب والفضاء القريب من الأرض.
السباق إلى القمر والكواكب
كما ذكرت في الفصل الثاني، كان أول قمرين من أقمار «سبوتنيك» الصناعية ثمرة لسباق القمر ونجم عنهما تفوق السوفييت ثلاث مرات على الأمريكان في 1959: الحوم بالقرب من القمر، والهبوط عليه، ثم تصوير الجانب البعيد منه. وفيما يتعلق بالعلم والاستكشاف، كانت الثالثة هي الأهم، حيث إن الصور التليفزيونية المنخفضة الدقة التي أنتجها «لونا 3» لم تظهر تقريبا أي سهول لافا مظلمة ومستوية مثل تلك التي تكون معظم الجانب المواجه للأرض. فشلت برامج «بيونير» الأمريكية المنافسة كبعثات للقمر، ولكن ثلاث مركبات فضاء مبكرة أرسلت بيانات فيزيائية فضائية على مسافات قياسية تصل إلى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من الأميال.
انخرطت القوتان العظميان على الفور في سباق مكانة للوصول إلى أقرب الكواكب، الزهرة والمريخ. وهنا انعكس نمط النجاح؛ فكل مركبات الفضاء السوفييتية، التي بلغ عددها تسع عشرة مركبة، التي أطلقت قبل 1966 سقطت ضحية لأعطال أو مشاكل في المعززات الصاروخية أثناء رحلاتها التي تستغرق شهورا للوصول إلى أهدافها. أما مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا، الذي حمل على عاتقه دور المركز الرئيسي الأمريكي لرحلات القمر والكواكب، فقد نجح في محاولتين من أربع محاولات؛ إذ حلق بالقرب من الزهرة في ديسمبر 1962، والمريخ في يوليو 1965. وأكدت تجربة «مارينر 2» الوحيدة أن سطح كوكب الزهرة المغلف بالسحب كان ساخنا لدرجة تذيب الرصاص، ومن ثم فهو غير مأهول. وأعربت الصور الإحدى والعشرون التي التقطها «مارينر 4» عن أن كوكب المريخ كان أقل غرابة، ولكنه لا يزال يبدو مليئا بفوهات البراكين، مثله في ذلك مثل القمر، ومن الصعب العيش فيه. كانت كلتا البعثتين ضربتين قاسيتين مبكرتين للأمل في اكتشاف حياة خارج نطاق كوكب الأرض، على الأقل بأشكال أبسط. لقد كان أكثر ما يثير المواطنين العاديين في دعم استكشاف الكواكب، بصرف النظر عن مكانة دولتهم في سباق القوى العظمى، هو إمكانية وجود حياة على أحدها.
4
في ظل تسارع سباق القمر المأهول، استثمرت كلتا القوتين في بعثات لتحديد خصائص سطح القمر واختيار مواقع الهبوط الممكنة. وأصبحت الأولوية لاستكشاف إمكانية الهبوط، على حساب العلم، خصوصا في الولايات المتحدة، حيث أحبطت سياسة ناسا الكثير من العلماء. وأجرت البعثات المبكرة لمركبة الفضاء «رينجر» التابعة لمختبر الدفع النفاث المزيد من التجارب، بما فيها كرة مغلفة بخشب البالسا «للهبوط القاسي» لمقياس زلازل على سطح القمر. ولكن فشل خمس بعثات متتالية أدى إلى تحقيق الكونجرس مع مختبر الدفع النفاث وإلى اتخاذ قرار بالتركيز على نقل صور للسطح في طريق التصادم. ثم فشلت مركبة الفضاء المبسطة مرة أخرى. وأخيرا، في يوليو 1964، حظيت الولايات المتحدة بأول نجاح لها في مهمة قمرية على متن «رينجر 7»، وتلت ذلك مهمتان أخريان على متن مركبتي «رينجر» أيضا في بداية 1965. كذلك أسقطت ناسا معظم تجاربها من مركبة الهبوط القمري «سيرفيور»، التي نجحت أخيرا، بعد تأخير طويل، في ملامسة القمر لأول مرة في يونيو 1966. ولكن تفوقت عليها مركبة الفضاء السوفييتية «لونا 9»، التي نجحت في الهبوط في فبراير. وأوضحت كلتا البعثتين أن سهول اللافا على الأقل قادرة على تحمل ثقل مركبة فضاء ضخمة، ودحضتا نظرية أن يكون السطح مدفونا تحت قدم واحد من المسحوق الناعم.
5
في العام نفسه، كانت المركبة السوفييتية «لونا 10» أول مركبة تدور في مدار حول القمر، وسرعان ما تبعتها مركبة «لونار أوربيتر» التابعة لوكالة ناسا، التي بدأت برنامج رسم خرائط ناجحا جدا مجهزا بكاميرا مأخوذة من برنامج قمر صناعي تجسسي سري. بعد أن صورت أول ثلاث مركبات في سلسلة «لونار أوربيتر» مواقع هبوط المركبة «أبولو» بدقة عالية، وضعت المركبتان «لونار أوربيتر4» و«لونار أوربيتر 5» في مدارات قطبية أعلى، الأمر الذي جعلهما قادرتين على إنجاز خريطة مصورة شاملة ذات قيمة كبيرة في فهم تاريخ القمر. خلاصة القول إنه على الرغم من أن الاتحاد السوفييتي قد حاز قصب السبق مرات، فإن الولايات المتحدة جمعت بيانات أكثر بكثير ذات قيمة عالية سواء للاستكشاف المأهول أو للعلم.
كان أكثر ما يثير المواطنين العاديين في دعم استكشاف الكواكب، بصرف النظر عن مكانة دولتهم في سباق القوى العظمى، هو إمكانية وجود حياة على أحدها.
في حين تم إقناع الجماهير الأمريكية ببرنامج «أبولو» باعتباره برنامجا علميا من ناحية، ووسيلة لكسب سباق المكانة من ناحية أخرى، كان من الضروري تهدئة المجتمع العلمي لأن من الواضح أن العلم لم يكن هو الهدف المبتغى الأول. في 1958، شكلت الأكاديمية الوطنية للعلوم مجلس علوم الفضاء، مبتكرة أثناء ذلك اسم هذا العلم الجديد. بعد ثلاث سنوات، كان على العالم الأمريكي الرائد لويد بيركنر أن يجتهد لإقناع أعضاء هذا المجلس بدعم قرار الرئيس كينيدي بإنفاق مليارات على برنامج «أبولو»، على أمل أن يجري تمويل برامج العلوم الروبوتية أيضا. وفي ظل قيادة المهندسين للبرنامج المأهول واحتلال الطيارين لجميع المقاعد حتى آخر عملية هبوط على سطح القمر، عندما اعتلى الجيولوجي هاريسون شميت متن المركبة «أبولو 17»، لم يكن واضحا على الإطلاق أن العلم سينال اهتماما كبيرا.
6
لكن الحقيقة المفاجئة هي أن برنامج «أبولو» كان ذا إسهام واضح كبير في علوم النظام الشمسي والقمر، نظرا إلى أن كل عملية هبوط ناجحة كانت توزع على سطح القمر مقاييس زلازل وغيرها من المعدات وتجلب معها عينات شديدة التنوع من الصخور والتربة - بلغ وزنها أكثر من 800 رطل بنهاية البرنامج. وكانت آخر ثلاث بعثات تحمل على متنها طوافات قمرية، مما زاد من نطاق حركة رواد الفضاء، وأتاح لهم الهبوط في مواقع أكثر تحديا وإثارة. التقط جميع الطيارين في المركبات المدارية الأم صورا، ولكن آخر ثلاث رحلات كان على متنها حجرة علمية مخصصة لعمل خرائط مدارية، وتحتوي على أجهزة رادار ومعدات لاكتشاف توزيع العناصر على سطح القمر. وعندما تمت معالجة جميع العينات والبيانات، أتاحت تحديد التواريخ الدقيقة لتكون القمر وملامحه الأساسية. وأوضحت أنه كان يوجد في بداية النظام الشمسي موجات من تصادمات الكويكبات، ملقية الضوء على تكون ونشوء النظام الأرضي-القمري وغيرها من الأجسام الكوكبية.
7
في حين تم إقناع الجماهير الأمريكية ببرنامج «أبولو» باعتباره برنامجا علميا من ناحية، ووسيلة لكسب سباق المكانة من ناحية أخرى، كان من الضروري تهدئة المجتمع العلمي لأن من الواضح أن العلم لم يكن هو الهدف المبتغى الأول.
أثمر التشديد على التقاط الصور من على متن مركبات الفضاء الأمريكية وتحليل العينات التي أعادتها مركبات «أبولو» عن إعادة تشكيل علوم الكواكب في الولايات المتحدة عن طريق توسيع دور الجيولوجيين توسيعا هائلا. دعم تمويل ناسا ازدهار علوم الفضاء بوجه عام، مما أدى إلى توسع عدة مؤسسات جامعية؛ ومنها: قسم جيولوجيا الأجرام السماوية التابع لوكالة الماسح الجيولوجي الأمريكي في فلاجستاف بأريزونا؛ ومرصد سميثونيان للفيزياء الفلكية في كامبريدج بماساتشوستس؛ ومختبر الدفع النفاث في باسادينا بكاليفورنيا؛ ومركز جودارد لرحلات الفضاء وهو أحد مراكز البحث العلمي التابعة لناسا ويقع في ماريلاند، ويركز على الأقمار الصناعية العلمية التي تدور في مدار حول الأرض.
في الاتحاد السوفييتي، أدى حدوث تغييرين مؤسسيين مهمين في 1965 إلى دعم مجتمع علوم الفضاء وبرنامج القمر والكواكب الروبوتي. أسست أكاديمية العلوم السوفييتية معهد أبحاث الفضاء، بتمويل من الوزارة التي كانت تسيطر على مكاتب ومصانع تصميم الصواريخ. وكان يستند إلى عمل معهد فيرنادسكي، الذي كان يركز بشكل جوهري على فيزياء الأرض والجيولوجيا. في ذلك العام نفسه، نقل سيرجي كوروليف البرنامج الروبوتي إلى مكتب تصميمات لافوتشكن، الذي كان يرأسه جورجي باباكين؛ لأن مؤسسته كانت منشغلة للغاية برحلات الفضاء المأهولة ومشروعات الصواريخ الباليستية. كان فريق باباكين قادرا على التركيز على الموثوقية، على الرغم من أنهم كانوا يعانون من مشاكل في مركبات الإطلاق التي توفرها شركات أخرى.
8
أعقب الإنجازات التي حققتها مركبات «لونا» السوفييتية في 1966 سلسلة من النجاحات في كوكب الزهرة. اخترقت «فينيرا 4» بنجاح غلافه الجوي في 1967. وأصبحت «فينيرا 7» في 1970 أول مركبة فضاء تهبط على سطح كوكب آخر وتنقل بيانات منه، بعد أن تمت تقويتها بحيث تتحمل الضغوط الطاحنة للضغط الجوي ودرجات الحرارة الشديدة الارتفاع لسطح كوكب الزهرة. فيما بعد أعادت مركبة الفضاء صورا، على الرغم من عدم استمرار أي مركبات هبوط أكثر من ساعة أو اثنتين بسبب الحرارة الشديدة المحيطة بها من الخارج. وحالف لافوتشكن النجاح في السبعينيات من القرن العشرين في البعثات القمرية؛ إذ رجع بثلاث عينات صغيرة من تربة القمر وتجول بطوافتين على سطحه. من ناحية أخرى، وجد السوفييت كوكب المريخ محبطا؛ إذ فشلت بعثات عديدة للصعود إليه، وفي حين كانت «مارس 3» أول مركبة فضاء تهبط على سطحه، في 1971، فقد توقفت عن العمل تماما بعد هبوطها بعشرين ثانية. ونظرا لأن الولايات المتحدة كانت قد نجحت في الوصول إلى المريخ بمركبة فضاء أكثر تعقيدا، قررت قيادة برنامج الفضاء السوفييتي أن تركز على المنطقة الوحيدة التي حالفها النجاح فيها ، وهي كوكب الزهرة.
9
شكل 3-1: كارل ساجان يقف مع نموذج لمركبات الهبوط «فايكينج» التي قامت عام 1976 بأول عملية هبوط ناجحة على سطح المريخ، وأظهرت أنه لا توجد أشكال حياة يمكن اكتشافها بسهولة هناك. كان ساجان أحد علماء البعثة الرئيسيين، ولكنه كان أيضا أهم مروج لرحلات الفضاء وعلم الفلك والحياة خارج كوكب الأرض بعد عام 1970 (المصدر: ناسا/مختبر الدفع النفاث).
من الجانب الأمريكي، عزز سباق الفضاء ما سمي وقتها «العصر الذهبي لاستكشاف الكواكب» الذي استمر من السبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، كانعكاس للاستثمارات التي بذلت في الستينيات، حتى بعد خفض ميزانيات ناسا. أسفر القمر الصناعي «مارينر 9» التابع لمختبر الدفع النفاث، الذي أصبح في عام 1971 أول قمر صناعي يتخذ مدارا حول المريخ ويرسم خريطة عامة له، عن منظر غاية في الإثارة والأهمية علميا، إذ ظهرت براكين عملاقة ووديان وأدلة على ماض سحيق حفرت فيه الفيضانات الغزيرة قنوات عديدة. حقق برنامج «فايكينج» نجاحا فنيا باهرا في صيف 1976 بمركبتين مداريتين تحملان مركبتي هبوط صممت جميعها في مركز لانجلي التابع لوكالة ناسا؛ إذ أدت المركبات الأربع مهامها بنجاح. ركزت مركبتا الهبوط على اكتشاف حياة، ولكن رغم بعض الجدل المثار، اتفق المجتمع العلمي بأسره على عدم اكتشاف أي حياة على سطح المريخ. وما يدعو إلى السخرية أن هذه النتيجة كانت كفيلة بأن تئد اهتمام العامة والعلماء على حد سواء باستكشاف المريخ لجيل كامل.
10
إبان تلك الفترة، وصلت مركبة الفضاء «مارينر 10» إلى عطارد في 1974 من خلال رحلة قامت بها للتحليق بالقرب من كوكب الزهرة - فكانت أول مركبة فضاء تحلق في مسارات «الجاذبية المساعدة». ونجحت «بيونير 10» و«بيونير 11» في الوصول إلى المشتري، بينما نجحت «بيونير 11» في الوصول إلى زحل بمساعدة «المشتري». وكان الإنجاز الأعظم هو ذلك الإنجاز الذي حققه برنامج «فويدجر». وصلت مركبتا فضاء أطلقتا في 1977 إلى هذين الكوكبين بين عامي 1979 و1981؛ من ثم حلقت «فويدجر 2» بالقرب من أورانوس في 1986 ونبتون في 1989. كانت كلتاهما، مثل مركبتا «بيونير»، تسيران بسرعة كبيرة في مسارات للخروج من النظام الشمسي. وفي 2012، اكتشفت «فويدجر 1» نهاية نطاق تأثير الرياح الشمسية وقاست الجسيمات والحقول المغناطيسية بين النجوم. كل هذه المهام كانت إنجازات مذهلة للولايات المتحدة، التي وصلت إلى كل الكواكب الكبرى، فيما عدا بلوتو (الذي اعتبر فيما بعد كوكبا قزما) بحلول نهاية الحرب الباردة. وخلفت كل هذه الرحلات ثروة ضخمة من المعلومات حول الكواكب والأقمار الجليدية الخاصة بالكواكب الغازية العملاقة، الأمر الذي وسع نطاق معرفة أصل النظام الشمسي ونشوئه.
علم الفلك الفضائي
إن فكرة وضع تليسكوب في الفضاء فكرة قديمة، حيث أصبح واضحا في القرن التاسع عشر أن الغلاف الجوي المضطرب للأرض يحد من الرؤية. وقد تخيل العديد من رواد الفضاء الأوائل مثل هذا التليسكوب دائما كمرصد يديره الإنسان في الفضاء. ونظرا إلى حالة التكنولوجيا قبل عام 1950، لم يكن بوسعهم تصور تليسكوب يعمل عن بعد، كما أنهم لم يتوقعوا التأثيرات الثورية على المجال التي ستتأتى من فتح الطيف الكهرومغناطيسي بأكمله، من أشعة جاما العالية الطاقة إلى ترددات الراديو الطويل الموجة.
بدأ علم الفلك الفضائي، على غرار فيزياء الفضاء، بالرحلات التي أرسلت فيها صواريخ «في-2» بعد الحرب. والتقطت إحدى تجارب معمل أبحاث البحرية الأمريكية في أكتوبر 1946 الصور الأولى لطيف الأشعة فوق البنفسجية للشمس بأطوال موجية يحجبها الغلاف الجوي. في خمسينيات القرن العشرين، وبصواريخ تجارب أصغر وأرخص وحمولات قابلة للاسترجاع، قام العلماء باستكشافات مبدئية للشمس والسماء بالأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية. لكن الأدوات كانت صغيرة، وكانت دقة الصورة ضعيفة، ودقة الإشارة منخفضة، لذلك لم يكن بإمكانهم سوى جمع بيانات مسح أولية حول ما ينبعث بتلك الأطوال الموجية.
11
كما هو الحال في قطاعات أخرى، كان سباق الفضاء سببا جوهريا في التحول؛ لأنه حرر فجأة أموال الدولة لبناء مركبة فضاء فلكية لم يكن ليتم تمويلها لولا ذلك. كانت الولايات المتحدة في الصدارة، بينما استثمر السوفييت أموالا أقل، ربما بسبب نقص الموارد أو الأولوية السياسية. وبحلول السبعينيات من القرن العشرين، أصبحت مؤسسات علوم الفضاء الأوروبية واليابانية عنصرين فاعلين مهمين أيضا.
بعد وقت قصير من تشكيلها، وضعت ناسا خططا لسلسلة من مراصد الفضاء: الجيوفيزيائية والشمسية والفلكية. تضمنت المركبة الفضائية الشمسية قسما يتجه باستمرار نحو الشمس، مما يوفر بيانات أكثر دقة حول غلافها الخارجي الحار جدا والعواصف والانفجارات التي حدثت على سطحها الظاهري أو فوقه. كانت المراصد الفلكية المدارية (
OAO ) هي الأكبر والأصعب. وقد كافحت الجامعات والشركات من أجل الوفاء بالمتطلبات الملحة للمعدات في نطاقات أطوال موجية وأنظمة تحكم جديدة يمكنها توجيه التليسكوب بدقة إلى موقع سمائي واحد لفترات أطول. ولم يكن من الممكن تحقيق أي من المهمتين بدون الاستثمار الضخم للحرب الباردة في التقنيات العسكرية الموازية.
12
فشل المرصد الفلكي المداري الأول بشكل كارثي بعد فترة وجيزة من الوصول إلى المدار في عام 1966. وحمل المرصد الفلكي المداري الثاني في عام 1968 تجربتين تليسكوبيتين، واحدة من جامعة ميشيجان والأخرى من مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية في نفس الموقع مع جامعة هارفرد في كامبريدج، ماساتشوستس، منذ عام 1955. أخذ عالم الفلك من جامعة هارفرد فريد ويبل برنامج سميثسونيان البائد تقريبا ووسعه إلى أكبر مؤسسة فلكية في العالم في أقل من عقدين من خلال الاضطلاع بكل المشروعات التي لها صلة بالفضاء والتي يمكنه الحصول عليها. وعلى النقيض من ذلك، كان مديرو المراصد الأرضية الأمريكية الكبيرة لا يزالون يسيطرون على المجال الفلكي ويولون اهتماما ضئيلا بعلم الفلك الفضائي أو بالدعم والرعاية الحكومية، وهو ما لم يكن متاحا لهم تاريخيا.
13
لم يقبل علماء الفلك إلا متأخرا ظهور علم الفلك الراديوي بعد الحرب العالمية الثانية، الذي عززه توفر الخبرة وتكنولوجيا الرادار. والآن أصبح هناك توسع في نطاق الطول الموجي بأكمله، وهو الأمر الذي نشأ من الصعود فوق الغلاف الجوي للأرض. وبحلول السبعينيات من القرن الماضي، جعلت مزايا فهم الظواهر الفلكية - لا سيما فيما يتعلق بالأطوال الموجية للأشعة فوق البنفسجية عالية الطاقة والأشعة السينية وأشعة جاما التي تنتجها العمليات العنيفة في الكون - تحول المجال الفلكي أمرا حتميا وصحيا.
نظرا إلى أن المشروعات الفضائية والمشاريع الأرضية قد أصبحت أكبر حجما وأكثر تكلفة، فقد أجبرت أيضا المجال الفلكي على تغيير سلوكه السياسي لضمان الحصول على تمويل الحكومة الأمريكية. وعمل المدافعون عن فكرة وجود تليسكوب فضائي كبير على تعبئة التحالف بين رواد الفضاء من خلال الدفاع عن دقته العالية للغاية وقدرته على الوصول إلى أعماق الكون بمجرد إزالة التأثيرات الضبابية للغلاف الجوي. هددت الخلافات في المجتمع العلمي حول قيمة هذا المشروع التي تصل إلى مليار دولار بوأد المشروع في أوائل السبعينيات من القرن العشرين. بل إن الكونجرس قام ذات مرة بإلغاء كل التمويل المخصص لهذا المشروع. ووصلت للفلكيين رسالة مفادها أن عليهم أن يتحدوا وأن يتحالفوا مع مراكز وكالة ناسا، ومصانع الفضاء الجوي، والسياسيين الذين قد تستفيد مناطقهم، إذا أرادوا الحصول على تمويل لهذا المشروع. لقد تعلم علماء الكواكب نفس الدرس قبل ذلك بقليل. كان كل من برنامجي «فايكينج» و«فويدجر» نسخا أقل طموحا من مشاريع وكالة ناسا التي ألغاها الكونجرس أو إدارة نيكسون بسبب الميزانيات الكبيرة جنبا إلى جنب مع المعارك الداخلية الدائرة في المجتمع العلمي.
14
تمت الموافقة على التليسكوب الفضائي في عام 1977 مع مرآة رئيسية أصغر إلى حد ما وأطلق عليه اسم «تليسكوب الفضاء»، بمشاركة وكالة الفضاء الأوروبية لتوزيع التكلفة. وليس من قبيل المصادفة، أن حجم 94 بوصة (2,4 متر) كان متاحا من مقاولي الأقمار الصناعية الخاصة بالتجسس الذين يعملون في مكتب الاستطلاع الوطني - واختارت وكالة ناسا المقاولين نفسهما، لوكهيد وبيركين إيلمر، لبناء التليسكوب. ويمكن أيضا استيعاب هذا الحجم بسهولة أكبر في غرفة الحمولة الخاصة بمكوك الفضاء الذي كانت ناسا بصدد تطويره في ذلك الوقت. كانت الوكالة ملتزمة بمحاولة جعل المكوك هو نظام الإطلاق الوحيد في البلاد، ولكنها كانت تطمح أيضا إلى تحويل رواد الفضاء إلى فنيين يمكنهم إصلاح الأقمار الصناعية وتحديثها في مدار الأرض المنخفض. وقد كانت تلك الاستراتيجية باهظة الثمن، لكنها في النهاية أنقذت تليسكوب هابل الفضائي (
HST )، كما أطلق عليه لاحقا، ومنحته حياة أطول وذات مردود علمي أكبر.
كما اتخذ علم الفلك الشمسي مسارا شكله برنامج الفضاء المأهول؛ إذ ألغت وكالة ناسا مركبة فضائية شمسية أكثر تقدما في منتصف الستينيات لصالح مرصد «أبولو تليسكوب ماونت» الشمسي، الذي سيصبح جزءا من محطة سكايلاب الفضائية التي تم إطلاقها في عام 1973. لقد تأخر إنشاؤه لسنوات وتكلف مبالغ أعلى بكثير من النسخة الآلية، لكن رواد الفضاء في أطقم المحطة الثلاثة جمعوا صورا عالية الدقة رائدة للشمس عبر أطوال موجية متنوعة. لقد وضع هذا المرصد مخططا للعلوم الشمسية لبقية السبعينيات من خلال تقديم رؤى جديدة حول كيفية عمل المناطق الخارجية من الغلاف الجوي للشمس. كانت المركبة الفضائية الكبيرة التالية هي «سولار ماكسيمم ميشن» (
SMM )، التي جرى إطلاقها في عام 1979 لتواكب أحدث ذروة في النشاط الشمسي، وهو هدف غاب عن الدورة السابقة بسبب جميع التأخيرات التي منيت بها محطة «سكايلاب». تم تصميم «سولار ماكسيمم ميشن» (
SMM ) بشكل نمطي بحيث يمكن لرواد الفضاء إصلاحها. وجاء ذلك مفيدا عندما حدث فيها عطل بعد أقل من عام. في عام 1984، قام رواد فضاء المكوك بإصلاحها، واكتسبوا خبرة من شأنها أن تكون ذات قيمة بالنسبة إلى هابل، ولكن في هذه الحالة كان من الأرخص إطلاق المزيد من المركبات الفضائية مقارنة بإنفاق مئات الملايين من الدولارات المطلوبة لإطلاق مكوك لإصلاح قمر صناعي واحد.
15
شكل 3-2: أطلق تليسكوب هابل الفضائي من مكوك الفضاء «ديسكفري» في 25 أبريل 1990. وتبين أن تليسكوب هابل الفضائي لديه عيوب خطيرة، ولكن إصلاحات رواد الفضاء وتحديثاتهم سرعان ما حولته إلى أكثر المركبات الفضائية العلمية إنتاجية وأهمية على الإطلاق في مدار الأرض. وقد قدم إسهامات جوهرية في فهم أصل الكون ونشأته (المصدر: وكالة ناسا).
شهدت الثمانينيات أيضا توسعا كبيرا في علم الفلك في نطاق الأشعة تحت الحمراء، تحت الأطوال الموجية التي تراها العين المجردة، التي تنبعث عادة من الأجسام الأكثر برودة في النظام الشمسي والكون، مثل النجوم الحمراء، وسحب الغبار، والكويكبات، والمذنبات. وقد شجعت الحرب الباردة تطوير كاشفات الأشعة تحت الحمراء للصواريخ والأقمار الصناعية، بما في ذلك نسخ من جهاز اقتران الشحنات (
CCD ) على رقاقة من السيليكون حلت فيما بعد محل الفيلم في الكاميرات للاستخدام المدني. لكن الأمر استغرق بعض الوقت حتى يتم رفع السرية عن تلك الكواشف لاستخدامها في علوم الفضاء، ولذلك لم يؤت علم الفلك بالأشعة تحت الحمراء ثماره إلا في وقت متأخر عن العمل العالي الطاقة. وفي عام 1983، أطلقت وكالة ناسا القمر الصناعي الفلكي بالأشعة تحت الحمراء، بإسهامات كبيرة من هولندا وبريطانيا. وقد وفر هذا القمر أول مسح في السماء بالكامل للأجسام المرئية في ذلك النطاق، واكتشف العديد من الكويكبات والمذنبات، والنجوم ذات الأقراص المعتمة حولها، والمجرات البعيدة التي تحول ضوءها إلى الأشعة تحت الحمراء من خلال تمدد الكون. أدى نجاح هذا القمر الصناعي إلى سعي وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية الحثيث إلى بناء تليسكوبات الأشعة تحت الحمراء الجديدة التي سيتم إطلاقها في التسعينيات من القرن العشرين وما بعدها.
16
بحلول الثمانينيات، ساعدت إسهامات التليسكوبات الفضائية، مدفوعة بسباق الفضاء خلال الحرب الباردة وبدعم من تطوير التكنولوجيا العسكرية، في تحويل علم الفلك والفيزياء الفلكية تحولا جذريا. كما كان للاستثمارات الضخمة في المراصد البصرية والراديوية الأرضية أهمية مماثلة، وقد استفادت تلك التليسكوبات أيضا من نفقات الحرب الباردة وتطوير التكنولوجيا. نتيجة لهذا الهجوم الأرضي والفضائي المشترك، تحسن فهمنا لأصول ونشأة الشمس والنظام الشمسي والكون بشكل ملحوظ، مما أنتج مجموعة جديدة كاملة من الأسئلة ليتم التحقيق فيها.
بحلول الثمانينيات، ساعدت إسهامات التليسكوبات الفضائية، مدفوعة بسباق الفضاء خلال الحرب الباردة وبدعم من تطوير التكنولوجيا العسكرية، في تحويل علم الفلك والفيزياء الفلكية تحولا جذريا.
علوم الحياة والأرض
سيطر على علوم الحياة في الفضاء منذ البداية غرضان لا علاقة بينهما؛ تأثير رحلات الفضاء على الكائنات الحية، والبحث عن حياة خارج كوكب الأرض. اهتم برنامج الفضاء المأهول بالغرض الأول، وكان هذا الغرض هو الدافع الرئيسي في إرسال الحيوانات في رحلات الفضاء المبكرة ليخضعوا للبحث. ومع تزايد فترات البعثات الفضائية من ساعات إلى أسابيع في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، انتقل الانتباه من الأسئلة الأساسية حول ما إذا كان رواد الفضاء يمكنهم تحمل رحلات الفضاء إلى التركيز على تأثير انعدام الجاذبية على جسم الإنسان. ومنذ وقت مبكر وتحديدا منذ بعثات مركبة الفضاء «جميني» في عام 1965، أصبح من الواضح أن انعدام الوزن لفترات طويلة يتسبب في فقدان الجسم للكالسيوم من الهيكل العظمي، ضمن مخاوف أخرى.
أصبح البحث طويل الأمد حول تأثيرات انعدام الجاذبية، وتأثير التمارين الرياضية وطرق أخرى لتحسينهما، مجال اهتمام رئيسيا في برامج المحطة الفضائية للقوتين العظميين منذ السبعينيات فصاعدا. بعد مهام محطة «سكايلاب» الفضائية الثلاث التي تصل إلى أربعة وثمانين يوما، اقتصرت الولايات المتحدة على إرسال رحلات مكوكية لا تزيد عن ثمانية عشر يوما، على الرغم من أنه يمكن وضع وحدة «المختبر الفضائي» المنشأة في أوروبا في غرفة الحمولة، مما يسمح بسلسلة متطورة للغاية من المهام البيولوجية التجريبية التي لم تركز فقط على البشر. وعلى النقيض من ذلك، أطلق السوفييت مهام محطتي الفضاء «ساليوت» و«مير» المأهولتين التي استمرت لعدة أشهر بحلول منتصف الثمانينيات، وفي التسعينيات من القرن العشرين، وطار رواد الفضاء في بعثات للفضاء استمرت لمدة تصل إلى عام - وهي بعثات لا مثيل لها حتى احتلال محطة الفضاء الدولية بعد عام 2000. وكانت النتيجة مجموعة كبيرة من البيانات الطبية حول التكيف البشري مع انعدام الجاذبية.
سيطر على علوم الحياة في الفضاء منذ البداية غرضان لا علاقة بينهما؛ تأثير رحلات الفضاء على الكائنات الحية، والبحث عن حياة خارج كوكب الأرض.
كان البحث عن حياة خارج كوكب الأرض موضوعا له القدر نفسه من الأهمية، ولكن وكالة ناسا ووكالات الفضاء الأخرى لم تخصص له، في معظم الأحوال، سوى نفقات ضئيلة. والسبب البسيط هو أنه لا يوجد شيء للدراسة، حيث لم تكتشف حياة في وقت مبكر من سباق الفضاء. في الولايات المتحدة، كان الاسم الرسمي الأول لهذا النشاط هو علم البيولوجيا الخارجية، لكن العديد من علماء البيولوجيا كانوا يتهكمون على هذا المجال قائلين إن أي شخص يدخل فيه سوف يصبح عالم بيولوجيا سابقا. لم يكن هذا منصفا للتجارب التي أجريت منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين حول الكيفية التي قد تفضل بها كيمياء الأرض المبكرة تكوين الحياة، ولكن في الواقع كان جزء كبير من هذا المجال يعتمد على التخمين . جرى تخصيص أول نفقات كبرى لوكالة ناسا للحزم البيولوجية على مركبات «فايكينج» التي جرى إطلاقها في عام 1975. وقد أسفرت هذه التجارب المصغرة الرائعة عن نتائج سلبية أو غامضة بشكل محبط يبدو أنها من المحتمل أن تكون قد أنتجت بواسطة كيمياء السطح غير البيولوجية على كوكب المريخ. والآن بعد أن أدركنا ما حدث، يجدر بنا أن نقول إن البحث عن حياة في كائن وحيد الخلية شبيهة بالحياة على الأرض في تربة جافة مغمورة بأشعة الشمس فوق البنفسجية والإشعاع الكوني، هو في أفضل الأحوال أمر شديد التفاؤل، ولكنه مؤشر واضح على ما وصل إليه هذا المجال في السبعينيات. ثم جاء منعطف جديد في التسعينيات، حيث فتحت اكتشافات «أليف الظروف القاسية» - أشكال غريبة من حياة الأرض تعيش في بيئات تبدو غير قابلة للسكن مثل المياه الشديدة السخونة والحمضية حول الفتحات البركانية تحت سطح البحر - المجال أمام إمكانات جديدة. مستشعرة الحاجة إلى تغيير اسم هذا المجال، بدأت وكالة ناسا في تسميته «البيولوجيا الفلكية».
17
تطورت علوم الأرض في المقام الأول من الاهتمامات العملية، مثل التنبؤ بالطقس وإدارة استخدام الأرض والبحر بشكل أفضل. وتبعت سلسلة «نيمبوس» للأبحاث الجوية والمحيطية التي أطلقتها وكالة ناسا أول أقمار صناعية للطقس في الستينيات من القرن العشرين، وبدأت سلسلة «لاندسات» عام 1971 وأظهرت قيمة التصوير المتعدد الأطياف لسطوح الأرض. وتبع ذلك المركبات الفضائية السوفييتية والأوروبية واليابانية. وعندما أثبتت المركبات الفضائية الآلية أنها قادرة على جمع البيانات العلمية، فإنها عززت ازدهار «علم أنظمة الأرض» في الثمانينيات، كذلك أسهم استكشاف الكواكب أيضا. واستفادت أجهزة الاستشعار عن بعد من تطوير التكنولوجيا في ذلك البرنامج، وساعدت بيانات الغلاف الجوي لكوكب الزهرة والمريخ في تحفيز ازدهار علم الكواكب المقارن، ملقية الضوء على تطور الأرض والعمليات العالمية.
18
من الناحية السياسية، فإن القلق المتزايد بشأن تأثير الملوثات على طبقة الأوزون، التي تحمي الأرض من أشعة الشمس فوق البنفسجية، وتأثيرات غازات الدفيئة على المناخ العالمي، أدى إلى زيادة الميزانيات. بدأت وكالة ناسا في صياغة «مهمة إلى كوكب الأرض» في عام 1987، في البداية مع منصات ضخمة، ربما تكون مأهولة. ولكن بدأت تزدهر في التسعينيات وما بعدها مشاريع الأقمار الصناعية الأصغر والأكثر مراعاة للميزانية، مدعومة بمركبات فضائية من دول أخرى. ومثل مجالات علوم الفضاء الكبرى الأخرى، أدى نمو البرامج والمؤسسات المتشابكة المتعددة في علوم الأرض إلى تعزيز مجتمع عالمي نابض بالحياة، من خلال كل من برامج التعاون الدولي الرسمية والتبادلات غير الرسمية العابرة للحدود بين العلماء والمعاهد والشركات والوكالات.
علم الكواكب وعلم الفلك في أواخر الحرب الباردة وما بعدها
على الرغم من أن رحلات «فويدجر» بالقرب من الكواكب الخارجية أظهرت أن الاستكشاف كان مزدهرا، فإن الثمانينيات كانت في الواقع أوقاتا مضطربة بالنسبة إلى برنامج ناسا الكوكبي. أعقبت الميزانيات الضعيفة في أواخر السبعينيات محاولة إدارة ريجان عام 1981 لإلغاء البرنامج بأكمله، وإبعاد مختبر الدفع النفاث، وإعطاء المال لمكوك الفضاء. ساعد أعضاء الكونجرس الذين يمثلون المراكز أو المقاولين المهددين في درء تلك السيناريوهات. على أية حال، أدت السياسة الوطنية التي تفرض وضع جميع الحمولات على متن المكوك إلى التسبب في إحداث تأخيرات كبيرة وزيادات في الميزانية للبعثات القليلة قيد التطوير. وبعد تحطم «تشالنجر» في عام 1986، تأخرت جميع عمليات الإطلاق ثلاث سنوات، ومن ثم لم ترسل ناسا أي مركبة فضائية كوكبية جديدة نحو السماء بين عامي 1978 و1989. وفي ضربة لهيبة الولايات المتحدة، لم تستطع الوكالة تحمل تكلفة اعتراض المذنب هالي أثناء عودته البارزة 1985-1986، بينما حلق السوفييت بالقرب منه بالاستعانة بنسخة من مركبة «فينوس» الضخمة، كما أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية أول مسبار لها بين الكواكب، «جوتو»، والتقطت أول صور مقربة لنواة مذنب جليدية.
19
تأخر تليسكوب هابل الفضائي، الذي كان متأخرا بالفعل ومتجاوزا للميزانية المقررة له بسبب تعقيده، أربع سنوات أخرى بسبب كارثة انفجار «تشالنجر». كان ذلك نعمة مقنعة؛ لأنه كان يمكن أن يفشل تماما إذا لم تتم ترقية الأنظمة الرئيسية في فترة الانتظار تلك. عندما أطلق هابل في المدار عام 1990، أصبح مثارا للإحراج الوطني؛ فقد تبين أن المرآة الرئيسية قد جرى ضبطها على الشكل الخطأ، مما يجعل الصور ضبابية قليلا. وكانت وكالة ناسا قد ألغت طريقة اختبار بصري ثانية في أوائل الثمانينيات لتوفير المال. كان تليسكوب هابل لا يزال أداة علمية قابلة للاستخدام، لكنه أضر بمصداقية وكالة ناسا، على الأقل حتى قام رواد الفضاء في المكوك بمهمة إصلاح رائعة في نهاية 1993.
20
من ناحية أخرى، كان علم الفلك أيضا هو المستفيد حين زادت الإدارات الجمهورية ميزانية ناسا في أواخر الثمانينيات. نجحت الوكالة في جمع هابل وثلاث مهام أخرى في برنامج وأسمته برنامج «المراصد الكبرى». وهذه المراصد هي مرصد كومبتون لأشعة جاما (جرى إطلاقه عام 1991)، ومرصد تشاندرا للأشعة السينية (جرى إطلاقه عام 1999)، وتليسكوب سبيتزر الفضائي (الذي عرف سابقا باسم مرفق التليسكوب الفضائي بالأشعة تحت الحمراء) (جرى إطلاقه عام 2003). كما ازدهرت مهام أصغر من عدة دول في الثمانينيات والتسعينيات. فعلى الجانب السوفييتي، أطلق السوفييت تليسكوبين متوسطي الحجم عاليي الطاقة في المدار خلال الثمانينيات، كما أرسلوا معدات تعمل بواسطة رواد فضاء ملحقة بمحطة «مير» الفضائية.
لسوء الحظ، انخفضت قدرة علوم الفضاء الروسية بشدة إثر الأزمة الاقتصادية وانهيار الاتحاد السوفييتي. لم تعد هناك بعثات فلكية تغادر الأرض حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وانهار برنامج الكواكب، نظرا إلى تقويض قدرة مكتب تصميمات لافوتشكن بسبب نقص التمويل. في عام 1988، أطلق السوفييت مركبتي «فوبوس» الفضائيتين لتصوير المريخ والاقتراب من القمر المريخي الذي يحمل الاسم نفسه. فشلت إحدى المركبتين في العبور، بينما تحطمت الأخرى في المدار قبل وقت قصير من وصولها إلى القمر الصغير. وأجريت محاولة أخرى لإتمام مهمة «فوبوس» في عام 1996، بالتعاون بين وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، ومحاولة أخرى في عام 2011، بمشاركة صينية، ولكن كلتيهما فقدتا أثناء الإطلاق بسبب ضعف مراقبة الجودة في صناعة الفضاء الروسية. بعد ذلك ركز قادة الدولة بدلا من ذلك على إبقاء برنامج رحلات الفضاء المأهولة نابضا بالحياة، مدعوما بالمال الأمريكي بعد أن دمج البلدان برامج محطات الفضاء الخاصة بهما في 1993-1994.
21
إذا كانت نهاية الحرب الباردة مدمرة بالنسبة إلى علوم الفضاء السوفييتية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فقد كانت آثارها على الولايات المتحدة أكثر وضوحا. مع انتهاء سباق الفضاء، انخفضت ميزانية وكالة ناسا تدريجيا خلال التسعينيات، وتفاقم الانخفاض نتيجة للإحراج الذي منيت به بسبب عطل تليسكوب هابل، وأيضا نتيجة لسمعتها بأنها قد أصبحت بطيئة وبيروقراطية. إلا أن علوم الفضاء الأمريكية واصلت تقدمها وازدهارها، مما يشير إلى أنها قد خلقت زخمها المؤسسي والسياسي الخاص بها. تعتمد مراكز الفضاء والجامعات والمؤسسات غير الربحية وشركات المقاولات والوكالات على استمرار التمويل الحكومي، وقد كان السياسيون سعداء بوجود وظائف عالية التقنية ذات أجور عالية في مقاطعاتهم. كما حافظت الاستثمارات في علوم الفضاء على استدامة الريادة التكنولوجية الوطنية، التي دلت عليها التداعيات في مجال الدفاع وأيضا البعثات الناجحة، ومن ثم حققت للولايات المتحدة هيبة ومكانة على المستوى الدولي.
ومع ذلك، فإن الجمع بين عدم الرضا السياسي ببيروقراطية ناسا وضغوط الميزانية أجبر الوكالة على إصلاح برامج علوم الفضاء الخاصة بها في التسعينيات. في عام 1992، أحلت إدارة بوش الأولى دانيال جولدين - مدير تنفيذي هندسي من شركة مقاولات دفاعية كبيرة - محل مدير ناسا ريتشارد ترولي الذي كان رائد فضاء سابقا. وقد استمر جولدين خلال فترتي رئاسة بيل كلينتون بسبب تغييره الهائل للوكالة. سرعان ما وصف برنامج جولدين بأنه «أفضل وأسرع وأرخص»؛ لأنه كان يهدف إلى تخفيض الهيكل الهرمي للوكالة وتقليل الأعمال الورقية وتقليل مجالس المراجعة وزيادة المخاطرة، بناء على الخبرات المكتسبة من مبادرة الرئيس ريجان القصيرة الأمد المعنية بالدفاع الصاروخي في الفضاء والتي أطلقت في الثمانينيات.
22
كذلك تأثر برنامج الكواكب الخاص بناسا تأثرا ملحوظا. وكانت مبادرات الإصلاح قد بدأت من قبل تولي جولدين زمام الأمور، بسبب التجارب غير السعيدة التي منيت بها ناسا في الثمانينيات. وقد استهلك جزء كبير من ميزانية علوم الكواكب لسنوات عديدة في مشروعين لإنشاء مركبتي فضاء كبيرتين، وفي مهمة رادار ماجلان للكشف عن سطح كوكب الزهرة الذي تغلفه سحابة من الغازات، وأيضا في جاليليو المركبة المدارية ومسبار الغلاف الجوي التي أرسلت لدراسة كوكب المشتري. وأضافت السياسة المكوكية الخاصة بوكالة ناسا وحادث انفجار «تشالنجر» مزيدا من النفقات والتأخير، على الرغم من نجاح كل من المركبتين الفضائيتين بعد أن عانتا من أعطال خطيرة في الرحلة. وفي الوقت نفسه، أجريت محاولة لإنشاء مركبة فضائية منخفضة التكلفة، ولكن هذه المحاولة تجاوزت الميزانية المحددة وأنتجت مركبة فضائية واحدة فقط: «مارس أوبزيرفر»، التي انفجرت قبل وصولها إلى الكوكب مباشرة في عام 1993.
كانت المحاولة الثانية لخفض التكاليف أكثر نجاحا. أتاح برنامج «ديسكفري»، الذي صدق عليه الكونجرس في العام نفسه، لاستكشاف الكواكب، بعثات أقل تكلفة وأكثر ابتكارا، اختيرت بعد التنافس بين فرق العلوم والهندسة. أصبح مختبر الفيزياء التطبيقية التابع لجامعة جونز هوبكنز المنافس الرئيسي لمختبر الدفع النفاث وبنى أول مركبة «ديسكفري» جرى إطلاقها والتي أطلق عليها «ملتقى الكويكبات القريبة من الأرض». وقد حلقت بالقرب من كويكب صغير، ودخلت في مداره وأخيرا هبطت على الكويكب «إيروس» في الفترة 2000-2001. وقد حققت مركبة «مارس باثفايندر»، نظرا إلى تمتعها بمسار أقصر بكثير، هبوطا مبتكرا مريحا في 1997، وفور هبوطها على سطح المريخ خرجت منها طوافة صغيرة بدأت في التجول على سطح الكوكب. وكانت أول مركبة ناجحة تصل إلى الكوكب الأحمر في عقدين.
23
ومع ذلك، فشلت البعثتان التاليتان اللتان أرسلهما مختبر الدفع النفاث إلى كوكب المريخ بشكل محرج في عام 1999، مما يدل على أن القيام بأشياء محفوفة بالمخاطر بتكلفة زهيدة له حدوده. عانى برنامج جولدين «الأفضل والأسرع والأرخص» من انتكاسة سياسية جعلته يحجم عن المخاطرة، وأنهت فترة ولايته في وكالة ناسا بسرعة أكبر. لم تكن هاتان المهمتان المريخيتان جزءا من برنامج «ديسكفري»، ولكن هذا البرنامج دخل في أزمة أيضا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك بفضل الافتراضات الشديدة التفاؤل بشأن التكلفة والجدول الزمني المطلوب للقيام بأشياء أكثر طموحا، مثل صدم مذنب، أو وضع مركبة في المدار حول كوكب عطارد. ومع ذلك، أنتج برنامج «ديسكفري» سلسلة من الرحلات الفضائية، لا سيما للمذنبات والكويكبات، وأثبت قيمة المنافسة. وسعت ناسا نطاق الفكرة بحيث يشمل البعثات المتوسطة الحجم، وفي أواخر عام 2001 أعطت مؤسسة البحث الجنوبية الغربية ومختبر الفيزياء التطبيقية مهمة التحليق بالقرب من كوكب بلوتو، الذي وصل إليه مسبار «نيو هورايزونز» في عام 2014. وفي الوقت نفسه، حصل برنامج «مارس» التابع لناسا على زخم كبير بعد فشل عام 1999، مع سلسلة من المركبات المدارية وثلاث طوافات متجولة تستكشف سطح المريخ، اثنتان منها وهما: «أوبورتيونيتي» و«كيوريوسيتي» لا تزالان تعملان حتى كتابة هذه السطور.
24
على الرغم من الاستثمار الهائل والنجاح الذي لا مثيل له الذي حققته أمريكا في استكشاف الكواكب في فترة ما بعد الحرب الباردة، فيجدر بنا أن نذكر أن أوروبا ثم آسيا قد ظهرتا كلاعبين جادين في هذا المجال، لا سيما بعد عام 2000. حملت المركبة المدارية «كاسيني ساتورن» التابعة لناسا، التي تم إطلاقها في عام 1997، مسبارا أوروبيا هبط على قمر زحل «تيتان» في عام 2005. ونجحت مركبات وكالة الفضاء الأوروبية المدارية التي هبطت على سطح القمر والمريخ والزهرة في مهامها بين عامي 2003 و2006، كما تعاونت الوكالة مع روسيا لوضع مركبة فضائية جديدة حول المريخ في 2016. ووصلت المركبة الفضائية التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية «روزيتا» - أو رشيد - إلى أحد المذنبات في عام 2014، وأسقطت مركبة هبوط صغيرة على سطحه. أما اليابان، التي بدأت بمهمة جسيمات وحقول صغيرة للتحليق بالقرب من مذنب هالي في عام 1986، فنجحت في بعثاتها في القمر، والزهرة، وفي أحد الكويكبات وأحد المذنبات في التسعينيات من القرن العشرين وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبدأ برنامج استكشاف القمر الخاص بالصين ب «تشانج 1» في عام 2007، وفي عام 2015 هبطت «تشانج 3» على سطح القمر وانطلقت منها حوامة صغيرة. كذلك نجحت الهند في الوصول إلى مدار القمر في 2008 والمريخ في 2012.
25
على الرغم من الاستثمار الهائل والنجاح الذي لا مثيل له الذي حققته أمريكا في استكشاف الكواكب في فترة ما بعد الحرب الباردة، فيجدر بنا أن نذكر أن أوروبا ثم آسيا قد ظهرتا كلاعبين جادين في هذا المجال، لا سيما بعد عام 2000.
انكشف النقاب عن قصة مماثلة في علم الفلك الفضائي بعد الحرب الباردة؛ فقد مولت الولايات المتحدة، التي كانت تتمتع بميزانية مدنية مخصصة لعلوم الفضاء أكبر من الميزانيات التي خصصتها أي دولة أخرى للفضاء ، مجموعة من البعثات المهمة إلى الفضاء، في حين بدأ الأوروبيون واليابانيون في اللحاق بالركب. حولت عمليات إصلاح وصيانة وتحديث تليسكوب هابل التابع لوكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية بواسطة رواد الفضاء هذا التليسكوب هابل من مثار سخرية على شاشات التليفزيون إلى مركبة فضاء شهيرة لجمع البيانات الأساسية حول الكون. الجدير بالذكر بشكل خاص هو التوصل، بمساعدة المراصد الأرضية، إلى قياس دقيق إلى حد ما لمدى سرعة تمدد الكون، مما أدى إلى تحديد الوقت الذي انقضى منذ الانفجار الكبير: 13,7 مليار سنة. أنتجت المراصد الكبرى الأخرى كمية هائلة من البيانات عن الثقوب السوداء والنجوم المتفجرة وسحب الغبار والتطور المبكر جدا للمجرات. وأضافت أجهزة التليسكوب الصغيرة والمتوسطة التابعة لوكالة ناسا إسهامات متخصصة، مثل تعيين مواطن الشذوذ في إشعاع خلفية الكون الباهت الذي خلفه الانفجار الكبير، وتشير هذه المواطن إلى بذور أقدم تطور للمجرات والنجوم. بعد تحقيق إنجاز تكنولوجي هائل في المعدات الأرضية التي أثبتت لأول مرة أن الكواكب تدور بالفعل حول نجوم أخرى. عثر تليسكوب «كيبلر» التابع لناسا على آلاف الكواكب الأخرى ولا يزال يفعل ذلك حتى اليوم.
أسهمت وكالة الفضاء الأوروبية في جميع المجالات أيضا، حيث أطلقت بعثات فضاء رائدة مثل «هيباركوس» و«بلانك» لقياس مواضع وحركات الملايين من النجوم في مجرتنا بدقة، مما أسفر عن قياسات دقيقة للمسافات وفهم أفضل للمنطقة المحيطة بالشمس. ابتداء من عام 1979، بدأت اليابان في الدوران حول الأقمار الصناعية الفلكية أيضا، لا سيما المتخصصة في علم الفلك بالأشعة تحت الحمراء والأشعة السينية. وقامت الصين والهند الأقل تطورا اقتصاديا بإنجازات أقل، حيث أعطت كل منهما الأولوية للتطبيقات المدنية أو العسكرية العملية، وللبعثات التي تحقق لهم مكانة دولية، مثل الرحلات إلى القمر والكواكب.
وأخيرا، دعمت الاستثمارات الضخمة التي خصصتها وكالة ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية واليابان شبكة متنامية من الأقمار الصناعية لمراقبة الشمس وانفجاراتها باستمرار. تموضعت بعض هذه الأقمار الصناعية في مدار يبعد مليون ميل عن الأرض، عند نقطة توازن خاصة بين الجاذبية الأرضية والشمسية، مما يسمح بمراقبة دائمة على مدار الساعة للانفجارات الشمسية وانبعاثات الجسيمات المشحونة التي من شأنها أن تؤثر على الغلاف المغناطيسي للأرض. تتسبب أحداث «الطقس الفضائي» هذه في حدوث أضواء الشفق القطبي الرائعة (الأضواء التي تتكون في سماء القطبين الشمالي والجنوبي)، ولكنها تهدد أيضا البنية التحتية المتنامية للأقمار الصناعية في مدار الأرض، ومن خلال التيارات التي تسببها العواصف المغناطيسية، تهدد كذلك البنية التحتية الأرضية مثل شبكات الطاقة الكهربائية. وهكذا تزايد الاندماج بين علم الفلك الشمسي الفضائي والفيزياء الفضائية، اللذين يشتركان في أصل مشترك في رحلات «في-2» بعد الحرب العالمية الثانية، في مجال متعدد التخصصات وصفته ناسا ب «الفيزياء الشمسية». يتم دمج البيانات من تجارب الجسيمات والحقول التي تجريها المركبات الفضائية التي تدور حول الأرض والمركبات بين الكواكب والخاصة بدول متعددة مع عمليات المراقبة الشمسية الأرضية والفضائية، مما يخلق لأول مرة الخطوط العريضة لرؤية شاملة لتأثير الشمس على النظام الشمسي بأكمله.
الخلاصة
ما الذي تعلمته البشرية مما يقرب من خمسة وسبعين عاما من علوم الفضاء واستكشافه؟ كما يتضح من المثال الأخير، تعلمت قدرا هائلا. لقد أدى علم الفضاء، بدعم من ثورة مركبات الفضاء الآلية غير المتوقعة، ولكن في بعض الأحيان أيضا من خلال الاستكشاف البشري المباشر، وبالاقتران مع المراصد والمختبرات الأرضية المتزايدة التطور، إلى الوصول إلى فهم متزايد لتطور كوكبنا، ونظامنا الشمسي ومجرتنا وكوننا بأكمله. ولقد بدأنا أيضا في جمع البيانات حول إمكانيات ومخاطر إرسال البشر إلى أعماق الفضاء، ووضعنا الأساس لاكتشاف الحياة خارج كوكب الأرض، ربما في المستقبل القريب. ولن يحقق إنجاز رحلات الفضاء المفاجئ ما هو أعمق من ذلك. لكن تكنولوجيا الفضاء قد خدمت أيضا غرضا آخر؛ تغيير الحياة على كوكب الأرض من خلال شبكات الأقمار الصناعية التي أصبحت ضرورية في وجودنا اليومي، بصرف النظر عما لهذا من مردود إيجابي أو سلبي.
الفصل الرابع
البنية التحتية للفضاء العالمي
نجم عن سباق الفضاء في الحرب الباردة أيضا بنى تحتية، سواء عسكرية أو مدنية، سرعان ما أصبحت ضرورية للحياة على الأرض؛ فشبكات الأقمار الصناعية والمحطات الأرضية تنتج بيانات الطقس والملاحة، وتدعم الاتصالات العالمية والتليفزيون، وتنتج أيضا صورا ومعلومات استخباراتية، وتساعد في القيادة والسيطرة العسكرية، وفي الإنذار المبكر ضد الصواريخ، وغيرها من التطبيقات التي لم تعد الحكومات ولا العديد من الأفراد، لا سيما في العالم المتقدم، يستطيعون تخيل العيش بدونها. لقد كانت أنظمة الأقمار الصناعية هذه ثمرة أخرى لثورة المركبات الفضائية الآلية التي سمحت بالقيام بالكثير في الفضاء عن بعد.
كان أحد الآثار المهمة لهذه البنية التحتية العسكرية والمدنية زيادة الاستقرار الاستراتيجي بين القوتين العظميين المسلحتين نوويا؛ إذ إن معرفة ما يفعله الآخر جعل الحرب أقل احتمالية، بما في ذلك الحرب في الفضاء. علاوة على ذلك، أصبح كل من الجانبين معتمدين على شبكات الأقمار الصناعية للآخر، مما حفزهما على قبول النظام الواقعي المتمثل في إمكانية عسكرة الفضاء، ولكن ليس تسليحه. وبينما هددت اختبارات الأسلحة الفضائية السوفييتية ومبادرة الدفاع الاستراتيجي للرئيس ريجان بزعزعة استقرار هذا النظام في الثمانينيات من القرن العشرين، أثمرت نهاية الحرب الباردة عن حقبة من الهيمنة الأمريكية العالمية التي فضلت التجنب المستمر للأسلحة الفضائية - على الرغم من أن ذلك لا يمكن ضمانه بأي حال من الأحوال في المستقبل.
كان للظهور السريع للبنى التحتية الفضائية تأثير آخر؛ فبحلول الثمانينيات، كانت البشرية قد ربطت على نحو فعال الفضاء القريب من الأرض لخدمة الكوكب. وأصبحت معظم الأقمار الصناعية مركزة في ثلاث مناطق: (1) مدار الأرض الجغرافي الثابت (
GEO ) على بعد حوالي 22300 ميل، والذي تهيمن عليه أقمار المراقبة والاتصالات العالمية. (2) مدار الأرض المتوسط (
MEO ) على بعد حوالي 11000-12000 ميل، يشغله في المقام الأول مركبة فضاء ملاحية. (3) مدار الأرض المنخفض (
LEO ) على بعد حوالي 1200 إلى 100 ميل، مع قيام الأحمال في المدارات بفعل كل شيء تقريبا. من الناحية العملية، تدور معظم الأقمار الصناعية في تلك المنطقة بين 200 و600 ميل؛ إذ إن ما فوق 600 ميل هو أقوى جزء من حزام إشعاع فان آلن الداخلي، مما يجعل هذه المنطقة غير مستحبة للمركبات التي يفترض أن تظل لمدة طويلة في الفضاء؛ وكذلك ما تحت 200 ميل تقريبا، حيث تؤدي السحب من الذرات المنخفضة الكثافة للغلاف الجوي الخارجي للأرض إلى إسقاط الأقمار الصناعية بسرعة كبيرة، على الرغم من أن الأقمار الصناعية الاستطلاعية العالية الدقة قد تصل إلى ارتفاعات أقل بكثير للحصول على رؤية أكثر وضوحا.
وكما كان الحال في قطاعات الفضاء الأخرى، فإن التدهور المؤقت إلى حد ما في القدرات الروسية بعد الحرب الباردة تم تعويضه وزيادة من خلال الصعود المتواصل لأوروبا الغربية واليابان وكندا والصين والهند. وهذا يعني أن البنية التحتية الفضائية المدنية والعسكرية استمرت في العولمة حتى مع تغذية الشبكات الفضائية للعولمة في العالم.
1
علاوة على ذلك، أدت إيديولوجية الأسواق الحرة التي اكتسبت أهمية جديدة في الغرب في الثمانينيات إلى تسريع تسويق أنظمة الفضاء المدنية. أصبحت الشركات المتعددة الجنسيات، بدلا من الحكومات أو الاحتكارات التي توافق عليها الحكومة، تتحكم في جزء كبير من الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، كما انتقلت خدمات الإطلاق المداري وتصوير الأرض جزئيا إلى القطاع التجاري.
في هذا الفصل، سوف أقسم البنى التحتية الفضائية إلى ثلاث فئات عريضة؛ أصبحت الفئتان الأوليان، وهما المراقبة والاتصالات، هما أهم تطبيقات تركز على الأرض في أوائل عصر الفضاء. لكن الظاهرة الجديرة بالملاحظة في الثمانينيات وما بعدها كانت الاعتماد العالمي المتزايد على خدمات تحديد الموقع والتوقيت من الأقمار الصناعية الملاحية الخاصة بالحكومة والناشئة في الجيش. وهكذا أصبحت الملاحة هي الفئة الثالثة الرئيسية. وعندما جرى دمج نظام تحديد المواقع العالمي (
GPS ) الذي تديره القوات الجوية الأمريكية في السيارات والهواتف الذكية، أصبح مجالا مهما للنشاط التجاري والحياة اليومية، مما يعمق اعتمادنا على البنية التحتية الفضائية. وبالتالي، بدأت روسيا والصين وأوروبا الغربية وغيرها في تطوير أنظمة منافسة. بالنسبة إلى الجمهور، تكون هذه الأنظمة، مثل نظيراتها في الفئتين الأوليين، غير مرئية على الإطلاق؛ فالمرء لا يلاحظ البنية التحتية الفضائية إلا في المناسبات النادرة عندما لا تعمل.
مراقبة الأرض
كما هو الحال في جميع جوانب تكنولوجيا الصواريخ والفضاء، كان الخط الفاصل بين مراقبة الأرض العسكرية والمدنية ضبابيا منذ البداية. الأقمار الصناعية الاستطلاعية، التي كانت حاسمة الأهمية في نشأة سباق الفضاء، كانت بحاجة إلى تصوير عالي الدقة. لكن الكاميرات ذات الدقة المنخفضة، التي يتم استخلاصها أحيانا من مشاريع استخباراتية فاشلة، كانت مناسبة لالتقاط صور لأنظمة الطقس أو لسطح القمر والكواكب. وكانت معلومات الطقس ذات أهمية لكل من العملاء العسكريين والمدنيين على حد سواء. غالبا ما تحتاج المتطلبات العسكرية والاستخباراتية إلى استثمار كبير في تطوير أجهزة الاستشعار السرية، على سبيل المثال، في منطقة الأشعة تحت الحمراء للكشف عن التوقيعات الحرارية لعمليات إطلاق صواريخ العدو. ولكن عندما استغلت الأقمار الصناعية المعنية بعلوم الأرض والطقس المزيد والمزيد من نطاقات الطول الموجي، احتاجت أيضا إلى تطوير أدوات متقدمة أيضا، وغالبا ما استمدت من التقنيات العسكرية السرية.
كما هو الحال في جميع جوانب تكنولوجيا الصواريخ والفضاء، كان الخط الفاصل بين مراقبة الأرض العسكرية والمدنية ضبابيا منذ البداية.
شكل 4-1: تظهر أول صورة استطلاع فضائية على الإطلاق مطارا في القطب الشمالي السوفييتي في 18 أغسطس عام 1960. والتقطت هذه الصورة أول مركبة فضائية أمريكية ناجحة تحمل كاميرا من برنامج «كورونا»، وكانت تحلق تحت الاسم المستعار «ديسكفرر 14» (المصدر: مكتب الاستطلاع الوطني).
في الولايات المتحدة، أطلق مكتب الاستطلاع الوطني أقمار التجسس «كورونا»، التي أعادت فيلم صور فوتوغرافية في كبسولات إعادة الدخول، حتى عام 1972، وكان يكمل عملها أقمار «جامبيت» الصناعية المماثلة العالية الدقة؛ إذ كانت تلتقط صورا قريبة للأهداف. لم تستطع الطرق الإلكترونية لاسترجاع الصور إنتاج الدقة المطلوبة لتكون مفيدة عسكريا قبل أواخر السبعينيات. وفي الوقت نفسه، أطلقت وكالة ناسا أول قمر صناعي تجريبي للطقس، «تيروس 1» (قمر رصد الأشعة تحت الحمراء والإرسال المرئي)، في أبريل 1960، وكان عبارة عن مركبة دوارة بسيطة مزودة بكاميرات تليفزيونية تطورت من اقتراح استطلاع فاشل من شركة راديو أمريكا (
RCA ). ومثل «كورونا»، أصبح ما كان يفترض أن يكون مؤقتا أو تجربة هو الأساس لنظام تشغيلي للأقمار الصناعية التي تدور حول القطبين بحيث تكون كل الكرة الأرضية مرئية.
2
في البداية، كان على علماء الأرصاد الجوية أن يقتنعوا بأن الصور التي تظهر في أغلبها الغيوم ستكون مفيدة، ولكنهم توصلوا بسرعة إلى أنها توفر معلومات قيمة على الجبهات الهوائية والعواصف. أدى الكشف عن الأعاصير وتتبعها في المحيط المفتوح إلى زيادة وقت التحذير بشكل كبير. عندما لم تثبت صور «تيروس» أنها مفيدة كما هو متوقع في التنبؤ بالطقس فوق الكتلة السوفييتية، أنشأت وزارة الدفاع الأمريكية نظاما موازيا قائما على نفس التكنولوجيا. كانت وظيفته الأولى والأكثر أهمية هي التنبؤ بوجود غيوم تغطي الأهداف، وبالتالي يسمح لمشغلي الأقمار الصناعية للتجسس بمعرفة متى يحاولون التصوير الفوتوغرافي، وذلك لتقليل عدد صور الأهداف المغطاة بالغيوم.
نشر السوفييت أولى مركبات استطلاع «زينيت» في عام 1962، باستخدام نسخة من مركبة «فوستوك» الفضائية، كما خطط سيرجي كوروليف منذ البداية. كانت وحدة إعادة الدخول الكروية، بدلا من حمل رائد الفضاء ومقعد القذف الخاص به، تحمل الكاميرات التي تم استردادها مع الفيلم. لكن حرص السوفييت المبكر على إنتاج مشاهد دعائية بمركبات القمر والكواكب أو المركبات المأهولة كان يعني أن يتخلف الاتحاد السوفييتي عن الولايات المتحدة في كل تطبيق عملي لتكنولوجيا الفضاء. ولم يتم إطلاق أقمار «ميتيور» الصناعية التجريبية الأولى للطقس التي تستخدم كاميرات التيلفزيون حتى عام 1964، وتم إخفاؤها جميعا تحت تسمية «كوزموس» العامة إلى أن تم الإعلان عن تشغيلها في عام 1969.
3
وبينما كانت الولايات المتحدة تقود الطريق في أنظمة الطقس، فقد واجهت صعوبة في تنظيم المسئولية عن البرامج المدنية. ولم تكن وكالة ناسا، باعتبارها وكالة تجريبية وتطويرية، هي الخيار الأفضل لإدارة نظام تشغيلي، ولكنها كانت الوكالة الأكثر تقدما من جهة تطوير المركبات الفضائية المدنية وأجهزة الاستشعار. لقد واصلت مشروع القمر الصناعي «نيمبوس» الخاص بها حتى أثناء نقلها الأنظمة الأبسط التي تطورت من «تيروس» إلى هيئة «الأرصاد الجوية الوطنية»، التي أصبحت في النهاية جزءا من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (
NOAA ). وقد أدى «نيمبوس» بالفعل إلى تطوير أدوات في مناطق الأشعة تحت الحمراء وأشعة الميكروويف يمكنها أن توسع بشكل كبير ما يمكن أن تفعله الأقمار الصناعية للطقس. ولم تبدأ الأقمار الصناعية في إنتاج بيانات يمكن الاستفادة منها في تغذية نماذج الكمبيوتر القوية التي تستخدم في التنبؤ بالطقس إلا عندما استطاعت الأقمار الصناعية إجراء قياسات شاملة لبخار الماء وطبقات الغيوم ودرجات الحرارة والكميات الأخرى، في الثمانينيات وما بعدها.
4
كما قامت وكالة ناسا بدور رائد في وضع أجهزة استشعار الطقس في مدار الأرض الجغرافي الثابت؛ إذ يحلق قمر صناعي على نحو فعال فوق مكان واحد في مدار دائري طوال أربع وعشرين ساعة على ارتفاع 22300 ميل فوق خط الاستواء. وأدت المركبة الفضائية التجريبية التابعة للوكالة في أواخر الستينيات إلى إنشاء شبكة من أجهزة مراقبة الطقس في مدار الأرض الجغرافي الثابت توفر نظرة عامة عالمية على أنظمة الطقس وتطور العواصف التي تكمل الرؤية عن قرب من الأقمار الصناعية المدارية القطبية الموجودة في مدار الأرض المنخفض. وأطلقت وكالة ناسا مركبات فضائية في عامي 1974 و1975، مما أدى إلى الأقمار الصناعية البيئية العاملة من مدار جغرافي ثابت بالنسبة إلى الأرض والتي تديرها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي. من خلال منظمات الأرصاد الجوية والغلاف الجوي الدولية، أنشأت الولايات المتحدة واليابان ووكالة الفضاء الأوروبية نظاما عالميا في السبعينيات، بحيث يكون القمر الصناعي التابع لوكالة الفضاء الأوروبية مسئولا عن مراقبة أوروبا وأفريقيا، والقمر الصناعي الياباني مسئولا عن شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ. وقد وعد الاتحاد السوفييتي بوضع قمر صناعي لمراقبة المحيط الهندي، لكن مكتب التصميم المسئول واجه صعوبات في مواجهة التحديات التكنولوجية وعدم المبالاة في برنامج الفضاء الذي يديره الجيش. ولم تضع روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي مركبة فضائية للطقس في المدار الجغرافي الثابت بالنسبة إلى الأرض إلا في عام 1994 فقط، وحتى هذه المركبة كانت تعاني من مشاكل فنية. ولم تطلق روسيا أي بديل حتى عام 2011 بسبب الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
مدفوعة بالحرب الباردة، شملت أنظمة المراقبة العسكرية والاستخباراتية أيضا نطاقا من الأطوال الموجية والتقنيات أبعد بكثير من التصوير البصري. في الواقع، كان أول قمر صناعي استخباراتي أمريكي ناجح عبارة عن حمولة إشارات بحرية تدور بشكل خفي على مركبة فضاء فلكية تابعة لمعمل أبحاث البحرية الأمريكية في مايو 1960. وكان دوره هو تسجيل رادارات الدفاع الجوي السوفييتي، مما يتيح إعادة اكتشاف مواقعها وتردداتها وقوتها. توسعت الإشارات وقدرات استخبارات الاتصالات من المدار بشكل كبير بمرور الوقت، ولكن تم الكشف عن القليل من المعلومات حول ذلك. وبدأت تجارب التصوير الراداري (باستخدام إشارة راديوية تنعكس على الأرض لتكوين صورة) في الستينيات، ولكن بسبب صعوبة الحصول على صور جيدة، لم يتم إطلاق أول قمر صناعي للتصوير الراداري من سلسلة «لاكروس» في الولايات المتحدة حتى عام 1988. وتعد ميزة الرادار هي أنه يستطيع التقاط الصور في الليل وعبر الغيوم. ويمكن أيضا استخلاص بيانات فريدة من خصائص انعكاس الهدف.
كما بدأت الولايات المتحدة تجريب المركبات الفضائية للإنذار المبكر ضد الصواريخ باستخدام أجهزة استشعار الأشعة تحت الحمراء في منتصف الستينيات. أدى ذلك إلى نظام ثابت بالنسبة إلى الأرض، تم الانتهاء منه لأول مرة في عام 1973، ويضم ثلاثة أقمار صناعية، أحدها يراقب الاتحاد السوفييتي، والآخر يراقب المحيط الأطلنطي، والأخير يراقب المحيط الهادئ للكشف عن الصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات. هذه الزيادة الكبيرة في وقت الإنذار بالمقارنة بالرادارات الأرضية يمكن أن تتيح التفوق في القتال النووي، لكنها تقلل أيضا من الخوف من الهجوم المفاجئ. وأخيرا أطلق السوفييت مركبتهم الفضائية للإنذار المبكر في الثمانينيات. وتستخدم هذه في الغالب مدارا إهليلجيا، حيث تصعد المركبة الفضائية عاليا فوق النصف الشمالي من الكرة الأرضية أثناء الجزء البطيء الحركة من مدارها، ثم تدور بسرعة في الاتجاه المعاكس حول نصف الكرة الجنوبي بينما تنزل إلى بضع مئات من الأميال عند أدنى نقطة. ولكن السوفييت واجهوا صعوبات في هذا النظام - كغيره من الأنظمة - فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي الأمريكي، لا سيما في حجم ووزن وموثوقية الإلكترونيات وأجهزة الكمبيوتر. وغالبا ما كانت المركبات السوفييتية تتمتع بفترة حياة أقصر من المتوقع، بالإضافة إلى أنه في عام 1983 أصدرت إحدى المركبات إنذارا كاذبا من هجوم صاروخي أمريكي عندما انعكس ضوء الشمس عن الغيوم، ولولا وجود أحد الفنيين المتيقظين لوقعت كارثة. بعد انهيار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في عام 1991، تدهور النظام لمدة عقدين، وكان الروس يعتمدون عليه دائما بشكل أقل ، ولكن إذا ما نظرنا إلى مميزاته، فقد أسهم هذا النظام على الأرجح في الاستقرار الاستراتيجي.
5
كانت أنظمة استطلاع الصور هي الأكثر أهمية؛ لأنها جعلت أولى اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ممكنة في السبعينيات؛ إذ أضحى من الممكن احتساب صوامع الصواريخ وقاذفات القنابل والغواصات النووية (عندما تكون في الميناء)، الأمر الذي وضع أساسا لحدود الاتفاقية. ونتيجة لرفع السرية، عرف المزيد عن الأنظمة البصرية الأمريكية، على الأقل حتى الثمانينيات. وأحل مكتب الاستطلاع الوطني والقوات الجوية أقمار الاستطلاع «هيكساجون» محل سلسلة «كورونا»، بدءا من عام 1971. غالبا ما كان يطلق عليها «كيه إتش-9»، على اسم الكاميرا الرئيسية الخاصة بها، ولقبت «بيج بيرد» (أو الطائر الضخم) لأنها كانت ضخمة جدا، وحمل كل قمر من سلسلة «هيكساجون» أربع مركبات إعادة دخول أكبر من أجل الرجوع بأشرطة صور لمناطق شاسعة من الكتلة السوفييتية والصين وأعداء آخرين. ومن ثم تتولى الأقمار الصناعية العالية الدقة مثل «جامبيت» وما يليها التحقيق في أهداف معينة.
6
حد استرجاع أشرطة الصور من فائدة مركبات الاستطلاع التصويرية فأصبحت مهمتها الأساسية هي الاستخبارات الاستراتيجية؛ إذ لم تستطع إعادة الصور بسرعة كافية لمساعدة القوات الأمريكية في أي أزمة أو حرب مثل حرب فيتنام، على عكس الأقمار الصناعية الخاصة بالطقس التابعة لوزارة الدفاع. ابتداء من عام 1976، أطلقت الولايات المتحدة أول مركبة فضائية للتصوير الرقمي في المدار، مستخدمة رقاقات السيليكون المبكرة (
CCDs )، التي أصبحت الآن الأساس لكل الكاميرات المتاحة تجاريا. كانت مركبات الفضاء «كينين» (لاحقا «كريستال») (التي تعرف غالبا باسم «كيه إتش-11») تشبه تليسكوب هابل الفضائي، الذي اشتقت منه. وأدى إرسال الصور إلى الأرض إلى حل مشكلة التوقيت وحياة المركبات الفضائية القصيرة (بمجرد أن تنشر المركبة الفضائية المسئولة عن إعادة أشرطة الصور مركبة إعادة الدخول الأخيرة، ينتهي أمرها). ومع ذلك، لم يكن الانتقال لحظيا بالنسبة إلى مكتب الاستطلاع الوطني، حيث كانت مركبات «هيكساجون» لا تزال تدور في المدار حتى عام 1984. ولا يعرف الجمهور الكثير عن سلسلة «كينين»، ولكن نهاية المركبات الفضائية التي ترجع أشرطة الصور تشير بالتأكيد إلى أن التصوير الإلكتروني أصبح الآن مناسبا لكل من البحث الواسع النطاق ومهام البحث الدقيق. وبالاستعانة بأجهزة التصوير الرادارية ومجموعة متنوعة غير معروفة من الأقمار الصناعية وحمولات استخبارات الإشارات، اكتسبت الولايات المتحدة القدرة على المراقبة العالمية السريعة، مما عزز دورها كقوة عظمى مهيمنة بعد الحرب الباردة. ومع ذلك، كما أثبتت العقود منذ ذلك الحين، فإن العلم شبه الكامل بمجريات الأمور على المستوى الاستراتيجي ليس ضمانا للنجاح العسكري أو السياسي عندما تكون المشكلة مستعصية أو يكون الأعداء عبارة عن عصابات وجماعات إرهابية.
7
حتى عندما بدأ السوفييت في استخدام المركبات الفضائية للتصوير الإلكتروني في عام 1982، كافحوا لجعلها تقوم بمهامها وتظل منافسة. ولإبقاء أمريكا وحلفائها تحت المراقبة، أطلقوا هم وحلفاؤهم الروس العديد من المركبات الفضائية ذات العمر القصير التي تعود بأشرطة الصور والتي تتمتع بأنظمة كاميرات متطورة للغاية. كانت إحدى المركبات السوفييتية الفريدة هي القمر الصناعي المستخدم لرادارات استطلاع المحيطات (
RORSAT ) الذي يستخدم مفاعلا نوويا لتوليد الطاقة الكهربائية، من أجل تتبع الأساطيل العالمية للبحرية الأمريكية وحلفائها.
8
وقد فقدت روسيا الكثير من إمكانيات الاستطلاع العالمية لمدة عقدين من الزمن بسبب الأزمة الاقتصادية التي منيت بها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم تبدأ في إعادة بنائها تدريجيا إلا بعد عام 2010.
وعلى الرغم من الهيمنة الأمريكية في مراقبة الأرض، فقد بدأت الثمانينيات في تحول سريع نحو عالم متعدد الأقطاب لم تعد تحتكر فيه وكالات الاستخبارات الصور العالية الدقة. فرضت وكالات المخابرات الأمريكية سياسة وطنية تضمن ألا تصل جميع المركبات الفضائية المدنية، بما في ذلك الأقمار الصناعية الخاصة بالطقس وأقمار «لاندسات» المستخدمة في مسح الموارد الطبيعية للأرض، إلى صور بدقة وضوح تتجاوز 30 مترا (حوالي 100 قدم) لكل بكسل. وفي عام 1986، أطلقت وكالة الفضاء الفرنسية، بالتعاون مع السويد، القمر الصناعي «سبوت 1» في المدار، الذي يوفر صورا بدقة تتراوح ما بين 10 أمتار و20 مترا لكل بكسل مقابل سعر معين. وكانت هذه بداية ثورة مدنية في التصوير، وقد أدت بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى قيام شركات مثل «ديجيتال جلوب» ببيع صور شديدة الدقة حسب الطلب. وحتى وسائل الإعلام ومجموعات حقوق الإنسان قد تبدأ في شراء صور لأهداف مثيرة للاهتمام، ويمكن لشركات مثل «جوجل» أن تجعل صور الأقمار الصناعية أساسية بالنسبة إلى برامج الخرائط الخاصة بها. وبدأت وكالات الاستخبارات في شراء كميات كبيرة من الصور التجارية لتكملة أقمارها الصناعية المتخصصة. وبدأت عدة دول في إطلاق مركبات فضائية عسكرية خاصة بها، لا سيما فرنسا وألمانيا وإسرائيل والصين. وأصبح مدار الأرض المنخفض ومدار الأرض الجغرافي الثابت مشبعين بأنواع عديدة من المركبات الفضائية المستخدمة في المراقبة. وقد خلق توفر الكثير من الأقمار الصناعية حقبة جديدة من الشفافية العالمية، مما قلل من فرصة الحروب الكبرى، دون إزالة أي أسباب للصراعات حول العالم.
9
الاتصالات عبر الأقمار الصناعية
على غرار الأقمار الصناعية الاستطلاعية، تعود أفكار استخدام المركبات الفضائية في الاتصالات العالمية إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة الصواريخ التي أطلقتها صواريخ «في-2». في أكتوبر 1945، اقترح مؤلف الخيال العلمي وداعية الفضاء آرثر سي كلارك، الذي كان آنذاك ضابط رادار صغيرا في سلاح الجو الملكي البريطاني، أن ثلاث منصات ثابتة بالنسبة إلى الأرض يمكنها توفير اتصالات عالمية. وبالنظر إلى التكنولوجيا المتاحة في ذلك الوقت، تخيلها كمحطات تحت إدارة بشرية؛ لأنه، بالطبع، قد تكون هناك حاجة إلى شخص ما لتغيير الأنابيب المفرغة. كانت فكرة كلارك مستبصرة، لكنها كانت غريبة وتم تجاهلها لبعض الوقت. وعندما انطلق سباق الفضاء في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، جربت القوات المسلحة الأمريكية، ووكالة ناسا، والشركات الخاصة عدة أفكار مختلفة لأنظمة آلية، بما في ذلك البالونات العملاقة أو حزام الإبر النحاسية لعكس الإشارات، ومركبات الاتصالات في مدار الأرض المنخفض التي تستخدم تقنية «تخزين البيانات وإرسالها»، وأيضا أفكار مدار الأرض الجغرافي الثابت. وقد خططت شركة «إيه تي آند تي» - عملاق الاتصالات عن بعد - لكوكبة مدار الأرض المنخفض استنادا إلى قمرها الصناعي «تيلستار» الذي جرى إطلاقه في يوليو 1962. وتركت عمليات البث بين أوروبا وأمريكا الشمالية التي نقلها «تيلستار» انطباعا عميقا على العالم بأسره، على الرغم من أن كلا منها استغرق حوالي خمس عشرة دقيقة فقط نظرا إلى أن المركبة الفضائية سرعان ما خرجت من النطاق؛ إذ بشرت بعالم جديد من الاتصالات العالمية الفورية.
حتى قبل إطلاق «تيلستار»، كان مفهوم شركة «إيه تي آند تي» لنظام مدار الأرض المنخفض الذي يديره القطاع الخاص يخسر بالفعل. أرادت إدارة كينيدي، المهتمة أكثر بالفوز على الاتحاد السوفييتي في إنشاء نظام عالمي، تعزيز النفوذ الأمريكي على الغرب والعالم النامي. بالتوازي مع قرار «أبولو»، بدأت الإدارة الأمريكية دراسة للاتصالات الفضائية في عام 1961 التي أدت إلى قانون وقعه الرئيس في نهاية أغسطس 1962، وأسست شركة الاتصالات عبر الأقمار الصناعية (التي تعرف اختصارا ب
COMSAT
أو كومسات). وأصبحت شركة «إيه تي آند تي» مجرد واحدة من حاملي الأسهم. كما قامت وكالة ناسا بتمويل تجارب منافسة، لا سيما المركبة الفضائية للاتصالات المتزامنة «سينكوم» التي تبنيها هيوز للطائرات لتدور في مدار الأرض الجغرافي الثابت. وأثبتت «سينكوم 2» و«سينكوم 3» في عامي 1963 و1964 جدوى فكرة الأقمار الصناعية الروبوتية التي تدور في مدار الأرض الجغرافي الثابت. وفي غضون ذلك، شرعت «كومسات» في مجموعة من المفاوضات العالمية، على النحو المنصوص عليه في القانون، مما أدى إلى إنشاء المنظمة الدولية للاتصالات السلكية واللاسلكية عبر الأقمار الصناعية (إنتلسات) في عام 1964، بالتعاون مع شركات الهاتف المملوكة للحكومة في الغالب في دول الغرب والدول النامية. وتبنت هذه المنظمة نسخة من «سينكوم»، تحت إدارة شركة «كومسات». وتم وضع أول مركبة فضائية لها، «إنتلسات 1» أو «إيرلي بيرد»، فوق المحيط الأطلنطي في أبريل 1965. وتبع ذلك الجيل الثاني من الأقمار الصناعية ذات السعة العالية في 1966-1967، والجيل الثالث في 1968-1970، وبدأ الجيل الرابع في 1971. وبسبب أعطال الأقمار الصناعية، ظهرت بالفعل التغطية العالمية الدائمة في بداية السبعينيات.
10
شكل 4-2: أصبح «إنتيلسات 1»، الملقب ب «إيرلي بيرد»، أول قمر صناعي تجاري للاتصالات في المدار الجغرافي الثابت في العالم عندما تم إيقافه فوق المحيط الأطلنطي في أبريل 1965. في هذه الصورة الدعائية، يوجد نموذج مركبة فضائية فوق مجموعة من الهواتف، حيث كانت المكالمات الطويلة المدى هي الوظيفة الأساسية لإيرلي بيرد. وبمرور الوقت، استحوذت الكابلات البحرية على الاتصالات الهاتفية وسيطرت الأقمار الصناعية التجارية على البث التليفزيوني لمسافات طويلة (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني التابع لمؤسسة سميثسونيان).
رفض السوفييت بطبيعة الحال هذا النظام الذي يسيطر عليه الأمريكيون وأبعدوا حلفاءهم عنه. وأطلقوا أول أقمار الاتصالات التجريبية العسكرية الذي أطلقوا عليه «مولنيا» (أو «لايتنينج») في عامي 1964 و1965، وكانوا رائدين في المدارات الإهليلجية التي تم تبنيها فيما بعد بواسطة مركبات الإنذار المبكر ضد الصواريخ الخاصة بهم. كانت الأقمار الصناعية الموجودة في مدار الأرض الجغرافي الثابت شديدة القرب من الأفق في مناطق القطب الشمالي من الاتحاد السوفييتي، أما المدارات الاستوائية فكان من الصعب الوصول إليها من مواقع الإطلاق السوفييتية ذات خطوط العرض العالية ومن ثم فهي تتطلب تطويرا معززا جديدا. ولذا كانت المدارات القطبية الإهليلجية للغاية التي كانت المركبة الفضائية تدور فيها فوق نصف الكرة الشمالي حلا جيدا، ولكنه حل يتطلب عدة أقمار صناعية من سلسلة «مولنيا» في مستويات مدارية مختلفة بحيث يكون أحدها على الأقل في الأعلى في أي وقت. نظرا إلى برنامج الفضاء الوحدوي الذي يسيطر عليه الجيش في الاتحاد السوفييتي، جاء المستخدمون العسكريون أولا، ولكن تم استخدام المركبة الفضائية أيضا لبث قنوات التليفزيون المدني عبر مساحة شاسعة من الأراضي السوفييتية. وفي أواخر السبعينيات، بدأ السوفييت أيضا في نشر الأقمار الصناعية في مدار الأرض الجغرافي الثابت كمكمل.
بعد أن قررت وزارة الدفاع الأمريكية لفترة وجيزة الاعتماد على النظام المدني، بدأت في إطلاق أقمارها الصناعية للاتصالات في عام 1966 وأنشأت نظاما كاملا للأقمار الصناعية في المدار الجغرافي الثابت للأرض يبدأ في عام 1971. وقد كان أحد الاعتبارات الرئيسية هو الحفاظ على مستوى كاف من الأمن لرسائل القيادة والتحكم المهمة، لا سيما أثناء خوض حرب نووية عالمية. كان من الضروري أن تصل «رسائل الاشتباك العاجلة» - الأوامر الرئاسية لإطلاق الأسلحة النووية - إلى غواصات الصواريخ الباليستية في البحر وإلى القواعد عبر البحار، مما يعكس النطاق العالمي للانتشار العسكري الأمريكي. وبالتالي، يمكن أن تسهم الاتصالات عبر الأقمار الصناعية في وضع نهاية للعالم، ولكن كما هو الحال مع كل جانب آخر من منطق الأسلحة النووية متعدد الأوجه، فقد عززت أيضا مصداقية الرادع الأمريكي وقللت من احتمال الحرب. نظرا إلى تزايد إمكانيات الاتصالات الدفاعية، فقد زاد حتما الاعتماد عليها في جميع مستويات الرسائل، وليس فقط الأكثر أهمية. بدأت وزارة الدفاع الأمريكية والقوات المسلحة في إطلاق مجموعة متنوعة من الأقمار الصناعية التي تحملت جزءا من العبء الذي كانت تتحمله سابقا أنظمة أرضية وأجهزة إرسال موجات الراديو بعيدة المدى وكابلات تحت سطح البحر. وقد اتضح أن هذا لم يكن كافيا؛ إذ زاد تأجير الدوائر التجارية أيضا، مما وفر مصدرا رئيسيا للأعمال لشركات الأقمار الصناعية الخاصة. بحلول نهاية الحرب الباردة وما بعدها، أصبحت الهيمنة العالمية للولايات المتحدة معتمدة على البنية التحتية الفضائية في الاتصالات، ولكن أيضا في المراقبة والملاحة، مما خلق ثغرة شجعت بعض الاستراتيجيين المنتسبين إلى القوات الجوية الأمريكية على القول بأن أمريكا يجب أن تنشر أسلحة مدارية للسيطرة على الفضاء القريب من الأرض - مما قد يسفر على الأرجح عن انطلاق سباق تسلح جديد.
11
ومع ذلك، يجب ألا تحجب المبادرة الحكومية التي تقودها الحرب الباردة وملكيتها لمعظم البنية التحتية لأقمار الاتصالات أنها أصبحت القطاع الأول - ولمدة عقدين على الأقل القطاع الوحيد - الذي يتم فيه تحقيق أرباح من الأنشطة الفضائية غير الممولة من قبل الحكومات. كما أن الأموال المكتسبة من إجراء المكالمات الهاتفية والبث التليفزيوني ستسمح في نهاية المطاف لشركات الاتصالات والشركات الجديدة بالخروج من نظام كومسات/إنتلسات الاحتكاري. وأصبحت الاتصالات المحلية أول منطقة مستقلة؛ حيث أنشأت كندا في عام 1971 النظام الوطني الثاني بعد الاتحاد السوفييتي. وفي العام التالي، أعلنت لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية «سياسة السماوات المفتوحة» التي سمحت للشركات بإطلاق مركبة فضائية للخدمة المحلية، مما يعكس في المقام الأول انخفاض تكلفة إرسال التليفزيون من الساحل إلى الساحل بهذه الطريقة. في حين أن المكالمات الهاتفية عبر الأقمار الصناعية لم تكن قادرة على المنافسة محليا وسرعان ما سقطت دوليا نظرا إلى توفر أفضل كابلات الألياف الضوئية والكابلات النحاسية تحت سطح البحر، ظل التليفزيون العالمي أساس أعمال الأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات. عندما أصبحت الأقمار الصناعية أكبر وأكثر قوة، أصبح البث المباشر لأطباق أصغر ممكنا في الثمانينيات - للسفن في البحر وفي النهاية لمنازل الأفراد.
أدى توسع الشركات، الذي عززته عودة أيديولوجية السوق الحرة في الغرب في الثمانينيات والتسعينيات، إلى انفصال كل من «كومسات» و«إنتلسات» (وأيضا «إنمارسات»، وهي منظمة دولية موازية للملاحة البحرية ومستخدمي أجهزة المحمول) في حوالي عام 2000، وأصبحت شركات تجارية متنافسة للغاية. كما شهدت التسعينيات ازدهارا في شركات مدار الأرض المنخفض الجديدة التي تضم العديد من الأقمار الصناعية، ولا سيما شركة «إيريديوم»، التي أسستها شركة الإلكترونيات «موتورولا». أنشأت «إيريديوم» نظاما عالميا للهواتف الفضائية، مبررة ذلك جزئيا بتقديم خدمة للبلدان النامية التي أخفقت الأنظمة الثابتة بالنسبة إلى الأرض في توفير الخدمة لها. لكن «إيريديوم» كانت بمثابة إخفاق مذهل في السوق، حيث وأدت أنظمة الهواتف الخلوية الأرضية الطلب على الهواتف الفضائية باهظة الثمن والثقيلة. وأفلست الشركة بعد أشهر فقط من إطلاق أقمارها الصناعية الأولى في أواخر عام 1998. ولكن سرعان ما أعيد إحياؤها في عام 2001 بسبب دعم وزارة الدفاع الأمريكية لها؛ حيث وجدت وزارة الدفاع أن الاتصال الهاتفي إلى المناطق النائية مثل أفغانستان مهم. وقد فقد المالكون الأصليون استثماراتهم، إلا أن «إيريديوم» تواصل حتى يومنا هذا كونها مؤسسة خاصة، بل إنها تطلق كوكبة جديدة من الأقمار الصناعية، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأعمال العسكرية وبعض المشروعات الإعلامية.
12
في الوقت الذي ظلت فيه أنظمة مدار الأرض الجغرافي الثابت هي المسيطرة، ظهرت موجة مضاربة جديدة من أنظمة مدار الأرض المنخفض بعد عام 2010، استنادا إلى أفكار لنشر الوصول العالمي إلى الإنترنت عبر المركبات الفضائية، من بين تطبيقات أخرى. ومن السابق لأوانه معرفة كيف سيتم ذلك، ولكن في عالم مشبع بأنظمة الاتصالات عبر كابلات الألياف الضوئية والأقمار الصناعية، ومع توقع أن الوصول إلى شبكة الكمبيوتر سيكون متاحا قريبا من أي مكان على الأرض أو فوقها، ستظل البنية التحتية حاسمة الأهمية للأداء العالمي. إن القوى السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية التي تدفع العولمة أكبر بكثير من الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ولكن ثمة شك في أن التكنولوجيا كانت قناة رئيسية لعولمة الأعمال، والثقافة، والترفيه، والقوة العسكرية، وكل القطاعات الأخرى.
الملاحة الفضائية
خلافا للمراقبة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، لم تكن أنظمة الملاحة شيئا متوقعا قبل سباق الفضاء؛ ففور إطلاق «سبوتنيك» في أكتوبر 1957، لاحظ مهندسان في مختبر الفيزياء التطبيقية التابع لجامعة جونز هوبكنز أن تتبع تأثير دوبلر في إرسال راديو «سبوتنيك» أثناء تحركه نحو المراقب، الذي استخدم لتحديد مداره، أو بعيدا عنه، يمكن استخدامه أيضا في تحديد موقع على الأرض، إذا كان المدار معروفا. وأدى ذلك إلى نظام ترانزيت للملاحة عبر الأقمار الصناعية، الذي بنى مختبر الفيزياء التطبيقية أقماره الصناعية، وكان الغرض الأساسي منه هو تحديد مواقع غواصات الصواريخ الباليستية. وكان أول إطلاق ناجح له في عام 1960، وأصبح النظام يعمل في عام 1964، بالاستعانة بأربعة إلى ستة أقمار صناعية تدور على بعد 1075 ميلا. وقد أتاح نظام ترانزيت لأنظمة التوجيه بالقصور الذاتي الموجودة في الغواصات إعطاء موقع إطلاق دقيق بما فيه الكفاية لضرب أهداف في أي حرب نووية. وقد استخدم نظام ترانزيت التابع للبحرية الأمريكية في بعض الأحيان من قبل أسلحة الجيش الأمريكي الأخرى لتحديد المواقع، بل إن المستخدمين المدنيين اعتمدوا عليه في المسح وغيره من التطبيقات.
13
ومع ذلك، لا يستطيع نظام ترانزيت سوى توفير خط عرض وخط طول على سطح الأرض، ويمكن أن يستغرق الأمر ما يصل إلى نصف الساعة لحساب موضع ما؛ ولذا بدأت البحرية في إجراء تجارب لوضع ساعات ذرية مدارية للحصول على وقت دقيق كطريقة بديلة لتحديد الموقع. كما جربت القوات الجوية الأمريكية أقمارها الصناعية لعرض مواقع الطائرات وارتفاعاتها. وأطلق الجيش ووكالة ناسا سلسلة من المركبات الفضائية الجيوديسية لاتخاذ قياسات لشكل الأرض ومجال جاذبيتها، وهي بيانات مهمة لتحسين دقة الخرائط العالمية والصواريخ النووية البعيدة المدى. وفي أواخر عام 1973، أصرت وزارة الدفاع الأمريكية على دمج برامج القوات المسلحة المتنافسة، وأخذت أفضل التقنيات من كل منها. وأنتجت نظام تحديد المواقع العالمي «نافستار»، والمعروف الآن عالميا باسم «جي بي إس»، وسيتم تشغيله بواسطة القوات الجوية. وابتداء من عام 1978، وضعت القوات الجوية الأقمار الصناعية لنظام «جي بي إس» في مدارات دائرية مدتها اثنتا عشرة ساعة تقريبا على ارتفاع 11000 ميل (المنطقة التي أصبحت فيما بعد تسمى مدار الأرض المتوسط). وقد بدأ النظام عمليات محدودة في أوائل الثمانينيات، ووصل إلى القدرة التشغيلية الأولية في عام 1993، عندما كان هناك أربع وعشرون مركبة فضائية في ست طائرات مدارية مختلفة؛ إذ مكن من التحديد شبه الفوري للوقت والمواقع الثلاثية الأبعاد في جميع أنحاء العالم، مع الاحتفاظ بالإشارات الأعلى دقة للقوات المسلحة الأمريكية. ومن المستحيل تخيل هذا الاستثمار الضخم بدون سباق التسلح النووي والانتشار العالمي للقوات الأمريكية، لكن قيمته أثبتت أنها كبيرة جدا أيضا للمستخدمين المدنيين، لدرجة أنه أصبح في الواقع أداة وطنية تديرها الحكومة، وتحافظ عليها الولايات المتحدة لأنها أصبحت مهمة جدا للحياة على الأرض - وهو ما يوازي الأقمار الصناعية للطقس.
14
قام السوفييت بتقليد نظام ترانزيت وتبعوا ذلك بالإطلاق الأول لنظام «جلوناس» الشبيه بنظام تحديد المواقع العالمي «جي بي إس» في عام 1982. وكانت أقماره الصناعية مؤهلة بدرجة أكبر لتوفير المزيد من الدقة للمناطق القطبية. وقد بدأ هذا النظام العمل في عام 1995، لكن الأزمة الاقتصادية التي منيت بها روسيا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي أسفرت عن تدهور في الإمكانيات، نظرا إلى عدم القدرة على استبدال الأقمار الصناعية التي تتعطل عن العمل. ومع ذلك، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أمر الرئيس فلاديمير بوتين بإعادة النظام بالكامل وترقيته ليصبح قادرا على المنافسة مع نظام تحديد المواقع العالمي «جي بي إس». وأصبح «جلوناس» ثاني نظام عالمي مدمج على نطاق واسع في الاستخدام المدني، بحيث أصبحت العديد من أجهزة الاستقبال مثل الهواتف المحمولة تستخدم كلا النظامين في وقت واحد لزيادة دقة الموقع.
دفعت الأسباب السياسية إلى إنشاء أنظمة أخرى؛ حيث إن النظامين الأمريكي والروسي تديرهما القوات المسلحة، ويمكن أن يتدهورا أو يشوشا أو يتم إيقافهما للمستخدمين المدنيين في حالة حدوث أزمة. ومن ثم بدأ الاتحاد الأوروبي في مناقشة نظام جاليليو للملاحة العالمية بالأقمار الصناعية في أواخر التسعينيات. وحتى بعد أن فتح الرئيس كلينتون إشارة «جي بي إس» العسكرية الأكثر دقة لجميع المستخدمين في عام 2000، استمر نظام جاليليو إلى حد كبير بسبب الانزعاج في بعض العواصم الأوروبية من الاعتماد على القوات المسلحة الأمريكية. وأطلق أول قمر صناعي تجريبي من جاليليو في عام 2005، ولكن النظام لا يزال قيد الإنشاء حتى كتابة هذه السطور، مثله في ذلك مثل النظام الصيني والهندي والياباني. إن الاستخدام الهائل لنظام «جي بي إس» في الأجهزة المدنية في المركبات والهواتف الخلوية جعل الأقمار الصناعية الملاحية جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية، خاصة في العالم المتقدم، بحيث يسهل التنبؤ بأن هذا التوسع في الخدمات القائمة على الموقع سيستمر ويؤدي إلى ابتكار تطبيقات جديدة.
البنية التحتية الفضائية والعولمة
من الواضح أن بناء سلسلة من البنى التحتية الخاصة بالأقمار الصناعية كان له تأثيرات متعددة وأحيانا متناقضة؛ فقد عزز القوة العسكرية للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأخيرا أوروبا الغربية والصين وروسيا الصاعدة، كما دعم القدرة على شن حرب نووية عالمية - في حين أنه في الوقت نفسه جعل مثل هذه الكارثة أقل احتمالا من خلال الشفافية العالمية. كذلك أصبحت الحرب في الفضاء ممكنة من خلال تطوير أسلحة مضادة للأقمار الصناعية، ولكن اعتماد القوى العظمى على أنظمة البنى التحتية قد أحدث تأثيرا رادعا ذا طابع خاص: لا يزال تسليح الفضاء محظورا حتى الآن، وإن كان ممكنا بشكل متزايد، نظرا إلى تزايد الصواريخ الأرضية والتهديدات الإلكترونية ضد الأقمار الصناعية. وربما تم تعزيز القوة الوطنية، خاصة بالنسبة إلى عدد قليل من الدول الأكثر ثراء والأكثر تقدما من الناحية التكنولوجية، لكن الأقمار الصناعية غير العسكرية المعنية بالطقس وعلوم الأرض والاتصالات عززت أيضا العولمة. وقد أسهم التليفزيون العالمي وصور الأرض من الفضاء، ولا سيما من الأقمار الصناعية في مدار الأرض الجغرافي الثابت و«أبولو »، في ظهور هوية الكوكب.
علاوة على ذلك، عزز تسويق البنية التحتية الفضائية الشركات عبر الوطنية، والتداول عبر الوطني للأفراد والمعرفة، مغيرا الصناعات الفضائية الوطنية التي تعتمد على الحكومة والتي انبثقت من الحرب الباردة. وقد أفاد اتحاد صناعات الأقمار الصناعية في عام 2012 بأن من بين 994 قمرا صناعيا نشطا للأرض، كانت 38 في المائة من الأقمار الصناعية تجارية وخاصة بالاتصالات، بينما 20 في المائة منها كانت حكومية وعسكرية. وبلغت إيرادات صناعة الفضاء العالمية في عام 2011 مبلغ 298,8 مليار دولار، منها 177,8 مليار دولار (61٪) من صناعة الأقمار الصناعية للاتصالات (ويشمل الباقي خدمات الإطلاق ورحلات الفضاء المأهولة والمركبات الفضائية غير المعنية بالاتصالات، إلخ). ويتألف معظم نسبة ال 61 في المائة هذه من البنية التحتية الأرضية وبيع البث التليفزيوني.
15
وعندما يرى المرء أن إجمالي ميزانية وكالة ناسا في تلك السنوات كانت حوالي 18 مليار دولار، فإن ذلك يبين تركيز الجمهور ووسائل الإعلام على الرحلات المأهولة، وأيضا على الصور التي تلتقط في بعض الأحيان من بعثات الفضاء العلمية، كما لو كان هذا هو كل ما يهم في الفضاء.
أسهم التليفزيون العالمي وصور الأرض من الفضاء، ولا سيما من الأقمار الصناعية في مدار الأرض الجغرافي الثابت و«أبولو»، في ظهور هوية الكوكب.
يتمثل أحد المنتجات الثانوية للاستخدام المكثف لمناطق مدار الأرض المنخفض ومدار الأرض الجغرافي الثابت، في تزايد خطر النفايات الفضائية؛ حيث إنه لكل قمر صناعي عامل، هناك آلاف القطع من النفايات، بالإضافة إلى مراحل الصواريخ المحروقة والمركبات الفضائية الميتة (التي خرجت من الخدمة). إن سلسلة من التصادمات الكارثية، التي يطلق عليها أحيانا متلازمة كيسلر لأن عالم ناسا دونالد جيه كيسلر هو الذي لفت النظر إليها لأول مرة في عام 1978، يمكن أن تجعل بعض المدارات غير قابلة للاستخدام. الجزء العلوي من منطقة المدار الأرضي المنخفض معرض لهذا الخطر بشكل خاص لأن الحطام لا ينزل بسرعة والأقمار الصناعية تدور في جميع الاتجاهات بالقرب من خط الاستواء، مما يؤدي إلى إحداث تأثيرات محتملة بين الأجسام التي تتحرك بسرعة آلاف الأميال في الساعة. وقد تؤدي الهجمات على الأقمار الصناعية بواسطة الصواريخ الأرضية، التي تصل بسهولة إلى الأجسام الموجودة في المدار الأرضي المنخفض، إلى إحداث العملية أو تسريعها - أنتج اختبار صيني مضاد للأقمار الصناعية في عام 2007 ضد إحدى المركبات الفضائية الصينية البائدة سحابة من آلاف الشظايا،
16
كما فعل اصطدام عرضي بين مركبة فضائية نشطة تابعة لشركة «إيريديوم» وقمر صناعي سوفييتي مهجور في عام 2009. إن فقدان المدار الأرضي المنخفض سيكون بمثابة صدمة كبرى لكوكب أصبح يعتمد على الخدمات الفضائية، وقد تكون له آثار بعيدة المدى على كل من الفعالية العسكرية والحياة اليومية.
الخلاصة
كان إنشاء بنية تحتية تدور حول الأرض أحد أعمق التأثيرات المرتبطة برحلات الفضاء؛ فالآن تتشكل الحياة اليومية لمليارات الأشخاص من خلال معلومات الطقس والملاحة والاتصالات عبر الأقمار الصناعية. كما أصبحت السياسات العالمية والمؤسسات العسكرية معتمدة على هذه الأنظمة، بالإضافة إلى الاستخبارات والإنذار المبكر من الفضاء. لقد ظلت أنظمة البنية التحتية باقية حتى بعد انتهاء سباق فضاء الحرب الباردة، الذي كانت ثمرة له في بدايتها؛ لأن فائدتها بررت زيادة الاستثمار الحكومي أو التجاري فيها. والواقع أن البنى التحتية للأقمار الصناعية قد شكلت الثقافات التي نعيش فيها من خلال النشر العالمي للمعلومات والترفيه. وفي تلك الأثناء، أصبح موضوع السفر إلى الفضاء الذي كان يوما ما غريبا، أمرا طبيعيا ومضمنا في الثقافة الشعبية والحياة اليومية.
الفصل الخامس
الثقافة الفلكية: رحلات الفضاء والخيال
لكي تصبح رحلات الفضاء حقيقة واقعة، كان على المرء أن يتخيلها أولا. وقد أدى ازدهار الخيال العلمي الفضائي في القرن التاسع عشر، متبوعا بالدعوة غير الخيالية إلى الفضاء في أوائل القرن العشرين، إلى نشر فكرة أن السفر إلى الفضاء لم يكن مجرد خيال. وقد نجم عن هذا نمو ما أسماه ألكسندر سي تي جيبرت، في عشرينيات القرن العشرين وما بعدها، ب «الثقافة الفلكية»: «مجموعة غير متجانسة من الصور والفنون والوسائط والممارسات التي تهدف جميعها إلى تحديد معنى للفضاء الخارجي مع إثارة كل من الخيال الفردي والجماعي.»
1
أثناء سباق الفضاء في الحرب الباردة، أصبحت رحلات الفضاء جزءا لا يتجزأ من الثقافات الوطنية للقوى العظمى، وأيضا للعديد من الدول الأخرى. ومع ذلك ، فدائما ما كانت الثقافة الفلكية تشتمل على أكثر من رحلات الفضاء، الواقعية والمتخيلة؛ لأنها استندت إلى التقاليد القديمة والإسهامات الجديدة من علم الفلك والروحانية ومفاهيم الحياة خارج كوكب الأرض. ووجود مسلسلات الخيال العلمي التي تحكي عن الفضاء مثل «حرب النجوم» («ستار وورز») و«رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») في جميع أنحاء العالم اليوم شهادة ليس فقط على أمركة الثقافة الشعبية العالمية، ولكن أيضا على التأثير الذي تركته الثقافة الفلكية على مخيلة الناس في كل مكان.
لكي تصبح رحلات الفضاء حقيقة واقعة، كان على المرء أن يتخيلها أولا. وقد أدى ازدهار الخيال العلمي الفضائي في القرن التاسع عشر، متبوعا بالدعوة غير الخيالية إلى الفضاء في أوائل القرن العشرين، إلى نشر فكرة أن السفر إلى الفضاء لم يكن مجرد خيال.
لتحليل هذه المجموعة المتباينة من الظواهر، قسمت هذا الفصل إلى خمسة أقسام موجزة: (1) ظهور «المستقبلية الفلكية»، والتي شملت كلا من الدعوة الواقعية والخيالية للسفر إلى الفضاء باعتباره مستقبل الجنس البشري. (2) مفاهيم الحياة خارج الأرض وتأثيرها على استكشاف الفضاء. (3) ازدياد وتناقص الحماس لرحلات الفضاء خلال سباق الفضاء والإعجاب الشديد برواد الفضاء. (4) تأثير رحلات الفضاء على تخيل الأرض ككوكب وضلوعها في التطور الكوني. (5) ظهور الثقافة الفلكية العالمية من خلال الترفيه الجماهيري وانتشار القدرة على القيام برحلات الفضاء خارج حدود القوى العظمى.
الخيال العلمي الفضائي والمستقبلية الفلكية
نوه الفصل الأول عن التأثير المهم لقصص الخيال العلمي المبكرة، وخاصة تلك التي كتبها جول فيرن وإتش جي ويلز، على مخيلات رواد نظرية السفر إلى الفضاء. وقد ظهر هذا الجنس الأدبي في القرن التاسع عشر في البلدان الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية بسبب تأثير التكنولوجيا إلى حد كبير. فإذا كان البشر قد استطاعوا القيام بكذا، فما الذي لا يمكننا فعله؟ وألهم إطلاق المناطيد الذي بدأ في فرنسا عام 1783 بالعديد من الحكايات حول القيام برحلة ناجحة إلى القمر خلال القرن التالي، قبل أن يثبت علم الفلك والصعود إلى الستراتوسفير أن الغلاف الجوي له حدود - على الرغم من أن الفهم الشعبي لتلك الحقيقة قد تأخر عقودا عن العلم. اقترح فيرن، مدركا لهذه الحقائق، مدفعا بدلا من المنطاد، على الرغم من أنه فشل في فهم أن التسارع اللحظي سيهلك ركابه الخياليين. واستخدم ويلز في روايته «أول رجال على سطح القمر» (1901) وكيرد لاسفيتس في روايته الألمانية المهمة التي تناولت رحلات الفضاء «كوكبان» (1897) مواد غامضة لمقاومة الجاذبية، وهي وسيلة مفضلة في خيال المؤلفين المبكرين. وهكذا، فإن السفر إلى الفضاء قد دخل في وعي الجزء المتقدم من العالم الذي يهيمن عليه البيض على الأقل، حتى لو بدت الرحلات الفعلية مستحيلة أو بعيدة جدا.
2
وجود مسلسلات الخيال العلمي التي تحكي عن الفضاء مثل «حرب النجوم» («ستار وورز») و«رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») في جميع أنحاء العالم اليوم شهادة ليس فقط على أمركة الثقافة الشعبية العالمية، ولكن أيضا على التأثير الذي تركته الثقافة الفلكية على مخيلة الناس في كل مكان.
بدأ الصاروخ غزوه لرحلات الفضاء الخيالية في عشرينيات القرن العشرين، ويرجع الفضل في ذلك جزئيا إلى الصدى العالمي لأطروحة روبرت جودارد سميثسونيان «وسيلة للوصول إلى الارتفاعات القصوى» (1919). بعد ذلك بوقت قصير، عززت أعمال هيرمان أوبرث وكونستانتين تسيولكوفسكي الاهتمام بالصاروخ كوسيلة لرحلات الفضاء، خاصة في وسط وشرق أوروبا. أدى ذلك إلى إنتاج أول أفلام واقعية تتحدث عن الفضاء: «إليتا» (1924) و«رحلة كونية» («كوزميك فويدج»، 1936) في الاتحاد السوفييتي، وفيلم «امرأة في القمر» («وومان إن ذا مون»، 1929) في ألمانيا. وبداية من أواخر عشرينيات القرن العشرين ظهرت مجلات وسلاسل أفلام خيال علمي رخيصة وجماهيرية في الولايات المتحدة، تضم قائدي صواريخ مثل باك روجرز وفلاش جوردون. كان الخيال العلمي الرديء منتشرا للغاية في الثلاثينيات من القرن الماضي لدرجة أنه أضر بمصداقية رحلات الفضاء في الولايات المتحدة وشوه كلمة «صاروخ». عندما عرض سلاح الطيران بالجيش الأمريكي تمويلا للصواريخ المساعدة للإقلاع في عام 1938، أخبر مهندس طيران رائد ثيودور فون كارمان، عالم الديناميكا الهوائية المشهور في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا ، أنه كان بإمكانه الحصول على «وظيفة باك روجرز». ولذلك عندما حصلت مجموعة كالتيك على دعم متزايد من الجيش في عام 1944، أطلقت على نفسها اسم مختبر الدفع النفاث (وليس الصاروخي).
3
بعد الحرب العالمية الثانية، أعطت رحلات صواريخ «في-2» وصواريخ التجارب شرعية جديدة لفكرة أن رحلات الفضاء يمكن أن تكون قريبة، لكن الموضوع لا يزال يحمل رائحة خيال الكتب الهزلية. وشرع المدافعون عن فكرة رحلات الفضاء في إقناع الجماهير الأنجلو أمريكية، من خلال الواقع والخيال، بوشوك السفر إلى الفضاء وأهميته. وكان العديد من الشخصيات البارزة التي قادت هذه الدعوة نتاجا لمجتمعات الفضاء بين الحربين، ولا سيما اثنين من الألمان السابقين، وهما الكاتب العلمي ويلي لي ومهندس الصواريخ فيرنر فون براون، والمؤلف البريطاني آرثر سي كلارك. وكان كلارك استثنائيا في نجاحه في نشر أعمال حول السفر إلى الفضاء سواء كانت خيالية أو غير خيالية، ولكن كتاب الخيال العلمي مثل روبرت هاينلين شاركوا مشاركة مثمرة في هذه الدعوة أيضا.
كان الخيال العلمي الرديء منتشرا للغاية في الثلاثينيات من القرن الماضي لدرجة أنه أضر بمصداقية رحلات الفضاء في الولايات المتحدة وشوه كلمة «صاروخ».
ابتكر الباحث الأدبي دي ويت دوجلاس كيلجور مصطلح «المستقبلية الفلكية» لوصف هذه الظاهرة، وكانت ذروتها في الخمسينيات من القرن العشرين. وكان المبدأ الجوهري هو أن مستقبل الجنس البشري يكمن في الفضاء. في الحقيقة، كانت رحلات الفضاء ضمانا للتقدم البشري نظرا إلى المعرفة والموارد خارج كوكب الأرض التي سوف تتيحها هذه الرحلات. وكان من بين المصطلحات المجازية الرئيسية في رؤية المستقبلية الفلكية الاستكشاف العالمي، والغزو الإمبريالي، واليوتوبية التكنولوجية، و(بالنسبة إلى الولايات المتحدة بشكل خاص) الحدود الغربية. وكانت الإنجازات البارزة في الدعوة إلى رحلات الفضاء هي كتاب لي لعام 1949 «غزو الفضاء»، مع رسومات فنان الفضاء الرائد تشيسلي بونستيل، وكتاب كلارك «استكشاف الفضاء» (1951)، وسلسلة مقالات مجلة «كوليير» الخاصة بفون براون ولي وبونستيل وغيرهم (1952-1954). وأدت السلسلة إلى ثلاثة كتب وثلاثة برامج تليفزيونية من إنتاج شركة والت ديزني (1955-1957) تضم كلا من لي وفون براون. وكانت هوليوود قد أنتجت بالفعل فيلم «الوجهة القمر» («ديستينيشن مون») وهو فيلم روائي طويل يرجع تاريخه إلى عام 1950 ويستند إلى كتاب هاينلين. فاز الفيلم بجائزة الأوسكار للمؤثرات الخاصة. ومع ذلك، فإن ما ظهر في دور السينما كان في الغالب أفلاما منخفضة الجودة مثل أفلام الرعب والوحوش. ومع ذلك، نجح مؤيدو المستقبلية الفلكية في إقناع الكثيرين في العالم الناطق باللغة الإنجليزية وفي أوروبا الغربية بوشوك القيام برحلات إلى الفضاء حتى قبل إطلاق القمر الصناعي «سبوتنيك».
4
حدثت ظاهرة موازية في الاتحاد السوفييتي في ظروف مختلفة للغاية؛ إذ بعد الحرب، بدأ مهندسو الصواريخ البارزون مثل سيرجي كوروليف، وفالنتين جلوشكو، وميخائيل تيخونرافوف، الذين شاركوا سرا في برامج الصواريخ الباليستية، حملة لإضفاء الشرعية على السفر إلى الفضاء، والذي تم التخلي عنه لمدة عقد بسبب قمع ستالين والحرب العالمية الثانية. واستغلوا ذكرى تسيولكوفسكي، الذي توفي عام 1935، في حديثهم إلى الجلسات المغلقة، وكذلك فيما نشروه أيضا في الصحافة السوفييتية بأسماء مستعارة، لتأكيد ريادة روسيا/الاتحاد السوفييتي في مجال السفر إلى الفضاء. وبعد وفاة ستالين في عام 1953، بدأ الذوبان الثقافي لخروتشوف في فتح المجتمع، وبدأ الخيال العلمي في الازدهار مرة أخرى، وزادت المقالات عن رحلات الفضاء. ونجح كوروليف وشركاؤه أيضا سرا في إقناع قيادة الحزب بمشاريع الأقمار الصناعية، مما أدى إلى صدمة «سبوتنيك».
5
شكل 5-1: يقف مهندس الصواريخ الألماني الأمريكي فيرنر فون براون أمام لوحة تشيسلي بونستيل لمجلة «كوليير» في عام 1952، حاملا نموذجا للمعزز الخاص به، للإعلان عن حلقات والت ديزني التليفزيونية عن الفضاء في 1955. بعد أن كان فون براون قائدا في برامج صواريخ الجيش الألماني والأمريكي، ثم في وكالة ناسا، جعل نفسه أيضا واحدا من أهم مروجي المستقبلية الفلكية في أمريكا في الخمسينيات من القرن العشرين (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني التابع لمؤسسة سميثسونيان).
لم تنته ظاهرة المستقبلية الفلكية بانقضاء الخمسينيات، بل إنها أصبحت، بدعم من سباق الفضاء المبكر، عملة مشتركة في الستينيات. وأصبحت رحلات الفضاء جزءا طبيعيا من رؤى المستقبل؛ بل إن الكثيرين من الجمهور والصحافة والنخبة السياسية أصبحوا يساوونها بمستقبل الإنسان. وبرز دعاة جدد للسفر إلى الفضاء، مثل عالم الفلك كارل ساجان ، الذي أصبح شخصية عامة في السبعينيات. وازدهر الخيال العلمي، لكن بتنوع رهيب، مبتعدا في الكثير من الأعمال عن التفاؤل الذي اتسمت به أصوله، وأيضا مبتعدا عن البطل الذكر الأبيض. كما أدى تراجع سباق الفضاء إلى تقويض الإيمان برحلات الفضاء باعتبارها المستقبل. وسيتم استكشاف هذه الظواهر أدناه.
الحياة خارج كوكب الأرض
من الواضح أن أفكار الحياة خارج كوكب الأرض لم تكن جديدة عند قدوم عصر رحلات الفضاء. واندمجت الثورة العلمية في أوروبا الحديثة المبكرة مع الاعتقاد المسيحي لتخلق توقعا بأن القمر والكواكب تسكنها مخلوقات ذكية أخرى، وإلا فلم خلق الله تلك الأماكن؟ ولاقت فكرة «تعددية العوالم» قبولا على نطاق واسع في أدب القرنين السابع عشر والثامن عشر. وفتح ازدهار الخيال العلمي الفضائي في القرن التاسع عشر مجالا آخر لتخيل لقاءات الكائنات الفضائية.
6
وقد أدى تزايد المعرفة الفلكية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى إيماننا بأن معظم الكواكب التي يضمها نظامنا الشمسي غير صالحة للسكن، ولكن كان له تأثير معاكس على تصوراتنا فيما يخص كوكب المريخ. فبعد أن اقترب الكوكب الأحمر في عام 1877 من كوكب الأرض، ادعى عالم الفلك الإيطالي جيوفاني شياباريللي أنه رأى
canali
مستقيمة، وهي كلمة تعني «قنوات». وبعد موجة من الحماس الشعبي بعد اقتراب آخر لكوكب المريخ من الأرض في عام 1892، أصبح رجال المريخ موضوعا للعديد من قصص الخيال العلمي مثل «حرب العوالم» بقلم ويلز (1897) و«كوكبان» بقلم لاسفيتس (الذي صور فيه رجال المريخ على أنهم صالحون). وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نشر عالم الفلك الأمريكي بيرسيفال لويل كتبا تدعي أن القنوات تمثل العمل اليدوي لحضارة متقدمة. كما كانت هناك نقاشات متكررة حول كيفية التواصل مع الكوكب الأحمر أو، بعد ظهور الراديو، الاستماع إلى رسائلهم.
7
كما كان كوكب الزهرة المغلف بالسحب، والأقرب إلى الأرض من حيث المسافة والحجم، موضوعا للتخمين والتنبؤ. وعندما نشأت حركة رحلات الفضاء بين الحربين العالميتين، تحدث دعاتها بطبيعة الحال عن قوة تكنولوجيا الصواريخ لاستكشاف هذه الألغاز.
بعد الحرب العالمية الثانية ، أضافت ظاهرة الأجسام الطائرة المجهولة (
UFO ) بعدا آخر. وقد بدأت هذه الظاهرة في عام 1947 عندما أبلغ طيار كان يحلق فوق ولاية واشنطون عن رؤية أقراص فضية تناور بالقرب منه، والتي سرعان ما أطلق عليها الإعلام «الأطباق الطائرة». وكانت للمشاهدات العديدة التي تلت ذلك سوابق؛ إذ يبدو أن العديد من موجات مشاهدات المناطيد الغامضة في بريطانيا والولايات المتحدة وأماكن أخرى بين العقد الثامن من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين مستوحى من تقارير الاختراعات الجوية والخوف منها في أيدي العدو. في عام 1946-1947، ادعى سكان الدول الاسكندنافية وشمال أوروبا أنهم رأوا «صواريخ شبحية»، وهي حالة أخرى محتملة للإيحاء الجماعي الذي شكله اختبار صواريخ «في-2» الألمانية فوق بحر البلطيق في الحرب العالمية الثانية والخوف من أن يفعل السوفييت نفس الشيء. استمرت موجة الأجسام الطائرة المجهولة لفترة أطول بكثير من أي من الموجات السابقة، ربما لأنها كانت نتاجا ثانويا للخوف من الأسلحة الغريبة والانبهار بها في أثناء الحرب الباردة. ولم تكن الفرضية القائلة بأن الأجسام الطائرة المجهولة أجسام فضائية هي التفسير الوحيد؛ فقد كان هناك الكثير من التكهنات المبكرة حول الطائرات الأمريكية والسوفييتية السرية، على الرغم من أن هذا التفسير قد تراجع بعد أن أصبح التطوير الفعلي للأسلحة على كلا الجانبين معروفا بشكل أفضل. هناك دليل آخر يشير إلى أن الحرب الباردة كانت مؤثرة وهو أن الاهتمام الجماهيري بالأجسام الطائرة المجهولة قد تراجع بعد انتهاء تلك الحقبة. ولم تحظ فرضية الأجسام الفضائية بأي جاذبية بين النخب العلمية والعسكرية والسياسية، ومن ثم لم يكن لها تأثير على برامج الفضاء الوطنية، ولكن تأثيرها على تطوير الثقافة الفلكية كان على أية حال تأثيرا ملحوظا، من خلال أفلام الخيال العلمي التي تتناول الفضاء، والتغطية الإعلامية المتكررة، وتطوير ثقافات فرعية معقدة من المؤمنين بهذه الفرضية.
8
كان للاستكشاف الفعلي للقمر والكواكب الذي بدأ في الستينيات تأثيرات حاسمة على تصورات الجمهور للحياة خارج كوكب الأرض. وسرعان ما قوضت المركبة الفضائية الأمريكية «مارينر» الأمل الذي كان في سبيله إلى التلاشي بالفعل في أن أشكال الحياة الأكبر، أو حتى الكائنات الحية الأحادية الخلية، قد تكون موجودة على كوكب الزهرة والمريخ. كانت درجات الحرارة في كوكب الزهرة ساخنة بما يكفي لإذابة الرصاص، في حين بدا كوكب المريخ مثل صحراء باردة ملأى بالفوهات. وقد جعل التصوير الفوتوغرافي المداري المكثف للمريخ في السبعينيات هذا الكوكب أكثر إثارة للاهتمام مرة أخرى، بسبب الدور الواضح الذي لعبته الفيضانات في ماضيه البعيد، لكن فشل «فايكينج» في اكتشاف أي حياة في عام 1976 أنهى بالفعل عملية استكشاف المريخ الأمريكية لمدة عشرين عاما. وأوضحت استطلاعات الرأي العام أن الحياة خارج الأرض كانت دائما دافعا قويا للدعم العام والسياسي لاستكشاف الفضاء. ولعل أي اكتشاف مبكر للحياة كان سيغير جذريا مسار تاريخ الفضاء. ولكن العكس تماما هو ما حدث؛ حيث عززت النتيجة السلبية للبحث عن حياة خارج كوكب الأرض تراجع الاهتمام الجماهيري وتمويل الدولة لرحلات الفضاء التي تلت سباق القمر.
9
ومع ذلك، استمر افتتان الجماهير بالحياة خارج كوكب الأرض، مما أدى إلى التحول في الموقع المتصور للحياة الذكية إلى الفضاء بين النجوم والأنظمة النجمية الأخرى. في بداية الحرب الباردة، عندما كان ينظر إلى الأجسام الطائرة المجهولة على أنها كائنات فضائية، تحدثت الصحافة والجمهور غالبا عن «رجال المريخ». وعندما وأد استكشاف الفضاء كل أمل في وجود حياة ذكية في النظام الشمسي، بل حتى في وجود أي حياة تتجاوز الكائنات الحية البسيطة، تحول تركيز الثقافة الفرعية للأجسام الطائرة المجهولة والخيال العلمي السائد إلى السفر بين النجوم. لم تكن فكرة جديدة، لكنها سرعان ما أصبحت محط الاهتمام الرئيسي لتمثيل كيفية مواجهة البشر للكائنات الفضائية، لا سيما في الأفلام - سواء كانت لدينا تلك القدرة التكنولوجية أو لديهم أو كانت لدى كلينا. أظهر ستانلي كوبريك في عام 1968 في فيلمه «2001: ملحمة الفضاء» («2001: أ سبيس أوديسي») وستيفن سبيلبيرج في فيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث» («كلوز إنكونترز أوف ذا ثيرد كايند») عام 1977 وفيلم «إي تي» في عام 1982 الكائنات الفضائية كشخصيات طيبة تأتي إلى كوكب الأرض، في حين جسد المسلسل التليفزيوني والسينمائي «رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») تحول الاستكشاف البشري إلى الفضاء المتخيل بين النجوم. وفي الوقت نفسه ظهرت رؤى أكثر تشاؤما للحياة خارج كوكب الأرض، كما في فيلم «إيلين» (1979) للمخرج ريدلي سكوت، وأجزائه اللاحقة، والتي كانت بمثابة الوجه الآخر للعملة نفسها.
أثر التوسع في الأدوات والإمكانيات الفلكية أثناء الحرب الباردة على الثقافة الفلكية والمفاهيم العلمية للحياة خارج الأرض أيضا. كما أدى توفر التليسكوبات الراديوية الكبيرة إلى قيام عالم الفلك الأمريكي فرانك دريك باقتراح الاستماع إلى النجوم القريبة بحثا عن أي إشارات لحضارات خارجية. وولدت هذه الفكرة مجالا فرعيا جديدا؛ ألا وهو البحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض (
SETI )؛ وأصبح كارل ساجان واحدا من أكثر المدافعين عن هذه الفكرة ومن أكثر مروجيها إقناعا، تماما كما كان عندما كان يبحث عن حياة في النظام الشمسي. أصبحت رواية الخيال العلمي الخاصة به التي تتناول البحث عن الذكاء خارج الأرض: «الاتصال» («كونتاكت»، 1985)، فيلما من أفلام هوليوود في عام 1997، وهذا الفيلم عرف الجمهور العالمي بهذه الفكرة بطريقة لم تحققها التغطية الإعلامية. وكان لبحث علم الفلك المحترف عن أدلة على وجود أنظمة كوكبية أخرى تأثير أكثر وضوحا، ولا سيما بعد الإنجاز التكنولوجي الذي تحقق في التسعينيات وأدى إلى الكشف الفعلي عن كواكب خارج المجموعة الشمسية. وقد عزز الاكتشاف اللاحق لآلاف من الأنظمة، ولا سيما من خلال تليسكوب كيبلر الفضائي التابع لوكالة ناسا، الرسالة القائلة بأن هناك الكثير من المواقع المحتملة للحياة خارج كوكب الأرض.
10
وما زال البحث عن الحياة جاريا، وما زال يشكل دعم الجماهير لبرامج الفضاء ودعمهم الأوسع للثقافة الفلكية. وقد أعاد علم الأحياء الفلكي إحياء البحث في النظام الشمسي من خلال التأكيد على أشكال الحياة الغريبة على الأرض وكيف يمكن أن تنطبق على مواقع جديدة، مثل المحيطات الموجودة تحت سطح الأقمار الجليدية للمشتري وزحل. وقد كانت الحياة هي السياق العلمي عندما استؤنف برنامج المريخ الأمريكي في نهاية التسعينيات باستراتيجية «اتبع المياه » - على الرغم من أن الأمل قد انحسر في العثور، في أحسن الأحوال، على كائنات وحيدة الخلية تحت الأرض أو أحافير لها في الصخور. وقد عكست الأفلام الحديثة هذه المهام (على سبيل المثال، فيلم «تقرير أوروبا» («يوروبا ريبورت»، 2013) أو «الحياة» («لايف»، 2017)) على الرغم من أن الكائنات والأوساط بين النجمية لا تزال مهيمنة على الترفيه الجماهيري، وغالبا ما يراعى الحد الأدنى لقوانين الفيزياء. وهكذا، وبغض النظر عن النتائج الفعلية لبعثات الفضاء وعلم الفلك، تظل الكائنات الفضائية موضوعا منتشرا في الثقافة الفلكية.
سباق الفضاء والإعجاب الشديد برواد الفضاء
كان أول قمرين صناعيين من نوع «سبوتنيك» بالفعل موضوعا للأغاني والقصائد، ولا سيما الكلبة لايكا المسكينة التي كانت على متن القمر الصناعي «سبوتنيك 2». لكن الظهور السريع لرحلات الفضاء المأهولة، المدفوعة بسباق الفضاء، جنبا إلى جنب مع القومية وتعرف الجمهور بشكل أكبر على ما يمكن أن يمر به البشر في الفضاء، يعني أن الإنتاج الثقافي المرتبط ببرامج الفضاء الحقيقية أصبح يتمحور بأكمله تقريبا حول رواد الفضاء. وقد أضحى رواد الفضاء السبعة على متن المركبة «ميركوري» أبطالا فور إعلان ناسا اختيارهم في أبريل 1959؛ إذ كان على رواد الفضاء أن ينتظروا الشهرة حين تحين رحلتهم الأولى، هذا إذا حصلوا على واحدة، فتلك كانت السرية التي هوس بها السوفييت. وضع الجانبان الأمريكي والسوفييتي مبادئ متوازية؛ إذ كان رواد الفضاء طيارين بطوليين، ذكوريين في الغالب، ومواطنين نموذجيين، وآباء، ووطنيين، ومؤمنين حقيقيين بأنظمتهم السياسية. وبوصفهم ممثلين دوليين، كانوا مبعوثين للسلام، على الرغم من أنهم كانوا في الغالب ضباطا في الجيش (في المجموعات الأولى). كانت هذه المبادئ مدعومة من الحكومة، لكنها كانت حقيقية أيضا بالنسبة إلى العديد من الناس في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وحلفائهم.
11
كان النجاح الجماهيري لرواد الفضاء الأمريكيين يصل إلى درجة أن الطيار المقاتل/التجريبي أصبح على الفور صورة رائد الفضاء البطل في السينما والتليفزيون الأمريكي، مزاحما بذلك التجسيدات السابقة للعلماء والمغامرين وغيرهم. ومن بعد هذا الوقت (وإلى حد بعيد من قبله أيضا) كان العلماء الذين يظهرون في حبكات الأفلام، يميلون إلى أن يكونوا مهووسين أو معرقلين أو غير أكفاء أو أشرار. وعندما اختارت ناسا رواد فضاء من العلماء الحقيقيين بدءا من عام 1965، وجدوا دورهم هامشيا، حيث كان رواد الفضاء الطيارون يسيطرون تماما على المهام. ولم يصعد إلى الفضاء إلا أربعة فقط قبل عصر مكوك الفضاء.
12
في الاتحاد السوفييتي، كان رواد الفضاء ورثة للطيارين الأبطال السابقين، الذين حققوا مآثر مختلفة لستالين في الثلاثينيات. ومع ذلك، لم يؤكد إعلام الدولة على دورهم كطياريين بدرجة كبيرة، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الحزب الشيوعي كان يكره الفردية، وجزئيا إلى أن رواد الفضاء السوفييت كانوا طيارين مقاتلين صغار السن وعديمي الخبرة نسبيا - ومن ثم صمم كوروليف ومهندسوه مركبة فضائية أوتوماتيكية بالكامل حيث كان لدى رائد الفضاء القليل من القدرة على التحكم. واضطر رواد الفضاء في وقت لاحق إلى خوض صراع خلف الكواليس من أجل مزيد من التحكم؛ حيث أصبحت المركبات أكثر تعقيدا. كما وجدوا أنفسهم يواجهون تحديا من قبل فئة جديدة من رواد الفضاء المهندسين، غالبا ما يتم اختيارهم من مكتب تصميمات كوروليف.
13
ووجد رواد الفضاء الذين طاروا أنفسهم عالقين في معضلة. وبما أن الدعاية السوفييتية كانت تروج لأن كل المهام التي أنجزت في الفضاء كانت ناجحة وكل شيء يسير وفق خطة مسبقة، وكل تفاصيل المركبات الفضائية والصواريخ من أسرار الدولة، فقد أجبروا على التلاعب أو عدم الأمانة أمام الجماهير، في الوقت الذي كانوا يعتبرون نماذج تجسد «الصدق الاشتراكي». وقد بدأ هذا مع جاجارين، الذي اضطر إلى التستر على إعادة دخوله المروعة بسبب فشل المعدات، بالإضافة إلى قذفه وهبوطه بمظلة لأن مركبة «فوستوك» الفضائية لم تستطع أن تبطئ بما يكفي ليهبط ركابها بأمان على الأرض. وكانت قواعد الطيران الدولية تتطلب أن يهبط في مركبته لكي تسجل هذه الرحلة كأول رحلة فضائية مأهولة، لذلك أمر السوفييت جاجارين بالكذب بشأنها. وأصبح بطلا قوميا وعالميا، وقام بجولة في العديد من البلدان، وألقى العديد من الخطابات للحزب، ومع ذلك كان عليه تحمل جميع الأكاذيب التي حوصر هو وزملاؤه فيها. وربما يكون هذا التوتر والضغط النفسي قد أسهم في إدمانه الكحول وعلاقاته النسائية المتعددة، على النقيض تماما من الصورة التي رسمها له الجمهور.
14
إن سلسلة النجاحات التي ساقتها الدعاية السوفييتية من عام 1961 إلى عام 1965 لم تهيئ الجمهور السوفييتي للوفيات المفاجئة والكوارث المفجعة التي وقعت في وقت لاحق من هذا العقد، والتي انتهت بالفشل في مواكبة أي من النجاحات التي حققها رواد فضاء المركبة «أبولو» في القمر. كان ثمة ثلاث وفيات صادمة بشكل خاص؛ ألا وهي: وفاة سيرجي كوروليف على طاولة العمليات في يناير 1966 في سن التاسعة والخمسين (كشف نعيه أنه كان حتى الآن كبير المصممين المجهول ولكن المشهور في الوقت ذاته)، ووفاة فلاديمير كوماروف أثناء تحطم مركبته الفضائية «سويوز 1» في أبريل 1967، ووفاة يوري جاجارين في حادث طائرة تدريب في مارس 1968. فيما يتعلق بالوفاة الأخيرة على وجه الخصوص، تداول المواطنون السوفييت نظريات المؤامرة والشائعات في مجتمع غارق فيها بالفعل بسبب عدم وجود صحافة نزيهة. أما «الحماس الكوني» الحقيقي الذي انتشر على نطاق واسع في أوائل الستينيات، عندما كان الاتحاد السوفييتي يبدو الأول في العالم، ولم يكن المجتمع الشيوعي المثالي بعيدا جدا، فقد تحول إلى تشكك سنوات ركود الاتحاد السوفييتي السابق، وأخيرا إلى الحنين القومي الروسي إلى الأيام الخوالي في الفضاء. أما بالنسبة إلى برنامج الفضاء المأهول الفعلي، فإن التحول إلى محطات الفضاء في السبعينيات وما بعدها لم يستطع ببساطة الحفاظ على نفس المستوى من الاهتمام لدى الجمهور، على الرغم من أنها كانت تثير الاهتمام أحيانا على نحو متقطع. مثل رواد الفضاء الأمريكيين في عصر المكوك، تم تبجيل رواد الفضاء عندما يتم التعامل معهم كأفراد، لكن أسماءهم أصبحت غير معروفة للجمهور.
15
بدأ التحرر من وهم برنامج الفضاء المأهول في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات أيضا، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى أعمال الشغب الحضرية والفقر والجريمة والانغماس في مستنقع فيتنام، مما أدى إلى تزايد المقاومة لإنفاق أموال الضرائب على الفضاء، وتزايد عدم الثقة بالنخب التكنوقراط والسياسيين. وقد عكست سنة إنجاز «أبولو» المجيدة من أواخر عام 1968 إلى أواخر عام 1969 مؤقتا تراجع الدعم الشعبي لوكالة ناسا، لكنها لم تغير المسار العام. وفي أعقاب «أبولو 11» مباشرة، أظهرت استطلاعات الرأي دعما ضعيفا لإجراء المزيد من عمليات الهبوط على سطح القمر، ناهيك عن البرامج الطموحة مثل الذهاب إلى المريخ. ونشأت في ذلك الوقت نظرية المؤامرة التي تقول إن عمليات الهبوط تلك كانت مزيفة، مما يعكس إيمانا بكذب الحكومة الفيدرالية في عهد فيتنام وووترجيت. واستعانت إدارة نيكسون بالرأي العام وخفضت ميزانية وكالة ناسا أكثر، مبقية على المكوك فحسب. ومن ثم تحولت الوكالة اليائسة إلى التأكيد على النتائج الثانوية لأبحاث الفضاء وإسهامها في تنظيف البيئة. في الثمانينيات، ساعدت الرحلات المكوكية المبكرة في إعادة بناء الفخر الوطني والاهتمام برحلات الفضاء، لكن رواد الفضاء ظلوا مجهولين، فيما عدا عددا قليلا وهم الذين حققوا إنجازات بارزة مثل سالي رايد، التي أصبحت في عام 1983 أول امرأة أمريكية تصعد إلى الفضاء.
16
كان الجنس، وكذلك العرق، يعقدان دائما الصورة الفائقة الذكورة لرائد الفضاء الطيار البطل. وقد تعارض رفض وكالة ناسا للطيارين من النساء في أوائل الستينيات مع رحلة فالنتينا تيريشكوفا في عام 1963، مما جعل الولايات المتحدة تتطلع إلى الوراء إلى دعاة الحركة النسائية في الداخل والخارج، على الرغم من أنها لم تغير الدعم الذي تقدمه لوكالة ناسا بشكل ملحوظ حتى الآن. وعانت وكالة ناسا من مشكلة علاقات عامة أخرى في سلاحها الأبيض بالكامل؛ إذ فشل المرشح الأسود المحتمل الذي دفعته إدارة كينيدي في التقدم في مدرسة الطيران التجريبي للقوات الجوية إما بسبب إمكانياته المحدودة أو بسبب التمييز، بناء على من تستمع له. وقد أسهم عدم وجود رواد فضاء سود في الانخفاض الحاد في الحماس للفضاء في مجتمع الأمريكان الأفارقة في أواخر الستينيات، على الرغم من أن الدافع الأساسي لهذا الانخفاض كان هو الشعور بأن الأموال كانت تبدد على القمر عندما كان من الممكن إنفاقها على الفقراء والمدن الداخلية (الأحياء ذات الدخل المنخفض) - وهو شعور يشارك فيه معظم الليبراليين واليساريين البيض.
17
عندما سمح برنامج المكوك بإعادة فتح وكالة ناسا لتجنيد رواد الفضاء في منتصف السبعينيات، كان ذلك في بيئة سياسية وثقافية وقانونية مختلفة. كان التمييز على حسب الجنس والعرق الآن قد أصبح غير قانوني رسميا، مما أثمر عن اختيار أول رواد الفضاء من النساء والسود في عام 1978. ومع ذلك، كان رد فعل وسائل الإعلام على أول رائدة فضاء يعتبر جنسانيا ويفتقر إلى الحساسية إلى حد بعيد، وكان المهندسون الذكور في وكالة ناسا في كثير من الأحيان جهلة إلى حد ما.
18
من ناحية أخرى، ألهمت رحلة تيريشكوفا الكثير من النساء والفتيات في الكتلة الشرقية، ولكن الدعاية حول كيف أظهرت تلك الرحلة مساواة المرأة بالرجل في المجتمعات الاشتراكية تم تقويضها بواسطة الإحجام عن إرسال النساء إلى الفضاء لمدة تسعة عشر عاما. وأرسل السوفييت أخيرا سفيتلانا سافيتسكايا إلى الفضاء في عام 1982 بهدف واضح وهو منع سالي رايد من أن تصبح ثاني امرأة تصل إلى الفضاء. بمرور الوقت، قامت برامج المكوك والمحطة الأمريكية والسوفييتية/الروسية بتطبيع التنوع الجنسي والعرقي للطواقم (جزئيا من خلال إطلاق أفراد الطاقم من العديد من الدول الأخرى)، ولكن حتى يومنا هذا لم تستبدل نموذج رائد الفضاء الطيار الذكوري في الثقافة الشعبية.
19
ولا يزال أيضا الارتباط في أذهان العامة بين رحلات الفضاء المأهولة و«برنامج الفضاء» منتشرا حتى الآن، لدرجة أنه عندما انتهى برنامج المكوك في عام 2011، اعتقد العديد من الأمريكيين أن وكالة ناسا قد أغلقت.
الكوكبة والتطور الكوني
إن التأثير الأكثر عمقا لرحلات الفضاء على الوعي والثقافة، وربما يكون الأصعب من حيث الإثبات، هو كيف شكلت الصور الفضائية والاكتشافات العلمية إدراكنا لكوكبنا ومكاننا في الكون. إن القليل من المنح الدراسية المتوفرة حول هذا الموضوع كان حول الصور التي التقطتها «أبولو» للأرض وتشكيل ونشر الصور التي التقطت من قبل تليسكوب هابل الفضائي. وثمة سؤال ذو صلة، ولكن من الصعب الإجابة عنه؛ ألا وهو: ما مدى تأثير الصور والمعرفة الفضائية على تغيير الإدراك البشري لهدفه ومكانه في الكون - وهو سؤال يثار بطبيعة الحال في مجال الدين والفلسفة.
لا يزال الارتباط في أذهان العامة بين رحلات الفضاء المأهولة و «برنامج الفضاء» منتشرا حتى الآن، لدرجة أنه عندما انتهى برنامج المكوك في عام 2011، اعتقد العديد من الأمريكيين أن وكالة ناسا قد أغلقت.
وقد نسب الكثير إلى صورتين التقطتهما «أبولو» واكتسبتا أسماء غير رسمية بسبب انتشارهما في كل مكان: «شروق الأرض»، التي التقطها رواد فضاء «أبولو 8» من فوق القمر في ديسمبر 1968، و«الأرض الكاملة» (ويطلق عليها أيضا «الرخام الأزرق») وهي صورة التقطتها «أبولو 17» من بعد الإطلاق في ديسمبر 1972 وتظهر جانب النهار المضاء بالكامل مع التركيز على أفريقيا والجزيرة العربية. لم تكن هاتان الصورتان هما أول صور تلتقط للكوكب في الفضاء، بأي حال من الأحوال، كما لم تكونا أول تصورات للأرض؛ فقد وصف الكتاب اليونانيون الرومانيون وكتاب عصر النهضة والعصر الحديث المبكر ما قد تبدو عليه. وتضمنت كتب الفلك الشهيرة رسوما توضيحية للأرض منذ وقت مبكر للغاية يصل إلى القرن التاسع عشر. وقد انبهر الكثيرون بالمناظر الفاتنة التي التقطتها بالونات الستراتوسفير والصواريخ التجريبية والبعثات المأهولة المبكرة التي تظهر السحاب والمناظر الطبيعية والأفق المنحني. في عام 1966، التقطت المركبة الفضائية «لونار أوربيتر 1» أول صورة ل «شروق الأرض» والتقط القمر الصناعي لتكنولوجيا تطبيقات ناسا صورة قريبة من صورة «الأرض الكاملة» من المدار الجغرافي الثابت للأرض. ومع ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار التأثير الفريد لصور «أبولو» الواضحة والملونة بالكامل، مقارنة بالصور المشوشة بالأبيض والأسود؛ وما أضاف إلى جاذبية هذه الصور، هو أنها التقطت بواسطة بشر وليس آلات. لم تتحول كل من «شروق الأرض» و«الأرض الكاملة» إلى أيقونات إعلامية فحسب، بل أصبحتا أيضا شائعتين في اللافتات وإعلانات الحركات البيئية في السبعينيات وما بعدها. في الواقع، كثيرا ما أرجعت وسائل الإعلام الغربية الفضل في ظهور الحركة البيئية الحديثة إلى صور «أبولو» لكوكب الأرض الهش الذي يفتقر إلى الحدود، متجاهلة أصول تلك الحركة وتاريخها السابق. ومع ذلك، فإن وجود الصورتين في كل مكان دليل على أنهما قد غيرتا بطريقة ما الثقافة الفلكية والإدراك البشري.
20
شكل 5-2: في 24 ديسمبر 1968، أثناء أول بعثة بشرية تصل إلى القمر، التقط رائد فضاء المركبة «أبولو 8» ويليام أندرس الصورة الفضائية الأكثر تأثيرا على الإطلاق. وسرعان ما أطلق عليها اسم «شروق الأرض»، وانتشرت انتشار النار في الهشيم؛ إذ إنها تمثل بالنسبة إلى الكثير جمال كوكب الأرض المنعزل وهشاشته في ذلك الكون الفسيح. وكانت هذه الصورة وغيرها من الصور التي التقطتها «أبولو» جوهريتين في «كوكبة» الهوية البشرية في عصر الفضاء (المصدر: وكالة ناسا).
قبل سنوات من «سبوتنيك»، أطلق الفيلسوف الفرنسي بيير تيلار دي شاردان على عملية التصالح مع كون وطننا مجرد كوكب واحد في الفضاء اسم «الكوكبة». وأنا أتفق مع جيبرت في أن هذا المفهوم يمكن تمييزه على نحو مفيد عن مفهوم العولمة.
21
إن دمج ثقافات العالم واقتصاداته وأنظمته الحكومية يشكل تصورات الإنسان لكوكب الأرض أيضا - ولكن إلى حد كبير كمسائل تتعلق بالهوية كأعضاء في الجماعات الإثنية والوطنية في مقابل الإنسانية المشتركة. إن رؤية الأرض في الفراغ، وهي جزء من كون شاسع لا يمكن سبر أغواره، وإدراك أنها المكان الوحيد الذي نعرفه يدعم الحياة، على الأقل الحياة التي نعرفها حتى الآن، يخلق تجربة عاطفية مختلفة تماما عن تخيل العالم كمجموعة مترابطة من المجتمعات البشرية، شئنا أم أبينا.
والسؤال ذو الصلة هو تأثير المعرفة المتزايدة بالمسافات الشاسعة، ومقياس الوقت، وتطور الكون، وهو سؤال غالبا ما يتضافر مع المناقشات حول احتمالية وطبيعة الحياة خارج الأرض. كان كارل ساجان، في أعماله الجماهيرية ومرات ظهوره العديدة في التليفزيون في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، مؤثرا بشكل خاص في محاولته لخلق وعي بمكاننا في الكون وكيف يرتبط بماضي الجنس البشري ومستقبله. ونظرا إلى رسوخه المعروف في علم الفلك، وفي الاستكشاف الآلي للكواكب، وفي شبكة العلماء المهتمين بالبحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض، فقد قدم رحلات الفضاء في سياق مختلف تماما عما قدمه دعاة المستقبلية الفلكية من الجيل الأول؛ فقد أرادوا الدعوة إلى السفر إلى الفضاء باعتباره المستقبل الفوري والمرغوب للبشرية. أما ساجان فقد برز كمروج للسفر إلى الفضاء بعد أن فقد سباق الفضاء زخمه وفقدت رحلات الفضاء المأهولة بعض بريقها. كان ساجان مهووسا منذ الطفولة بالحياة خارج كوكب الأرض، كما بحث في الأصول الكيميائية والبيولوجية للحياة، وأيضا في علوم الكواكب السائدة، ومن ثم فقد قدم الإنجاز البشري لرحلات الفضاء في سياق مليارات السنين من «التطور الكوني». وقد نشأ هذا المفهوم في منتصف القرن العشرين عندما ربط العلماء والفلاسفة نظرية نشأة الكون من خلال الانفجار العظيم (الذي أثبتت الأدلة الفلكية التجريبية صحته في الستينيات) بنظريات السدم التي كونت النجوم والكواكب، ونظرية أصول الحياة، ونظرية التطور الدارويني، في تفسير واحد ضخم وطبيعي (وإلحادي ضمنيا) لتاريخ كل شيء. وقد نجح ساجان في إقناع ملايين القراء ومشاهدي التليفزيون بهذا المنظور الكبير في الولايات المتحدة، وفي العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وما وراء ذلك.
22
هل هذا يعني أن التطور الكوني أصبح عاملا مؤثرا في كيفية تخيل معظم الناس لمكانهم في الكون؟ بالنظر إلى الفهم الضعيف للعلم حتى في الأجزاء المتميزة من العالم، وأيضا بالوضع في الاعتبار استمرارية ورسوخ الديانات التقليدية في كل مكان، يبدو ذلك غير محتمل على الإطلاق، وعلى أي حال، ليس ثمة دراسات علمية تثبت مثل هذه الفرضية بطريقة أو بأخرى. ومع ذلك، لا يمكن الاستهانة بتأثير ساجان على الثقافة الفلكية وإدراك الإنسان لذاته، نظرا إلى شعبيته، ولا بتأثير كتاب العلوم والعلماء الآخرين الذين تبعوه، مثل نيل ديجراس تايسون.
بمجرد إصلاح تليسكوب هابل الفضائي في عام 1993، أضافت صوره بعدا آخر لتخيل الجماهير للكون. واستجاب العلماء في معهد علوم تليسكوب الفضاء الممول من وكالة ناسا إلى الاهتمام الجماهيري المكثف من خلال تأسيس مشروع تراث هابل، لمعالجة الصور التي من المحتمل أن تكون ذات أهمية خاصة للجمهور غير المتخصص. واستخدم الفريق تقنيات مثل الألوان الزائفة والاعتبارات الجمالية لاتخاذ خيارات حول كيفية عرض البيانات الرقمية. ويبدو أن تأثيرها هو إنتاج لوحات رومانسية وصور فوتوغرافية للمناظر الطبيعية، لا سيما في الغرب الأمريكي.
23
عالج المشروع الصور لإبراز نقاط علمية معينة بينما أثار إعجاب الجمهور بجمال الكون. وقد وسعت وكالة ناسا هذه العملية من خلال الجمع بين الصور من المراصد الكبرى المختلفة، وتراكب بيانات الأشعة السينية أو الأشعة تحت الحمراء لنفس الأجسام من أجل جعل المحتوى العلمي أكثر جاذبية ومفهوما بدرجة أكبر. ويبدو أن الرغبة في مثل هذه الصور، كما يتضح من شعبية صور التليسكوب الفضائي في وسائل الإعلام، وعلى الإنترنت، وفي الكتب، تشير إلى أن هذه الجهود قد وصلت إلى جمهور مرحب، وتجاوزت الهدف المرجو منها، وهو بيع برامج وكالة ناسا.
هل هذه الأمثلة المعزولة إلى حد ما، والأمريكية في أغلبها، تظهر أن البشرية قد تمت «كوكبتها» وحققت وعيا بالتطور الكوني؟ بصعوبة. ومع ذلك فإنها تظهر أن صور الفضاء قد شكلت الثقافة الفلكية وخيال الجمهور على الأقل في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وربما أيضا في معظم أنحاء العالم. ولكن إثبات ما هو أبعد من ذلك، يحتاج إلى المزيد والمزيد من الدراسة.
عولمة الثقافة الفلكية
إن وصف الانتشار العالمي للثقافة الفلكية غير المتجانسة والمتعددة الأوجه لهو أمر شديد الصعوبة، بالنظر إلى قلة ما كتب عن أي شيء سوى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وأوروبا. ومع ذلك، يمكننا أن نناقش بإيجاز شديد الانتشار العالمي لدعوة الفضاء، وصور رحلات الفضاء، والخيال العلمي.
كان الخيال العلمي والمستقبلية الفلكية في البداية ظاهرة شبه أوروبية- أمريكية ذكورية تقريبا، اعتبر فيها التسلسل الهرمي الاجتماعي والعرقي والجنساني أمرا مسلما به في أغلب الأحيان. وكان «غزو الفضاء» في المستقبل يوضع في سياق تاريخ متصور تقليديا من الاستكشاف العالمي الأوروبي والاستيطان الغربي والتفوق التكنولوجي. تركزت حركة الفضاء المبكرة بشكل كبير في روسيا/الاتحاد السوفييتي، والنمسا، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، نظمت مجتمعات أوروبا الغربية أول مؤتمر دولي للملاحة الفضائية (1950) والاتحاد الدولي للملاحة الفضائية (1951)، ثم سرعان ما دمجت التمثيل الأمريكي والسوفييتي. ولكن في أعقاب «سبوتنيك»، ظهرت المجتمعات المؤيدة في جميع أنحاء العالم، بالتزامن مع برامج فضاء متواضعة وموسعة في بعض الأحيان. وأرسلت القوى العظمى مركبات الفضاء ورواد الفضاء، بالإضافة إلى المنشورات والأفلام والمعارض، إلى القارات كافة، كجزء من صراعها العالمي من أجل التأثير. وخرج مواطنو أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا بأعداد غفيرة لجولات المركبات الفضائية ورواد الفضاء؛ وكثيرا ما كانوا يرون إنجازات الفضاء على أنها ملك للإنسانية بأسرها، وليست فقط ملكا لدولة واحدة أو كتلة من كتلتي الحرب الباردة.
24
وما يعنيه ذلك للثقافة الفلكية في تلك البلدان والقارات يحتاج إلى دراسة. كتمرين فكري، أود أن أقارن بين الظروف المحيطة بنشر أفكار وصور رحلات الفضاء في اليابان والصين، وهما دولتان آسيويتان سرعان ما أصبحتا قوتين مهمتين في مجال الفضاء. اندمجت اليابان الرأسمالية الديمقراطية في فترة ما بعد الحرب في الغرب وبنت برنامجها الفضائي بالتعاون مع الولايات المتحدة وجزئيا من خلال مؤسساتها الخاصة، مما أدى إلى برنامج فضائي مأهول استخدم الصواريخ الأمريكية والروسية لنقل رواد الفضاء اليابانيين. استوردت ثقافة اليابان المفتوحة أدبا وقصص خيال علمي وبرامج تليفزيونية وأفلاما عن الفضاء من أوروبا وأمريكا، كما أنتجت أخرى خاصة بها. وعلى النقيض من ذلك، طورت الصين الشيوعية برنامجا فضائيا عسكريا سريا على النموذج السوفييتي، لكنها فتحت مجتمعها بعد الثمانينيات من القرن الماضي أمام اقتصاد رأسمالي جزئي وتدفق خاضع للسيطرة، ولكنه لا يزال أكثر حرية، للمعلومات والسياحة والترفيه عبر حدودها. ومن أجل بناء القدرة العلمية والتكنولوجية والتدليل على تلك القدرة على النطاق الدولي، أنشأت الحكومة برنامجا مأهولا للفضاء ثم برنامجا آليا للقمر والمريخ. وظلت الدعاية والمعلومات الحكومية حول الفضاء محورية بالنسبة إلى الثقافة الفلكية الصينية في مجتمع لا يزال يسيطر عليه الحزب سيطرة محكمة. ولكن بعد أن أطلقت الصين أول رائد فضاء في أكتوبر 2003، أصبح مشهورا على النطاق الوطني في ظل ثقافة إعلامية جديدة حطمت حدود نموذج البطل الشيوعي القديم.
25
سمح الانفتاح الاقتصادي والثقافي أيضا بدخول الخيال العلمي الفضائي الغربي، ولا سيما أفلام مثل سلسلة «رحلة عبر النجوم» («ستار تريك») إلى السوق الصينية، تماما كما دخلت إلى السوق اليابانية في وقت سابق. وعلى الرغم من اختلاف المجتمعين حتى الآن، فإن أمركة وعولمة الترفيه والثقافة الشعبية قد أنتجت درجة من التقارب في أنواع صور رحلات الفضاء التي تصل إلى جمهورها.
يشير الانتشار العالمي للأفلام والحلقات التليفزيونية الهوليوودية التي تتضمن موضوعات عن الفضاء إلى أنها أصبحت الآن واحدة من أهم الوسائل التي تصل بها صور رحلات الفضاء إلى جمهور العالم بأسره، تليها الأخبار والتغطية الإعلامية الشائعة للأحداث أو إنتاج صور البعثات الفضائية الحقيقية. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الثقافة الفلكية قد أصبحت موحدة عالميا. وبالنظر إلى أنه حتى في نطاق البلد الواحد، فهي «مجموعة غير متجانسة من الصور والأعمال الفنية ووسائل الإعلام والممارسات التي تهدف جميعها إلى إسباغ معنى على الفضاء الخارجي.» على حد تعبير جيبرت مرة أخرى، فإن مثل هذه النتيجة يمكن تخيلها بصعوبة. ما يمكن للمرء أن يقوله هو أنه في حين أن التمثيلات الثقافية لرحلات الفضاء، الواقعية والخيالية، كانت في يوم من الأيام تقتصر تقريبا على المجتمعات الأوروبية الأمريكية المتقدمة، إلا أنها أصبحت الآن ظاهرة عالمية.
الخلاصة
من أصولها في الخيال العلمي والدعوة المبكرة إلى الفضاء، نمت الثقافة الفلكية لتصبح ترسانة كاملة من المنتجات والخطابات والأجناس الأدبية الوطنية وعبر الوطنية (ربما يجب أن نتحدث عنها بصيغة الجمع وليس المفرد: الثقافات الفلكية). من بين أكثر سماتها الجديرة بالاهتمام اعتقاد مؤيدي المستقبلية الفلكية أن رحلات الفضاء تمثل مستقبل الجنس البشري (وقد قل هذا التفاؤل ولكنه لم يختف بعد سباق القمر)، وأنها سوف تؤدي إلى لقاءات مع كائنات فضائية خارج الأرض (وهو اعتقاد يبدو أنه لم يحبط رغم الفشل في إيجاد أي حياة خارج كوكب الأرض)، وأن رواد الفضاء هم أبطال (على الرغم من تزايد روتين رحلاتهم الفضائية). وأصبحت الصور الفضائية، ولا سيما صور الأرض، جزءا لا يتجزأ من الثقافة العالمية بطريقة قد تكون أسهمت في كوكبة الهوية البشرية وفهم مكانة جنسنا البشري في التطور الكوني.
وقد أسهمت كل هذه العوامل في الحفاظ على الدعم العام لاستكشاف الفضاء الحكومي والخاص واستغلاله بعد نهاية الحرب الباردة، لا سيما في رحلات الفضاء المأهولة. لكن تراجع التنافس الدولي باعتباره القوة الدافعة لرحلات الفضاء قد أوضح حدود تأثير الثقافة الفلكية. لقد عجزنا عن تحقيق حلم السيطرة على النظام الشمسي الذي كان دعاة المستقبلية الفلكية وكتاب الخيال العلمي يتوقعون تحقيقه، حتى مع وصول الروبوتات إلى كل كوكب. ومع ذلك، يبدو أن هذا الحلم لم يمت، وربما يساعد هذا على تفسير سبب بقاء الرحلات المأهولة للفضاء على جدول أعمال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وما بعده.
الفصل السادس
رحلات الفضاء المأهولة بعد الحرب الباردة
في 20 يوليو 1989، في الذكرى العشرين لهبوط «أبولو 11»، أعلن الرئيس جورج بوش الأب على سلم المتحف الوطني للطيران والفضاء أن رواد الفضاء الأمريكيين سوف يصعدون مرة أخرى إلى سطح القمر والمريخ. وفي 14 يناير 2004، أصدر نجله، الرئيس جورج دبليو بوش، إعلانا مشابها جدا في المقر الرئيسي لوكالة ناسا.
1
ولم يثمر الإعلانان عن شيء ذي قيمة؛ وبدلا من ذلك، ظلت رحلات الفضاء المأهولة عالقة في مدار الأرض المنخفض. وركزت القوى الفضائية العظمى على الحفاظ على استمرارية مشاريع السبعينيات والثمانينيات أو استكمالها: مكوك الفضاء الأمريكي والمركبة الفضائية الروسية «سويوز» ومحطة الفضاء «مير» وما أصبح محطة الفضاء الدولية.
كان العنصران الفاعلان الجديدان في هذا المجال هما الصين وأصحاب الاستثمارات الخاصة. وبعد مرور عام على إرسال الصين أول رائد إلى الفضاء، فازت طائرة صاروخية ممولة من القطاع الخاص بجائزة أول مركبة غير حكومية تطير مرتين في غضون أسبوعين فوق 100 كيلومتر (62,1 ميل)، وهو التعريف المقبول على نطاق واسع لمكان بدء الفضاء. وبدا أن السياحة الفضائية تحت المدارية على وشك أن تصبح حقيقة واقعة، لولا أنه لم يسافر أي سائح حتى الآن، باستثناء عدد قليل من أصحاب الملايين الذين دفعوا للروس من أجل الحصول على مقاعد في مركبة «سويوز» التي نقلت أطقما إلى محطة الفضاء الدولية. هناك العديد من الدلائل في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على محاولة القيام برحلات سياحية فضائية دون مدارية والقيام برحلات مأهولة لسطح القمر في القريب، لكن مرور ثلاثة عقود بعد عام 1989 أوضح أنه بدون القوة الدافعة إلى سباق فضائي، فإن رحلات الفضاء المأهولة قد لاقت الكثير من العراقيل، ولم يبق عليها إلا الإنذارات الجغرافية السياسية والحاجة إلى الحفاظ على الوظائف والبنية التحتية التي شيدت بعد «سبوتنيك».
مكوك الفضاء ومحطات الفضاء
شكل حادث «تشالنجر» في يناير 1986 بشكل أساسي الفصل الثاني من برنامج المكوك؛ فهو لن يطلق بعد الآن أقمارا صناعية تجارية؛ كما توقفت بعثات الأمن القومي السرية بعد أن أطلقت المكوكات الحمولات القليلة التي لا يمكن وضعها في مركبات الإطلاق المستهلكة في المدار. ولم تستأنف الرحلات المكوكية حتى سبتمبر 1988 وأرسلت آخر بعثة لوزارة الدفاع الأمريكية عام 1992.
2
وقد هيمنت مجموعة غير متجانسة من رحلات وكالة ناسا على البيان - تليسكوب هابل الفضائي وبعثات إصلاحه وصيانته، والمركبات الفضائية الكوكبية وغيرها من المركبات العلمية المتبقية من قبل الحادث، وبعثات مختبر الفضاء التي قضت فيها الأطقم، التي غالبا ما كانت تضم رواد فضاء أوروبيين أو كنديين أو يابانيين، حوالي أسبوعين في ممارسة مهامها العلمية في المدار. ولكن كانت الرحلات إلى محطات الفضاء هي التي أصبحت في نهاية المطاف جزءا كبيرا من جدول رحلات المكوك وسبب وجوده، وهي عودة إلى الغرض الذي صمم من أجله في الأصل.
صممت محطة «فريدم» الفضائية التابعة لوكالة ناسا، التي نشأت كمشروع للحرب الباردة من قبل إدارة ريجان، ليتم تجميعها في الفضاء من الوحدات التي يحملها المكوك إلى الفضاء. لكن محطة الفضاء «فريدم» كانت تعاني من مشاكل منذ البداية. في واحدة من أكثر حالات بخس الأسعار فظاعة لاسترضاء المؤسسة السياسية، وهو نمط سلوك مألوف في المجمع الصناعي العسكري الأمريكي. وعدت وكالة ناسا في 1983-1984 بأنها يمكن أن تبني محطة كبيرة جدا ومتعددة الأغراض بحلول عام 1992 مقابل 8 مليارات دولار فقط. ثم نجحت في جعل وكالة الفضاء الأوروبية واليابان تتعهدان بإضافة وحدات مختبرية خاصة بهما، وستزود كندا ذراع مناورة مشتقة من نسختها المكوكية. إلا أن الوكالة ومقاوليها لم ينجحوا بحلول الموعد الأصلي المستهدف في بناء أي أجهزة طيران تقريبا. وبدلا من ذلك، أنفقت المليارات على عمليات إعادة تصميم ورقية، وتفاقمت بسبب بنية إدارية ضعيفة وواسعة تعكس ثقافة ناسا في تقسيم الغنائم بين المراكز المتنافسة. وفي حين صاغت الوكالة البرنامج باعتباره نقطة انطلاق لاستكشاف الفضاء العميق، فقد تصرفت كما لو كانت أولويتها الأولى هي الحفاظ على البنية التحتية الأرضية الكبيرة التي تم إنشاؤها ل«أبولو» - وهو هدف يتقاسمه أعضاء الكونجرس وأعضاء مجلس الشيوخ الذين يمثلون المقاطعات والولايات مع مرافق ناسا أو مقاوليها الرئيسيين.
3
ومع ذلك، فإن زيادة الميزانية التي لا نهاية لها وعمليات إعادة التصميم قد قوضت الجدوى السياسية للمحطة، مما فاقم مشاكل ناسا في نهاية الحرب الباردة. أطلق خطاب الرئيس بوش عام 1989 مبادرة استكشاف الفضاء، التي تهدف إلى استكمال محطة «فريدم» الفضائية، وبناء قاعدة قمرية، وإرسال البشر إلى كوكب المريخ بحلول عام 2019. ولكن هذا البرنامج الطموح سرعان ما وئد في الكونجرس عندما خرجت وكالة ناسا بتقدير لا يطاق سياسيا يبلغ نصف تريليون دولار (1 تريليون دولار اليوم) - في الوقت نفسه الذي كان الأساس المنطقي لسباق الفضاء يتلاشى.
4
ثم جاء موضوع مرآة هابل في منتصف عام 1990 الذي تسبب في إحراج وطني، وتلته مشاكل أجنبية ومحلية أثرت على الميزانية الوطنية. وتوقفت فجأة الزيادات الكبيرة التي تلقتها وكالة ناسا في أواخر الثمانينيات. وكما أشرت في الفصل الثالث، فإن إدارة بوش المحبطة بسبب الأداء الضعيف للوكالة وأساليبها البيروقراطية، طردت مدير وكالة ناسا ريتشارد ترولي وعينت شخصا دخيلا على الصناعة وهو دانيال جولدين في أبريل 1992. وكان هدفه هو زلزلة الوكالة بأساليب «أسرع وأفضل وأرخص» معتمدة من برامج الفضاء العسكرية. ولكن نظرا إلى أن مراكز رحلات الفضاء المأهولة كانت بحاجة إلى محطة الفضاء للحفاظ على القوى العاملة الموجودة لديها وتوفير برنامج بخلاف المكوك، فقد وجد نفسه يحاول إنقاذ مشروع كان نموذجا للبطء والاهتمام بالمصلحة الخاصة اللذين كانت وكالة ناسا تعاني منهما، وكان هو يحاول إصلاحهما.
ومن المفارقات أن خلاص محطة «فريدم» الفضائية جاء من خلال الاندماج مع برنامج العدو السابق. كان السوفييت قد أطلقوا محطة «مير» في الفضاء عام 1986، وهي تطور أكثر تعقيدا ومرونة لمحطات «ساليوت» المدنية. تضمنت المحطة محول إرساء متعدد سمح بإضافة المزيد من الوحدات على مدى السنوات القليلة المقبلة، متيحا إقامة أطول لرواد الفضاء وتجارب علمية أكثر تعقيدا. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 أدى إلى تخفيضات شديدة في الميزانية لجميع الإدارات الحكومية، بما في ذلك برنامج الفضاء المأهول. وألغيت نسخة سوفييتية من المكوك تسمى «بوران» (وتعني بالعربية «عاصفة الثلج») بعد رحلة واحدة بدون طيار في عام 1988، كما ألغي الصاروخ السوفييتي المعزز الذي كان يضاهي الصاروخ «ساتورن 5» والذي أطلق عليه «إنرجيا» ولم يكن قد أطلق إلا هذا المكوك وقام باختبار فاشل في عام 1987. وأجل إحلال محطة «مير» الفضائية القديمة، ولم يكن لدى وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس، التي تأسست في عام 1992 لمنح المنظمات الغربية شريكا، سوى القليل من المال، كما لم تكن تتمتع بسلطة على قوات الفضاء العسكرية أو مكاتب التصميم القوية التي تتم خصخصتها وتحويلها إلى شركات خاصة.
في عام 1993، كانت إدارة كلينتون الجديدة قلقة للغاية من أن مهندسي الصواريخ الروس، الذين زج بهم إلى حالة من الفقر المدقع بسبب نقص الأجور، قد يعملون لصالح إيران أو العراق أو كوريا الشمالية أو غيرها من الدول التي تسعى وراء إمكانيات الصواريخ الباليستية. علاوة على ذلك، كانت محطة «فريدم» قريبة جدا من الإلغاء في الكونجرس، حيث نجت بفارق صوت واحد فقط في يونيو. وفي سبتمبر، وافق نائب الرئيس آل جور ورئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين على دمج برامجهم الخاصة بالمحطة الفضائية. ستدمج الوحدات الروسية مع المكونات الأمريكية والأوروبية واليابانية والكندية، على أن تعاد تسميتها بالكامل إلى محطة الفضاء الدولية. وستشتري وكالة ناسا بعض المكونات الروسية للمحطة الأولية، محولة الأموال المطلوبة بشدة إلى صناعتها. وفي إطار التحضير للمحطة المشتركة، نقلت مكوكات الفضاء عشر بعثات إلى المحطة «مير»، التي تلقى الروس أيضا دعما لها من وكالة ناسا. وركب عدد قليل من رواد الفضاء على متن المكوك، في حين استمر رواد الفضاء الأمريكيون لفترات طويلة مع نظرائهم الروس على متن المحطة «مير»، وأحيانا كانوا يركبون المركبة الفضائية «سويوز» للصعود أو الهبوط. وسجل شانون لوسيد رقما قياسيا أمريكيا جديدا قدره 188 يوما في الفضاء، على الرغم من أن فاليري بولياكوف قد تجاوز هذا الرقم بكثير؛ إذ قضى 437 يوما و18 ساعة في المدار، ولا يزال هذا الرقم هو الرقم القياسي للبقاء في الفضاء في رحلة واحدة.
5
شكل 6-1: رواد الفضاء في محطة الفضاء الدولية أوليج نوفيتسكي، وفيودور يورشيخين، وجاك فيشر، وبيجي ويتسون (قائدة المحطة) يتشاركون في وجبة طعام في أبريل 2017. كان التعاون الروسي الأمريكي بالغ الأهمية لمشروع محطة الفضاء الدولية منذ عام 1993، بغض النظر عن الحالة المتفاوتة للعلاقات بين البلدين (المصدر: وكالة ناسا).
وبحلول أواخر التسعينيات، أصبحت «مير» متداعية وغير آمنة بشكل متزايد؛ إذ تعرض أحد رواد فضاء وكالة ناسا وزملاؤه الروس لحريق طارئ خطير؛ وكان آخر على متنها عندما أدت تجربة سيئة التصميم في الإرساء اليدوي الشامل لسفينة الإمداد «بروجرس» إلى حدوث تصادم وانخفاض سريع في ضغط إحدى الوحدات العلمية. ومع ذلك، استمرت الزيارات والإقامة الأمريكية على متنها حتى عام 1998. وبعد فترة وجيزة من انتهاء برنامج مكوك الفضاء الأمريكي «مير»، أعلن رئيس وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس أنها ستتقاعد بسبب نقص التمويل ولأن ناسا كانت تضغط على روسيا لتحويل اهتمامها الكامل إلى محطة الفضاء الدولية. وكانت آخر بعثة روسية منتظمة في عام 1999، لكن المحطة قدر لها أن تعيش حياة أخرى غريبة بعد تقاعدها، عندما أبرمت شركة «إنرجيا» (مكتب تصميمات كوروليف سابقا) اتفاقا مع مجموعة «ميركورب» الخاصة ومقرها في الولايات المتحدة، لمواصلة محطة «مير» العمل كمحطة ربحية. وتولى اتحاد الشركتين تمويل بعثة مكونة من رائدي فضاء في عام 2000 لفحصها ومحاولة إصلاحها، لكن الولايات المتحدة ضغطت على روسيا للتخلص من هذا الإلهاء عن محطة الفضاء الدولية. وفي مارس 2001، وجهت البعثة الروسية المحطة «مير» لتحرق في الغلاف الجوي فوق منطقة جنوب المحيط الهادئ الخالية.
6
أعادت ناسا تنظيم الجزء الخاص بها من محطة الفضاء الدولية وبدأت في إنتاج أجهزة فعلية، لكنها واجهت مشاكل جديدة؛ صناعة الفضاء الروسية التي تعاني من نقص التمويل والتي لم تستطع إتمام أي شيء في الوقت المحدد. على وجه الخصوص، تأخرت وحدة التحكم «زفيزدا» (التي تعني «النجم») التي كانت في الأساس الجزء الرئيسي في «مير-2»، لمدة سنتين، مما أدى إلى تأخير تجميع المحطة. في ديسمبر 1998، ربط طاقم مكوك أولا وحدتين، «زاريا» (تعني «الفجر») وتمولها الولايات المتحدة، ولكن تم بناؤها وإطلاقها من قبل روسيا، و«يونيتي»، وهي وحدة إرساء بنتها الولايات المتحدة. ولكن بعد ذلك تأخرت «زفيزدا» لمدة تسعة عشر شهرا. وبعد إطلاقها في يوليو 2000 واختبار قابليتها للسكن، أطلقت روسيا بعثتها «إكسبديشن 1» على متن مركبة فضاء «سويوز» في نوفمبر من ذلك العام، مع رائدي فضاء روسيين وقائد محطة أمريكي. وبدأت هذه البعثة مدة من الوجود البشري المستمر في الفضاء لم تنته حتى يومنا هذا.
7
أصبح بناء محطة الفضاء الدولية هو المهمة الأساسية للمكوك حتى توقف عن الطيران في عام 2011. وفي الواقع، كان ذلك خلاصا للمكوك بعد حادث مميت ثان في أوائل عام 2003 أدى إلى مقتل سبعة رواد فضاء مرة أخرى - تفكك مكوك الفضاء «كولومبيا» عند إعادة الدخول إلى الغلاف الجوي بعد انتهائه من مهمة علمية ليست تابعة لمحطة الفضاء الدولية، والتي ضمت أول رائد فضاء، وحتى الآن الوحيد، من إسرائيل. كان السبب، مثلما حدث في «تشالنجر» في عام 1986، خلال مرحلة الإطلاق، ولكن على عكس حادث «تشالنجر»، لم تظهر الكارثة نفسها إلا عند دخول الغلاف الجوي. (تحطم المكوك «كولومبيا» إثر اصطدام كتلة من الإسفنج الذي يغطي خزان الوقود من الخارج بالحافة الأمامية للجناح، مما صنع فجوة فيها، في حين تعطل أحد معززات الصواريخ الصلبة في «تشالنجر».) أظهرت الكارثة الثانية أن وكالة ناسا لا تزال تواجه مشكلة في ثقافة السلامة الخاصة بها، حيث إنها لم تتخذ الإجراءات الملائمة لمواجهة التحذيرات المتكررة والحوادث غير المميتة. أظهر كلا الحادثين أيضا أن تصميم المكوك الأساسي، الذي لم يتضمن نظاما لإحباط الإطلاق، جعله أخطر مركبة فضائية مأهولة تم بناؤها على الإطلاق. لكن أي مناقشات حول إنهاء البرنامج لم تسفر عن شيء لأن الانسحاب من رحلات الفضاء المأهولة من شأنه أن يقوض مكانة أمريكا كقوة عظمى؛ وعلى أي حال، تم تصميم جميع وحدات محطة الفضاء الدولية غير الروسية من أجل غرفة حمولة المكوك. وأدى ذلك إلى إعلان جورج دبليو بوش عام 2004 أن المكوك سيتقاعد بمجرد اكتمال المحطة. وسيتحول التركيز إلى برنامج القمر-المريخ الجديد الذي من شأنه أن يحمل رواد الفضاء إلى سطح القمر بحلول عام 2019 - أو هكذا كان يؤمل.
8
أجبرت الفجوة التي استمرت عامين في الرحلات المكوكية شركاء محطة الفضاء الدولية على تقليص عدد أفراد الطاقم إلى شخصين ينتقلان على متن مركبة فضاء «سويوز» على أن يتم إمدادهما بما يحتاجانه بواسطة مركبات «بروجرس» فقط (مركبة «سويوز» آلية حملت فيها الوحدة المدارية الإمدادات وأحلت خزانات الوقود محل كبسولة العودة من أجل تزويد المحطة بالوقود). على أية حال، بمجرد استئناف عمليات الإطلاق الأمريكية في عام 2005، توسعت المحطة بسرعة إلى حجمها الأقصى المخطط، بطول 356 قدما (109 أمتار) وعرض 239 قدما (73 مترا) عبر أربعة مصفوفات كهربائية مزدوجة للطاقة الشمسية تولد 84 كيلووات من الطاقة، مع كتلة إجمالية أرضية تبلغ 925000 رطل (420000كجم). ويتألف طاقم المحطة عادة من ثلاثة روس وأمريكيين ورائد فضاء من أوروبا أو كندا أو اليابان. إن هذه المحطة تعتبر، وربما ستظل لفترة طويلة جدا من الوقت، أكبر جسم من صنع البشر يوضع في الفضاء. ومن أبرز الأشياء التي تتميز بها محطة الفضاء الدولية أنها نجحت في القيام بعملها، على الرغم من إنتاجها المتعدد الجنسيات. كانت هناك مشاكل وأزمات في التجميع، ومن أبرزها تلف إحدى المصفوفات الشمسية وقد تطلب ذلك عمليات سير محفوفة بالمخاطر للرواد في الفضاء من أجل إصلاحها، ولكن جميع الوحدات والمكونات تعمل بشكل جيد معا، وهو انتصار لإدارة المشروع الدولية.
على الرغم من أن محطة الفضاء الدولية كانت ناجحة من الناحية التقنية، إلا أن التكاليف كانت ضخمة وكانت عملية الوصول إليها تعاني من الهدر والتأخير. ويقدر مشروع المحطة بالكامل حتى الآن بحوالي 150 مليار دولار، وهو حجم الإنفاق بناء على السعر المعدل حسب التضخم لبرنامج «أبولو» (الذي بلغت تكلفته 25 مليار دولار في الستينيات). تم إنفاق ما يقرب من ثلاثة أرباع ذلك من قبل الولايات المتحدة، خاصة عندما يتم تضمين عمليات إطلاق المكوك إلى المحطة بسعر يتجاوز مليار دولار لكل عملية إطلاق (وهذه التكلفة كبيرة جدا بالوضع في الاعتبار أن السبب الأساسي لبناء المكوك هو جعل رحلات الفضاء أرخص).
هل محطة الفضاء الدولية تستحق هذه التكلفة الضخمة؟ لم يمر وقت كاف لإصدار حكم كامل، ولكن هناك بعض الإيجابيات والسلبيات الواضحة. كتمرين على تطوير مشروع فضاء متعدد الجنسيات يمكن أن يكون نموذجا لرحلات أعمق في النظام الشمسي، كانت محطة الفضاء الدولية ناجحة للغاية. وكوسيلة لفهم التأثيرات الفسيولوجية لرحلات الفضاء الطويلة الأمد اللازمة للسفر إلى القمر أو المريخ، فقد كانت قيمة جدا، على الرغم من أن الشركاء لو بنوا محطة أصغر مخصصة لهذا الغرض، ربما مع طاقم يتكون من ثلاثة رواد فضاء بدلا من ستة، كانت التكلفة ستكون أقل بكثير. كمنصة علمية، تستضيف محطة الفضاء الدولية المكتملة مجموعة متنوعة للغاية من التجارب في الطب ومعالجة المواد المنعدمة الجاذبية ومراقبة الأرض وحتى فيزياء الجسيمات (تم إرفاق مطياف ألفا المغناطيسي بقيمة ملياري دولار إلى المحطة للبحث عن المادة المظلمة، ولكن ليس له أي علاقة برواد الفضاء في الداخل). ومع ذلك، إذا كان العلم هو الأساس المنطقي الوحيد لمحطة الفضاء الدولية، فإن النتائج تعتبر ضئيلة للغاية والتكاليف باهظة للغاية لتبرير بنائها.
كما هو الحال دائما مع رحلات الفضاء المأهولة، فإن محطة الفضاء الدولية تتعلق بالسياسة العالمية والمحلية أكثر من العلم. وبينما تركت رواد الفضاء الأمريكيين عالقين في المدار الأرضي المنخفض؛ لأن وكالة ناسا لم تكن لديها ميزانية للقيام بأي شيء آخر، فقد حافظت على إمكانيات الوكالة وبنيتها التحتية بعد نهاية سباق الفضاء وساعدت في تأكيد مكانة أمريكا بوصفها القوة الفضائية العظمى. وقد كانت بمثابة شريان الحياة للإبقاء على البرنامج الروسي، مما عزز ادعاء روسيا بأنها لا تزال دولة كبرى، وكانت بمثابة آلية لأوروبا وكندا واليابان لبناء قدرات الفضاء المأهول والخبرة دون الحاجة إلى تطوير أنظمة خاصة بهم لإطلاق واستعادة طواقمهم.
أما بالنسبة إلى برنامج المكوك، فقد انتهى أخيرا في منتصف عام 2011، بعد القيام ب 135 مهمة، بمجرد تسليم آخر المكونات الرئيسية الأمريكية والأوروبية واليابانية، بالإضافة إلى قطع الغيار الاستراتيجية. وبالنسبة إلى جزء كبير من الجمهور الأمريكي، كانت نهاية المكوك تعني نهاية وكالة ناسا والأمريكيين في الفضاء؛ إذ كان برنامج المكوك هو ناسا من وجهة نظرهم. وبالنسبة إلى الأغلبية، كانت، ولا تزال، البعثات التي ترسل إلى محطة الفضاء الدولية غير ذات أهمية، خاصة عندما يتم إطلاقها على الصواريخ الروسية. ومع ذلك، يستمر تشغيل المحطة حتى يومنا هذا، ومن المقرر أن يستمر حتى عام 2024 على الأقل - وهو العمر الحالي الذي وعد الشركاء الرئيسيون بدعمه.
فاعلون جدد وبرامج جديدة
في الوقت الذي كافحت فيه وكالات الفضاء الكبرى من أجل استكمال محطة الفضاء الدولية، بدأت العديد من المبادرات الجديدة في رحلات الفضاء المأهولة تتشكل بعد عام 2000؛ في الصين، وفي السياحة الفضائية الخاصة، وفي مركبات رحلات الفضاء المأهولة التي تمولها وكالة ناسا، وفي شركات الفضاء الأمريكية التي نشأت لتحدي الشركات الصناعية العسكرية من الصواريخ وسباقات الفضاء. وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أن عصرا جديدا يبزغ في رحلات الفضاء المأهولة، ولم تكن النتائج واضحة بأي حال من الأحوال.
ثمة شيء واحد أصبح واضحا للغاية؛ تصميم جمهورية الصين الشعبية على أن تصبح قوة فضائية كبرى في جميع نواحي رحلات الفضاء. وأدى صعود يانج ليوي على متن «شنتشو 5» (كلمة «شنتشو» تعني بالعربية «السفينة المقدسة») في 15 أكتوبر 2003 إلى الفضاء، إلى جعل الصين الدولة الثالثة التي تطلق رائد فضاء في الفضاء بواسطة مركبة الإطلاق الخاصة بها وعلى متن مركبة فضائية خاصة بها أيضا. كانت أهداف البرنامج 921، كما أطلق عليه بيروقراطيا، هي بناء محطة فضائية من أجل تقوية ادعاء الصين بأنها قوة عالمية من خلال الإشارة إلى قدرتها الوطنية العلمية والتكنولوجية (ولا تزال كذلك). ولم يكن تعزيز النعرة القومية والولاء الجماهيري لقيادة الحزب جزءا من الأهداف الأصلية للبرنامج، بل كانا مكافآت للمهام الناجحة التي قام بها.
9
بدأ برنامج 921 في عام 1992، بعد محاولة سابقة لأوانها لبدء مشروع رحلات فضائية مأهولة في السبعينيات من القرن العشرين. ونتج المشروع الجديد عن جهود الإصلاح التي بذلها الزعيم دنج شياو بينج لجعل الأمة واقتصادها منافسين للغرب، ولقد كان البرنامج وما زال يدار من قبل الجيش، ولكن على غرار غيره من البرامج السوفييتية، بالتكافل مع الوكالات المدنية؛ إذ لا توجد أسباب داخلية أو خارجية للتمييز بوضوح بين الجهود الفضائية المدنية والعسكرية. انتهز مديرو البرنامج الفرصة التي أوجدها انهيار الاتحاد السوفييتي (حدث صدم القيادة الشيوعية الصينية وأكد الحاجة إلى الإصلاح) من خلال ترخيص بعض تقنيات الفضاء الروسية؛ حيث تبدو المركبة الفضائية «شنتشو» إلى حد كبير شبيهة بالمركبة الفضائية «سويوز»، ولكنها أكبر حجما ومحسنة. تحتوي وحدة إعادة الدخول أيضا على طاقم مكون من ثلاثة أفراد، ولكن في مكان أكثر اتساعا، ووضعت محل الوحدة المدارية (مقر المعيشة والتجربة الإضافي) وحدة صينية بألواح وأنظمة شمسية تسمح لها بالتحليق بشكل مستقل.
كان إيقاع هذا البرنامج منضبطا للغاية. بدأت بعثات «شنتشو» في نوفمبر 1999 بأول رحلة تجريبية دون طيار، تلتها ثلاث رحلات أخرى حتى عام 2002. وبعد رحلة يانج المدارية التي استغرقت يوما واحدا، لم تنطلق الرحلة التالية إلا بعد عامين، وضمت رائدي فضاء، وتلتها فترة توقف بلغت ثلاثة أعوام قبل أن تنطلق «شنتشو 7» مع ثلاثة من أفراد الطاقم، اثنان منهم قاما بالسير في الفضاء. (كانت بدلاتهما الفضائية أيضا مبنية على تصميمات روسية.) لقد سارت الصين على خطى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي التي اتخذوها في الفترة من 1961 إلى 1965، ولكنها فعلت ذلك دون التعجل أو البعثات المتعددة لذلك السباق. مرت ثلاث سنوات أخرى قبل أن ترسو مركبة «شنتشو 8» غير المأهولة مع المحطة المدارية الصغيرة «تيانجونج-1» (التي تعني بالعربية «القصر السماوي 1») وتبعها طاقم قام بنفس الشيء بعد ذلك بعام، وكان أحد أفراده أول امرأة صينية تصعد إلى الفضاء. وكانت أحدث بعثة صينية، حتى كتابة هذه السطور، بعثة استمرت لمدة ثلاثة وثلاثين يوما في خريف 2016 وضمت طاقما مكونا من ثلاثة رواد فضاء على متن «تيانجونج-2».
أعلنت إدارة الفضاء الوطنية الصينية، التي تأسست في عام 1993 كوكالة لبيروقراطية المشتريات الدفاعية المدنية، عن برنامج لبناء محطة نموذجية بحجم «مير»، ابتداء من حوالي عام 2020، وبالتالي تحقيق الهدف الأصلي من برنامج 921. نظرا إلى ضوابط تصدير التكنولوجيا ومخاوف السرقة، استبعدت الحكومة الأمريكية حتى الآن التعاون النشط بين وكالة ناسا والصين، مما يجعل برنامجها منفصلا تماما عن محطة الفضاء الدولية وغيرها من المشاريع المتعددة الجنسيات التي تقودها الولايات المتحدة. لكن الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكدا هو أن الصين ستبني برنامجها المأهول بغض النظر عما يحدث بخصوص التعاون الدولي.
ومع كشف النقاب عن برنامج 921، تكشفت أيضا المحاولات الأولى لإنشاء مشاريع خاصة لرحلات فضائية مأهولة ومركبات فضائية. وكانت المحاولة المشئومة لإحياء محطة «مير» متجذرة في إحباطات دعاة الفضاء الأمريكيين الذين نشئوا في الستينيات وتساءلوا عن سبب عدم تحقيق الحلم الموعود لقواعد القمر وبعثات المريخ. وغالبا ما كانوا ينتقدون بشدة وكالة ناسا وكانوا من أتباع السياسات الليبرالية الرأسمالية الفائقة. أحدهم كان رائد الفضاء بيتر ديامانديس، الذي أنشأ مؤسسة «جائزة إكس»، على غرار جوائز الطيران التي قدمت بين الحربين العالميتين لتحفيز نمو تكنولوجيا الطيران. وقد جمع التبرعات وراهن رهانا محفوفا بالمخاطر على سوق التأمين، ليقدم جائزة بقيمة 10 ملايين دولار لأول مركبة فضائية غير حكومية بطيار قادرة على حمل ثلاثة أشخاص للقيام برحلتين خلال أسبوعين فوق 100 كيلومتر (62,1 ميل). كان الهدف هو تحفيز السياحة الفضائية الخاصة عند أدنى مستوى من الصعوبة - ولكنه لا يزال تحديا ليس سهلا بأي حال من الأحوال - من خلال الصعود بالركاب في المسارات تحت المدارية بما يكفي فقط ليتمكنوا من الحصول على مكانة المسافرين في الفضاء.
حفزت «جائزة إكس» موجة من أنشطة تطوير الصواريخ في جميع أنحاء العالم، ولكن لم يكن لدى أيها أية فرصة حقيقية للفوز، بخلاف مجموعة واحدة؛ شركة الطيران والفضاء «سكيلد كومبوزيتس» لمصمم الطائرات الشهير بيرت روتان، بتمويل من الملياردير بول ألين الذي شارك في تأسيس مايكروسوفت. لقد صمم روتان «سبيسشيب وان»، وهي طائرة فضائية ذات ذيل فريد من نوعه قابل للطي، يجعلها تبطئ من سرعتها عند الهبوط مثل كرة الريشة. وتم إسقاطها من طائرة حاملة كبيرة من تصميم روتان ، وقامت «سبيسشيب وان» بثلاث رحلات من جنوب كاليفورنيا تجاوزت خط 100كم، وفازت آخر رحلتين بالجائزة في خريف 2004. كل رحلة قام بها أحد طياري الشركة التجريبيين، محلقا بثقل لتمثيل الراكبين.
10
شكل 6-2: «سبيسشيب وان» وطائرتها الحاملة «وايت نايت» في أغسطس 2005، عند تسليم الأولى إلى المتحف الوطني للطيران والفضاء. حصل فريق الطائرة الفضائية على جائزة أنصاري إكس برايز في عام 2004، وبدا أن ذلك يبشر بوصول السياحة الفضائية شبه المدارية الوشيك، ولكن ثبت أن بدء حمل الركاب فعليا أصعب بكثير مما كان متوقعا. تصوير إريك لونج (المصدر: متحف الطيران والفضاء الوطني التابع لمؤسسة سميثسونيان).
في الوقت نفسه، ظهرت السياحة المدارية لأن الروس قرروا بيع مقاعد عرضية في المركبة الفضائية «سويوز» التي تتجه إلى محطة الفضاء الدولية. وكانت هناك سوابق؛ إذ صعدت امرأة إنجليزية إلى محطة «مير» في عام 1991، على الرغم من عدم الحصول على تمويل خاص من بريطانيا، وفي عام 1998، دفعت شركة إعلامية يابانية الأموال لإرسال أحد مراسليها إلى «مير». وفي أبريل 2001، أصبح المستثمر الأمريكي دنيس تيتو أول من استخدم أمواله الخاصة للسفر إلى الفضاء، حيث قام بزيارة إلى محطة الفضاء الدولية رغم اعتراضات وكالة ناسا المترددة. ولم يفعل ذلك سوى ستة آخرين حتى عام 2009، واحد منهم صعد مرتين إلى الفضاء، وبعد ذلك كانت هناك حاجة إلى شغل جميع مقاعد «سويوز» لإرسال رواد الفضاء إلى المحطة. وتكلفت هذه الرحلات السياحية المدارية ما بين 20 و40 مليون دولار، وكانت تقتصر على حفنة من الأشخاص اللائقين بدنيا والأثرياء الذين تلقوا تدريبا لمدة أشهر في المراكز الروسية. وبصعوبة كان يمكن أن يطلق على ذلك سياحة. وقد تتاح الفرصة مرة أخرى؛ إذ أعلنت «روسكوزموس» أنها ستخفض عدد أفراد الطاقم الروسي في المحطة إلى اثنين، وسترسل وكالة ناسا قريبا روادها مرة أخرى على متن المركبة الفضائية الأمريكية.
أما بالنسبة إلى مؤسسة «جائزة إكس»، فقد بدا فوز روتان وألين عام 2004 مبشرا بالوصول الوشيك إلى السياحة الفضائية تحت المدارية. وقام مؤسس إمبراطورية «فيرجن» التجارية، ريتشارد برانسون، بتمويل «سبيسشيب تو» من «سكيلد كومبوزيتس»، التي يمكن أن تحمل طيارين وستة ركاب. كما قامت شركته الجديدة، «فيرجن جالاكتيك»، ببناء ميناء فضائي متقن في صحراء نيومكسيكو من أجل «رواد الفضاء». على الرغم من سعر التذكرة الذي يبلغ حوالي ربع مليون دولار، فقد وضع المئات ودائع أو دفعوا المبلغ بالكامل من أجل القيام بالرحلة. ومع ذلك، أسفرت سلسلة من التحديات التقنية وحادثان مميتان عن عدم القيام بأي رحلات سياحية حتى كتابة هذه السطور. وتحطمت أول مركبة «سبيسشيب تو» في رحلة تجريبية في أكتوبر 2014، مما أسفر عن مقتل طيار وإصابة الآخر بجروح خطيرة. لقد تجاوزت تكاليف التطوير ما توقعه برانسون بكثير، وأكدت العملية الدرس المؤلم الذي تعلمته برامج الرحلات الفضائية المأهولة التي تمولها الحكومة، ألا وهو أن بناء أنظمة للصعود بالناس إلى ارتفاعات كبيرة وبسرعة تصل إلى آلاف الأميال في الساعة عملية باهظة الثمن ومحفوفة بالمخاطر، وأن محاولة ضمان مستوى معقول من السلامة على الأقل تكلف الكثير من المال. علاوة على ذلك، إذا حدث أي حادث مميت للسياح الذين دفعوا ثمن الرحلة، فقد ينهار سوق المقاعد وستصدر الحكومة تشريعات أكثر تشددا بالتأكيد.
تكلف هذه الرحلات السياحية المدارية ما بين 20 و40 مليون دولار، وكانت تقتصر على حفنة من الأشخاص اللائقين بدنيا والأثرياء الذين تلقوا تدريبا لمدة أشهر في المراكز الروسية.
تسببت تكلفة التطوير وحدها في وأد العديد من شركات السياحة الفضائية بسبب نقص رأس المال الاستثماري. وبخلاف شركة «فيرجن جالاكتيك»، لم يصمد سوى صاروخ «نيو شيبارد» الخاص بملياردير «أمازون دوت كوم»، جيف بيزوس؛ لأنه لا يحتاج إلى أموال أي شخص آخر. ولدى «نيو شيبارد» معزز قابل لإعادة الاستخدام وكبسولة مؤتمتة لستة ركاب تعود بالمظلة. وقد تم بناؤه من قبل شركته الفضائية، «بلو أوريجين»، وتم اختباره في غرب تكساس منذ عام 2015. وبالتالي، إذا وصلت السياحة الفضائية تحت المدارية أخيرا في حوالي عام 2020، في وقت متأخر جدا عن المتوقع، فستظل ثابتة في منطقة مغامرات الأثرياء ، على الرغم من أن المسافرين لن يضطروا إلى أن يكونوا بنفس ثراء أول سياح مداريين.
كانت «بلو أوريجين» أول شركة من شركتين فضائيتين رئيسيتين أطلقهما رائدا أعمال عبر الإنترنت يتمتعان بطموح جامح نحو رحلات الفضاء. وأنشأ إيلون ماسك، الذي حقق ثروة من خلال خدمة الدفع عبر الإنترنت «باي بال»، شركة «سبيس إكس» في عام 2002 ليعمل من أجل تحقيق مستقبله المتخيل المنشود كمؤسس لمستعمرة المريخ. ونظرا إلى إحباطه من الأسعار التي تفرضها شركات الطيران والفضاء التقليدية، شرع في إنشاء شركة صواريخ رأسية متكاملة تصنع محركاتها الخاصة ومعظم المكونات الأخرى المطلوبة. ولم تحظ أول مركبة تنتجها شركة «سبيس إكس»، ألا وهي مركبة إطلاق قمر صناعي صغيرة تسمى «فالكون 1»، بنجاح باهر؛ إذ منيت بالفشل في المرات الثلاث الأولى التي أطلقت فيها من عام 2006 إلى عام 2008. وقد أدت هذه الإخفاقات إلى اقتراب الشركة من الإفلاس. وبعد إطلاقين ناجحين، قرر ماسك التخلي عن سوق الأقمار الصناعية الصغيرة والمشاركة في الأسواق العسكرية والجغرافية الثابتة بالاستعانة بالمركبة «فالكون 9»، التي احتوت على تسعة من محركات ميرلين التي تنتجها شركته في مركبة واحدة.
11
كانت المركبة «فالكون 9» قيد التطوير بالفعل لأن وكالة ناسا كانت قد منحت أموال تطويرها لشركة «سبيس إكس» في عام 2004، مما أدى إلى إبرام عقد في عام 2006 لتزويد محطة الفضاء الدولية بالإمدادات اللازمة لها. واستخدم ماسك ذلك العقد كوسيلة لتطوير مركبة فضائية مأهولة خاصة به (أسماها «دراجون») مستوحاة من المركبة «أبولو» (كما فعل بيزوس)، نظرا إلى هوسه برحلات الفضاء المأهولة. أما بالنسبة إلى مركبة الشحن، فسوف تحمل كبسولة العودة المضغوطة رفوفا بدلا من المقاعد والمعدات. ويمكن وضع الإمدادات غير المضغوطة في «صندوق» على وحدة الوقود المرفقة.
نشأ مشروع الشحن التجاري التابع لوكالة ناسا، لأن المكوك كان على وشك التقاعد وكان مكلفا جدا على أن يكون مركبة نقل. وقد تمنى مايكل جريفين، الذي أصبح مديرا لوكالة ناسا في عام 2005 لتنفيذ برنامج جورج دبليو بوش القمر-المريخ، أن يوفر المال من خلال الاستخدام المبتكر لإعادة الإمداد التجاري لمحطة الفضاء الدولية، بدلا من الاعتماد على المركبات الروسية والأوروبية واليابانية باهظة التكاليف. ولتعزيز المنافسة وتقليل خطر حوادث فشل الإطلاق التي قد تنجم عن استخدام نوع صاروخ واحد، سمحت وكالة ناسا أيضا بإبرام عقد توريد محطة فضائية آخر فازت به شركة «أوربيتال ساينسز» في 2008، وهي شركة رحلات فضائية تجارية من الثمانينيات. وأكملت المركبة «دراجون» الخاصة بشركة «سبيس إكس» والمركبة «سيجنوس» الخاصة بشركة «أوربيتال ساينسز» رحلات تجريبية إلى محطة الفضاء الدولية في عامي 2012 و2013، على التوالي، لبدء عصر إعادة تزويد محطة الفضاء الدولية التي أطلقتها الولايات المتحدة بالإمدادات.
12
بحلول ذلك الوقت، كانت وكالة ناسا تمول عمليات نقل رواد الفضاء التجارية إلى محطة الفضاء الدولية. وفي عام 2009، وافقت إدارة أوباما الجديدة على تطويرها لتقصير فترة الاعتماد على «سويوز» الروسية بعد توقف المكوك عن العمل. وبعد جولات عديدة من المنافسة، التي أعاقتها تخفيضات الميزانية من قبل أعضاء الكونجرس غير المتحمسين، أعلنت وكالة ناسا في عام 2014 أنها ستمنح عقدين لشركتين: «سبيس إكس» مقابل مركبتها المأهولة «دراجون» وعملاق الفضاء والطائرات «بوينج» مقابل كبسولة «سي إس تي-100».
13
وكان من المفترض أن تنطلق كلتاهما برواد الفضاء بحلول عام 2017 - ولم يحدث ذلك. ومرة أخرى، ثبت أن بناء المركبات الفضائية المأهولة الآمنة نسبيا أصعب وأكثر تكلفة مما كان يؤمل.
بينما كان كل هذا يحدث، كان برنامج إدارة بوش القمر-المريخ يسير على قدم وساق. وعندما تولى جريفين إدارة وكالة ناسا في عام 2005، كان قد ركز برنامج «كونستيليشن» المسمى حديثا على إعادة رواد الفضاء إلى القمر وإنشاء قاعدة قمرية في عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وبدا ذلك أكثر جدوى على المدى القريب من القيام برحلة إلى المريخ، التي كان المشروع القمري سيبني تكنولوجيا وخبرة من أجلها. لكن تمويل إدارة بوش لم يكن واقعيا أبدا، حيث افترضت أن المكوك سيكمل المحطة ويتقاعد في وقت أقرب مما فعل، مما يوفر الأموال لدفع تكاليف البرنامج الجديد. ولم يكن الكونجرس ولا الإدارة على استعداد لزيادة مخصصات وكالة ناسا لتغطية العجز، حيث كانت هناك العديد من الأولويات الوطنية الأخرى ولم يكن هناك حاجة ملحة إلى المشروع. وقد أثبت ذلك مرة أخرى، تماما كما فعل إعلان بوش الأول في عام 1989، أن محاولة تكرار خطاب «أبولو» الذي ألقاه كينيدي محكوم عليها بالفشل عندما لا توجد أزمة محسوسة.
14
ونتيجة لذلك، كان برنامج «كونستيليشن» يعاني من نقص كبير في التمويل في الوقت الذي تولى فيه باراك أوباما منصبه، مع تأجيل أول عملية هبوط إلى عشرينيات القرن الحادي والعشرين، ويرجع ذلك جزئيا إلى عدم وجود أموال لتطوير مركبة الهبوط على سطح القمر. وتحرك الرئيس الجديد لإلغاء برنامج «كونستيليشن» في عام 2010، ولكن ذلك لم يلق ترحيبا في الكونجرس ولا في صناعة الطيران والفضاء. أعضاء مجلس الشيوخ من الولايات التي لديها مصلحة قوية في الوظائف التي تم إنشاؤها بواسطة مركبة «أوريون» المأهولة، التي بدت وكأنها وحدات قيادة وخدمات «أبولو» موسعة مضافا إليها ألواح شمسية وطاقم مكون من أربعة أفراد، وبواسطة المعززات، التي تم اشتقاقها من دفع المكوك الفضائي وعناصر الخزان. بدعم من جماعات الضغط الصناعية وغيرها من أعضاء الكونجرس، فرض أعضاء مجلس الشيوخ تسوية. ستبقى «أوريون» على قيد الحياة، وكذلك معزز ثقيل بحجم «ساتورن 5» أطلق عليه نظام إطلاق الفضاء (
SLS ) - الذي أطلق عليه العامة نظام إطلاق مجلس الشيوخ، لأنه بدا كما لو كان قد تم تصميمه في الكابيتول هيل.
ليس من المستغرب أن عملية تطوير «أوريون»/نظام إطلاق الفضاء سرعان ما تخلفت عن الجدول الزمني المعد لها، حيث كان عليها في النهاية أن تتناسب مع ميزانية وكالة ناسا التي لا تزال تمول رحلات محطة الفضاء الدولية بالإضافة إلى تطوير مركبات الشحن التجارية والمركبات المأهولة، بالإضافة إلى تليسكوب جيمس ويب الفضائي، وهو خليفة هابل الذي تجاوز الميزانية ولكنه أكبر حجما ويركز على الأشعة تحت الحمراء. كان الهدف الجديد الذي أعلنت عنه وكالة ناسا للمركبة «أوريون» هو الالتقاء بكويكب، ولكن تم خفض ذلك الهدف إلى إرسال مركبة فضائية روبوتية لالتقاط صخرة من كويكب وإحضارها إلى مدار قمري بعيد، حيث سيختبرها رواد الفضاء. اجتذبت هذه البعثة القليل من الدعم سواء في الكونجرس أو في المجتمع العلمي، وسرعان ما وئدت بالفعل بحلول نهاية ولاية أوباما الثانية. كان من المقرر أن يكون كل هذا النشاط، بالإضافة إلى اكتساب خبرة رحلات الفضاء الطويلة الأمد على متن محطة الفضاء الدولية، جزءا من تحدي «رحلة إلى كوكب المريخ» الذي تخطط له وكالة ناسا، الذي سيضم بعثات استكشافية إلى المريخ في الثلاثينيات من القرن الحادي والعشرين. ولكن هذا لم يبد مقنعا أيضا.
ومع ذلك، فقد استهلكت «أوريون»/نظام إطلاق الفضاء عدة مليارات من الدولارات سنويا أثناء التحرك بوتيرة تجعل الصينيين يبدون وكأنهم في عجلة من أمرهم. أطلقت الوكالة وحدة قيادة «أوريون» واحدة في عام 2014 في رحلة عودة تجريبية، باستخدام معزز تجاري، ولكن هذا هو تاريخ الرحلات الكامل للبرنامج حتى الآن. تأجلت أول رحلة من نظام إطلاق الفضاء، وهي إرسال مركبة «أوريون» بدون طيار إلى مدار القمر، إلى أواخر عام 2019، حتى كتابة هذه السطور. ويبدو من غير المرجح أن تنطلق أول بعثة مأهولة، بهدف قضاء عدة أسابيع في مدار القمر - وهي المرة الأولى التي سيحلق فيها أي شخص على بعد أكثر من 400 ميل من الأرض منذ عام 1972 - قبل عام 2023. لقد نجت «أوريون»/نظام إطلاق الفضاء في المقام الأول من خلال الحفاظ على الوظائف في المراكز الميدانية للوكالة وشركات مقاولات الطيران والفضاء القديمة. إن هدف إدارة ترامب الذي تم الإعلان عنه مؤخرا بتسريع المشروع واستعادة عمليات الهبوط على سطح القمر هو أمر جديد لا يمكن تقييمه، لكن مصير إعلاني بوش الأب وبوش الابن يظهر بمفرده أن التشكيك له ما يبرره.
الخلاصة
لقد مر أكثر من ربع قرن منذ نهاية الحرب الباردة، ومع ذلك استمر الطيران الفضائي المأهول مع تزايد عدد المشاركين. ويتم الآن تطوير خمس مركبات فضائية جديدة في الولايات المتحدة: «سبيسشيب تو» و«نيو شيبارد» و«كرو دراجون» و«سي إس تي-100» و«أوريون»، وأخرى في روسيا: «فيديراتسيا» (التي تعني بالعربية «الاتحاد») لتحل محل المركبة «سويوز». وسوف تستمر «شنتشو» في التحليق، وكذلك ستبقى محطة الفضاء الدولية (على الأقل حتى منتصف عشرينيات القرن الحادي والعشرين)، وسوف يكون الأوروبيون واليابانيون والكنديون وغيرهم على متن بعض هذه المركبات أو كلها. (تمول وكالة الفضاء الأوروبية وحدة الخدمة للمركبة «أوريون» استنادا إلى سفينة شحن محطة الفضاء الدولية الخاصة بها.) إن عدم وجود أي غرض مقنع وغير سياسي لرحلات الفضاء المأهولة، والفشل في تحقيق أي من توقعات دعاة المستقبلية الفلكية فيما يتعلق بقواعد القمر، ومستعمرات المريخ، وما شابه، لم يوقف النشاط.
وكما رأينا، يرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن رحلات الفضاء ما زالت هي الدليل على مكانة القوة العظمى وعلى القدرة العلمية التكنولوجية، بالإضافة إلى أنها تحافظ على وظائف في الأماكن والصناعات التي نمت بشكل متفجر خلال سباق الفضاء والصواريخ. علاوة على ذلك، لا تزال الثقافة الفلكية العالمية تولد رؤى لاستكشاف الإنسان للفضاء البعيد، واستعماره له، كما أن استجابة الجمهور لتجارب رواد الفضاء والسياحة الفضائية تقدم دليلا دامغا على أن الكثيرين يريدون الذهاب إلى الفضاء، وليس فقط رؤيته من خلال عيون الروبوتات. لكن السنوات التي انقضت منذ نهاية الحرب الباردة - بل منذ نهاية «أبولو» - أثبتت مدى صعوبة رحلات الفضاء المأهولة وغلائها، حتى بدون التحديات الصحية الخطيرة التي يطرحها انعدام الجاذبية والإشعاع الكوني أثناء الإقامة الطويلة في الفضاء. وما لم يكن هناك سباق جديد مستوحى من الوضع الجغرافي السياسي، أو اكتشفت حياة خارج كوكب الأرض، فمن الصعب تخيل أن الوضع سيتغير بسرعة، حتى لو عدنا إلى القمر في عشرينيات القرن الحادي والعشرين.
لا تزال الثقافة الفلكية العالمية تولد رؤى لاستكشاف الإنسان للفضاء البعيد، واستعماره له، كما أن استجابة الجمهور لتجارب رواد الفضاء والسياحة الفضائية تقدم دليلا وافرا على أن الكثيرين يريدون الذهاب إلى الفضاء، وليس فقط رؤيته من خلال عيون الروبوتات.
الخاتمة: ماضي رحلات الفضاء ومستقبلها
وصلت رحلات الفضاء بسرعة مذهلة في منتصف القرن العشرين. وبعد سبعة وعشرين عاما فقط من أولى رحلات «في-2» في عام 1942، وطئت أقدام البشر على سطح القمر. وبحلول عام 1989، كانت المركبات الفضائية الروبوتية قد حلقت بالقرب من كل الكواكب الكبرى، وتوجهت أربعة إلى الفضاء بين النجوم. ولم يكن من الممكن تحقيق مثل هذه الإنجازات لولا رؤى ودعوات المنظرين والمروجين الأوائل، المدعومين بالثقافة الفلكية التي جعلت رحلات الفضاء تبدو ممكنة وممتعة لجمهور أكبر بكثير. ولكن لولا القوى الدافعة للحرب، وسباقات التسلح الدولية، والمنافسة السياسية، لكانت رحلات الفضاء ستستغرق وقتا أطول بكثير للظهور ولكانت ستتخذ مسارا مختلفا تماما.
بمجرد أن تباطأ سباق الفضاء في الحرب الباردة ثم انتهى، تباطأت وتيرة التغيير، لا سيما في رحلات الفضاء المأهولة. إلا أن قدرة إنجازات الفضاء على التدليل على أهمية الدول وقدرتها التكنولوجية ساعدت في الحفاظ على برامج المسهمين الفضائيين الأصليين وجذبت دولا جديدة في كل قارة. قد أدت عولمة رحلات الفضاء إلى تعجيل عولمة العالم، لا سيما من خلال انتشار التليفزيون والترفيه عبر الأقمار الصناعية للاتصالات. إن الفائدة المطلقة للبنية التحتية الفضائية، سواء لكسب المال، أو تعزيز القوة العسكرية، أو تمكين الملاحة، أو التنبؤ بالطقس، أو تقديم الإنذارات، تعني أن النشاط الفضائي كان سيتوسع حتى بدون مزايا الإشارات الجيوسياسية. علاوة على ذلك، كما أشرت طوال الكتاب، فإن إضفاء الطابع المؤسسي على رحلات الفضاء في الوكالات الحكومية والشركات والجامعات ومراكز البحوث أوجد فرص عمل وقدرات علمية تكنولوجية حافظت على الدعم السياسي لبرامج الفضاء، لا سيما في القطاعات ذات قيمة الاستخدام الأقل وضوحا (ولكن غالبا ما تكون قيمة الإشارة أكبر) مثل رحلات الفضاء المأهولة واستكشاف الكواكب وعلم الفلك الفضائي. بالنظر إلى كل هذه العوامل، يبدو من المرجح أن رحلات الفضاء ستستمر في التوسع والعولمة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالبنية التحتية التي تدور حول الأرض، والتي تشكل حاليا الغالبية العظمى من كل ما نقوم به في الفضاء.
بحلول عام 1989، كانت المركبات الفضائية الروبوتية قد حلقت بالقرب من كل الكواكب الكبرى، وتوجهت أربعة إلى الفضاء بين النجوم.
ومع ذلك، فإن استقرار بنيتنا التحتية الفضائية يواجه تهديدين رئيسيين؛ النفايات الفضائية وحرب الفضاء؛ حيث إن عدد الأقمار الصناعية المتوقفة عن العمل (الميتة) ومراحل الصواريخ والمخلفات العشوائية يمثل مشكلة بالفعل، خاصة في مدار الأرض المنخفض. وثمة مئات، بل آلاف من المجموعات الجديدة من المركبات الفضائية المصغرة الخاصة بالاتصالات ومراقبة الأرض، تحت الإنشاء في الوقت الحالي. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى متلازمة كيسلر؛ سلسلة من التصادمات التي تخلق غيوما من الحطام يمكن أن تجعل بعض المناطق المدارية غير قابلة للاستخدام. كما أن الهجمات المادية على الأقمار الصناعية، كجزء شبه أكيد من حرب على الأرض، سيؤدي إلى السلسلة نفسها من التصادمات. وسوف ينتج ذلك بالتأكيد سباق تسلح جديدا في الفضاء.
استقرار بنيتنا التحتية الفضائية يواجه تهديدين رئيسيين؛ النفايات الفضائية، وحرب الفضاء.
أما على المدى الطويل، فقد وضع دعاة المستقبلية الفلكية في منتصف القرن جدول أعمال لا يزال مقنعا بالنسبة إلى الكثيرين؛ رؤية تتمحور حول رحلات الفضاء المأهولة إلى مستعمرات القمر والمريخ ونشاط يمتد عبر النظام الشمسي. ولطالما شعر عشاق الفضاء بخيبة الأمل مرات ومرات نتيجة لعدم تحقق هذه الرؤية. ويبدو أنه لا يوجد سبب لتوقع حدوثها في أي وقت قريب أيضا، على الرغم من أنه ستكون هناك رحلات طيران مأهولة إلى القمر وربما إلى المريخ في العقدين أو الثلاثة عقود القادمة. وتعد مثل هذه المشاريع مكلفة للغاية؛ ولذا فإن الحفاظ على الدعم السياسي على المدى الطويل لا يزال صعبا إذا لم تتمكن هذه المشاريع من الإنفاق على نفسها. هناك أيضا أسئلة جادة حول قدرة الأجسام البشرية على التكيف مع الإشعاع في الفضاء العميق وانخفاض الجاذبية. وقد تساءل مؤرخا الفضاء روجر لونيوس وهوارد ماكوردي عما إذا كانت الآلات الذكية أو السايبورج التي يمكن أن ننشئها ستكون أكثر ملاءمة للمهمة من البشر الضعفاء. ولكننا بطبيعة الحال، قد لا نتقبل فكرة استبدالنا.
1
سؤال آخر يطرح نفسه، وهو ما إذا كان بإمكاننا متابعة استكشاف الفضاء العميق، في حالة مواجهة البشرية، كما يبدو محتملا، لأزمة عالمية حادة في هذا القرن نتيجة ارتفاع مستوى سطح البحر، والطقس المتطرف، وفقدان الأراضي الصالحة للزراعة، والنمو السكاني، مما يؤدي إلى تدفقات هائلة من اللاجئين وإلى مجاعات.
2
إن تغير المناخ أمر خبيث لأنه يعمل على فترات زمنية أطول مما يبدو أن أنظمتنا السياسية مصممة للتعامل معها. وقد يبدو الاستكشاف الروبوتي والبشري للفضاء ترفا يمكن الاستغناء عنه في ظل مثل هذه الأزمة، إلا أن المناصرين له كان لهم رأي آخر؛ إذ جادلوا بأننا بحاجة إلى مستعمرات فضائية كسياسة تأمين ضد تدمير كوكبنا. وقد ساعدت صور الفضاء بالتأكيد في تعزيز وعي كوكبي جديد، وعي قد ينتج عنه إحساس بضعف الأرض. كما كانت الأقمار الصناعية أيضا ذات أهمية جوهرية من الناحية العلمية لفهم بيئتنا العالمية المتغيرة، وهي معلومات ضرورية إذا أردنا اتخاذ إجراءات فعالة. والعلوم والتكنولوجيا التي تم تطويرها من أجل رحلات الفضاء كانت وستكون حاسمة في تشكيل استجابتنا لتغير المناخ وتحويل الطاقة، على سبيل المثال، بدأت الألواح الشمسية كتكنولوجيا فضائية. إن المشكلة ليست في إيجاد حلول تقنية للتخفيف من الأزمات القادمة؛ بل هي إيجاد الإرادة السياسية للقيام بشيء فعال.
ليست وظيفة المؤرخين، بطبيعة الحال، هي التنبؤ. وإذا ما استخدمناهم في هذه الوظيفة، فهو أمر، في أفضل الأحوال، محفوف بالمخاطر. ولكننا نستطيع أن ننظر إلى تاريخ رحلات الفضاء ونرى إنجازات بشرية بدت مستحيلة قبل بضعة عقود فقط. وهذا سيعطينا الأمل بأننا قادرون على حل مشاكلنا في كل الأحوال.
مسرد المصطلحات
الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (
NASA ):
تأسست وكالة الفضاء المدنية الأمريكية في عام 1958 باعتبارها توسعا في اللجنة الاستشارية الوطنية للملاحة الجوية (
NACA ).
أكسجين سائل (
LOX ):
أكثر المواد المؤكسدة شيوعا، ويستخدم في الصواريخ التي تعمل بالوقود السائل، ويتم تسييل الأكسجين عند 297 درجة فهرنهايت عند الضغط الجوي على مستوى سطح البحر.
روسكوزموس:
تأسست وكالة الفضاء الروسية في عام 1992. وفي عام 2015، أعيد تنظيمها باسم مؤسسة «روسكوزموس» الحكومية للأنشطة الفضائية.
السنة الجيوفيزيائية الدولية (
IGY ):
حملة علمية دولية تركز في المقام الأول على المناطق القطبية للأرض والغلاف الجوي والمحيطات والمجال المغناطيسي والأيونوسفير والفضاء القريب، وقد بدأت في 1 يوليو 1957 حتى 31 ديسمبر 1958.
صاروخ:
نظام دفع مستقل بذاته يتم فيه حمل جميع المواد الدافعة داخليا وتتشكل قوته من خلال خروج دفقة من الغاز الساخن أو البلازما المتأينة. يعمل وفقا لقانون نيوتن الثالث للحركة: لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. ويستخدم هذا المصطلح أيضا لوصف أي مركبة مدفوعة بهذا النظام. انظر أيضا صاروخ المسحوق الأسود، والصاروخ الذي يعمل بالوقود السائل، والصاروخ الذي يعمل بالوقود الصلب.
صاروخ المسحوق الأسود:
أقدم شكل من أشكال الصواريخ، وقد ظل الشكل الوحيد لمدة ثمانمائة سنة. تم اختراع المسحوق الأسود في الصين حوالي عام 1100 ميلاديا، وقد كان نوعا من البارود، ولكنه أبطأ في الاحتراق، وهو مزيج من الملح الصخري والكبريت والفحم.
صاروخ يعمل بالوقود السائل:
نظام دفع صاروخي يعتمد على التفاعل الكيميائي لواحد أو أكثر من المواد الدافعة السائلة. عادة، هناك اثنان: الوقود والمؤكسد الذي سيحترق في عملية احتراق محفزة أو تلقائية، مما ينتج دفقة سريعة التوسع من الغاز الساخن.
صاروخ يعمل بالوقود الصلب:
محرك صاروخي تمتزج فيه المواد الدافعة مكونة مادة صلبة. كان أقدم شكل له هو صاروخ المسحوق الأسود. ويعد الوقود الصلب الحديث عبارة عن مخاليط معقدة تحتوي على مركبات تشبه المطاط ممزوجة بالبيركلورات أو الفوق كلورات الحاملة للأكسجين والألومينيوم المنشط. وهو يحترق من الداخل إلى الخارج على طول قناة طويلة يتم تشكيلها لتنظيم معدل الاحتراق.
عولمة:
هي تكامل مختلف مناطق العالم ومجتمعاته وثقافاته واقتصاداته وأنظمته السياسية.
كوكبة:
الوعي المتزايد بأن الأرض ما هي إلا كوكب في النظام الشمسي مثل الكواكب الأخرى. ويعزز هذا المفهوم توفر الصور الفضائية الخاصة بالأرض.
متلازمة كيسلر:
في عام 1978، وصف عالم وكالة ناسا دونالد جيه كيسلر سلسلة محتملة من التصادمات بين المركبات الفضائية والنفايات الفضائية، مما قد يؤدي إلى جعل بعض المناطق المدارية غير قابلة للاستخدام بسبب كثافة الحطام.
مدار الأرض الجغرافي الثابت (
GEO ):
تستغرق المركبة الفضائية التي تدور على بعد حوالي 22300 ميل فترة أربع وعشرين ساعة للدوران، وهو ما يتوافق مع المدة التي تستغرقها الأرض للدوران. عندما يكون المدار دائريا ويكون الميل صفرا، أي فوق خط الاستواء تماما، يبدو القمر الصناعي كما لو كان يحوم فوق موقع محدد على خط الاستواء، وبالتالي يكون ثابتا بالنسبة إلى الأرض. يستخدم هذا المدار في المقام الأول من قبل الأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات العالمية والمراقبة.
مدار الأرض المتوسط (
MEO ):
منطقة مدارية على ارتفاع حوالي 11000 إلى 12000 ميل، وتشغلها أساسا المركبات الفضائية الملاحية. تدور هذه الأقمار الصناعية في المدارات الدائرية على هذا الارتفاع في فترات حوالي اثنتي عشرة ساعة.
مدار الأرض المنخفض (
LEO ):
تعرف منطقة مدار الأرض المنخفض عادة بأنها على ارتفاع من 100 إلى 1200 ميل. تتراوح المدة التي تدور فيها الأجسام في المدار القريب من الأرض من تسعين دقيقة إلى بضع ساعات. وتتحلل مدارات الأجسام الموجودة في الجزء الأكثر انخفاضا من المنطقة بسرعة بسبب الاحتكاك مع الغلاف الجوي الخارجي الضعيف للأرض.
مكتب الاستطلاع الوطني (
NRO ):
أنشأته وكالة الفضاء العسكرية الأمريكية في عام 1961 لتطوير وإنتاج الأقمار الصناعية الاستطلاعية.
نظام تحديد المواقع العالمي (
GPS ):
نظام من الأقمار الصناعية التي تديرها القوات الجوية الأمريكية. هذه المركبات الفضائية في مدارات اثنتي عشرة ساعة على ارتفاع حوالي 11000 ميل، ولديها ساعات ذرية دقيقة للغاية، وتنقل إشارة زمنية ومعلومات حول مداراتها. ويمكن لأجهزة الاستقبال الموجودة على الأرض حساب المواقع والارتفاعات الدقيقة من خلال تثليث الإشارات من ثلاثة أقمار صناعية على الأقل.
وكالة الفضاء الأوروبية (
ESA ):
تأسست في عام 1975 نتيجة لدمج منظمة أبحاث الفضاء الأوروبية (
ESRO ) ومؤسسة تطوير قواعد الإطلاق الأوروبية (
ELDO )، وهي وكالة تعاونية مستقلة عن الاتحاد الأوروبي. وتهيمن عليها دول أوروبا الغربية، ولكن بعد انهيار الكتلة السوفييتية، توسعت لتشمل دول أوروبا الشرقية.
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الخاتمة: ماضي رحلات الفضاء ومستقبلها
قراءات إضافية
Buss, Jared S.
Willy Ley: Prophet of the Space Age . Gainesville, FL: University Press of Florida, 2017.
Ceruzzi, Paul.
GPS: A Concise History . Cambridge, MA: MIT Press, 2018.
Clary, David A.
Rocket Man: Robert H. Goddard and the Birth of the Space Age . New York: Hyperion, 2003.
Crouch, Tom D.
Aiming for the Stars: The Dreamers and Doers of Space Exploration . Washington, DC: Smithsonian Institution Press, 1999.
DeVorkin, David H.
Science with a Vengeance: How the Military Created the US Space Sciences after World War II . New York: Springer, 1992.
Dick, Steven J.
Life on Other Worlds: The 20th-Century Extraterrestrial Life Debate . Cambridge: Cambridge University Press, 1998.
FitzGerald, Frances.
Way Out There in the Blue: Reagan, Star Wars and the End of the Cold War . New York: Simon & Schuster, 2000.
Geppert, Alexander C. T., ed.
Imagining Outer Space: European Astroculture in the Twentieth Century . Basingstoke, UK: Palgrave Macmillan, 2012.
Gerovitch, Slava.
Soviet Space Mythologies: Public Images, Private Memories, and the Making of a Cultural Identity . Pittsburgh: University of Pittsburgh
Hansen, James R.
First Man: The Life of Neil A. Armstrong . New York: Simon & Schuster, 2005.
Heppenheimer, T. A.
Countdown: A History of Spaceflight . New York: John Wiley & Sons, 1997.
Hersch, Matthew H.
Inventing the American Astronaut . New York: Palgrave Macmillan, 2012.
Jenks, Andrew L.
The Cosmonaut Who Wouldn’t Stop Smiling: The Life and Legend of Yuri Gagarin . Dekalb, IL: Northern Illinois University Press, 2012.
Kilgore, DeWitt Douglas.
Astrofuturism: Science, Race, and Visions of Utopia in Space.
2003.
Kulacki, Gregory, and Jeffrey G. Lewis.
A Place for One’s Mat: China’s Space Program, 1956-2003 . Cambridge, MA: American Academy of Arts and Sciences, 2009.
https://www.amacad.org/publications/spaceChina.pdf .
Launius, Roger D.
Space Stations: Base Camps to the Stars . Washington, DC: Smithsonian Books, 2003.
Launius, Roger D., and Howard E. McCurdy.
Robots in Space: Technology, Evolution, and Interplanetary Travel . Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2008.
Logsdon, John M.
John F. Kennedy and the Race to the Moon . New York: Palgrave Macmillan, 2010.
McCurdy, Howard E.
Space and the American Imagination . Washington, DC: Smithsonian Institution Press, 1997.
McDougall, Walter A. ... the Heavens and the Earth: A Political History of the Space Age.
New York: Basic Books, 1985.
Murray, Charles, and Catherine Bly Cox.
Apollo: The Race to the Moon . New York: Simon & Schuster, 1989.
Neal, Valerie.
Spaceflight in the Shuttle Era and Beyond: Redefining Humanity’s Purpose in Space . New Haven, CT: Yale University Press, 2017.
Neufeld, Michael J.
The Rocket and the Reich: Peenemünde and the Coming of the Ballistic Missile Era . New York: The Free Press, 1995.
Neufeld, Michael J.
Von Braun: Dreamer of Space, Engineer of War . New York: Alfred A. Knopf, 2007.
Siddiqi, Asif A.
Challenge to Apollo: The Soviet Union and the Space Race, 1945-1974 . Washington, DC: NASA, 2000. Republished as
Sputnik and the Soviet Space Challenge and The Soviet Space Race with Apollo . Gainesville: University Press of Florida, 2003.
Siddiqi, Asif A.
The Red Rockets’ Glare: Spaceflight and the Soviet Imagination, 1857-1957 . Cambridge: Cambridge University Press, 2010.
Smith, Robert W.
The Space Telescope: A Study of NASA, Science, Technology, and
. Cambridge: Cambridge University Press, 1989.
Weitekamp, Margaret.
Right Stuff, Wrong Sex: America’s First Women in Space Program . Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 2004.
Westwick, Peter J.
Into the Black: JPL and the American Space Program, 1976-2004.
New Haven, CT: Yale University Press, 2007.
Unknown page