بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الناشر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذبه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فلما كان من شأن المسلم أن يتعبد الله تعالى طبق ما شرعه تعالى في كتابه وبما جاء في سنة رسوله محمد ﷺ الصحيحة، وما تفرع عنهما من أحكام، وكان الوصول لمعرفة تلك الأحكام غير متيسر لكل إنسان فقد امتن الله تعالى على هذه الأمة بعلماء أجلاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، تفقهوا في دين الله وتعمقوا في فهم النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله، وأظهروا ما فيها من أحكام، حتى أوضحوا للناس معالم الطريق على هدى وبصيرة، فرضي الله عنهم أجمعين بقدر ما اجتهدوا وبذلوا.
ولقد كان من الطبيعي أن تختلف بعض أقوالهم، وتتعدد فتاواهم في المسألة الواحدة لأسباب بينها المؤلف في هذه الرسالة، فلم يوجد ما يوجب أو يبيح طعن بعضهم
1 / 3
ببعض، وإنما أخذ كل مسلم القول الذي رآه مع الدليل وعمل به. ومن جهل الدليل استفتى من يثق به في علمه وتقواه، فأخذ بقوله وعمل بمقتضاه، ثم جاء من بعد ذلك من تعصب لبعض الأقوال ووالى أصحابها، ونسب لهم من صفات المدح ونعوت الكمال ماهم - بفضلهم وتقواهم وعملهم- بغنى عنه، ونسب لغيرهم من النقائص ماهم - بما أكرمهم الله - منزهون عنه وقد استغل هذا الخلاف أعداء هذا الدين، فراحوا يثيرون الخلاف بغية مآربهم الخبيثة، ويضاعفون الشقة بين المسلمين لأغراضهم الدفينة فكان من نتيجة ذلك أن تفرقت الأمة شيعا وأحزابا، وفرقا ومذاهب، فكثر الجدال، وتنوعت الأقوال، وقل العمل، فعند ذلك طمع فينا من كان يهابنا، فنكبت البلاد الإسلامية بالصليبين زمنا، وبالتتار ومن بعدهم ثم أخيرا التحالف الشيوعي، والصليبي، والصهيوني كما هو حال المسلمين اليوم.!
وقد تنبه إلى هذه الأخطاء عدد من العلماء المفكرين، فقام كل في مكانه وزمانه يبذل الجهد في جمع الشتات، وإعادة الناس إلى الأصل الذي ينبغي أن يفتخر بالانتساب إليه، والاعتماد عليه كل مسلم. ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله محمد ﷺ فبهما تتوحد
1 / 4
صفوفهم، وتزول خلافاتهم، وتذهب أحقادهم، ولقد كان من أعظم هؤلاء الذين ساهموا في تنقية الفكر الإسلامي من الفرق والاختلاف شيخ الإسلام ابن تيمية (١) ﵀. فقد فند رحمه اللهفي مؤلفاته القيمة جميع المحاولات التي كان يثيرها الأعداء حول الإسلام، وكان مع هذا من أبرز القواد الذين شاركوا في تطهير ديار المسلمين من الغزاة" التتر"
ومن أبرز أعماله في جمع الناس على الكتاب والسنة قيامه بتأليف هذه الرسالة القيمة في بابها، العظيمة في موضوعها،! فإنه-﵀ بين فيها ما يجب على كل مسلم. من موالاة المسلمين، وخاصة العلماء الذين هم قدوة السلف الصالح، وخلفاء الرسل. فذكر ﵀ أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة يتعمد مخالفة الرسول
_________
هو الإمام المفسر، الفقيه، المجتهد تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله الحراني، ثم الدمشقي الحنبلي. ولد في ربيع الأول بحران سنة ٦٦١، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، حدث بدمشق، ومصر، وثغر، وامتحن وأوذي في سبيل الله مرات. وحبس بقلعة القاهرة والإسكندرية، ثم بقلعة دمشق مرتين، وبها توفي وهو سجين في ذي القعدة سنة ٧٢٨ هـ
انظر مصادر ترجمته:-
١. تذكرة الحفاظ للذهبي ٤/٢٧٨
٢. البداية والنهاية لابن كثير ١٤/١٣٢
٣. الدرر الكامنة لابن حجر ١/١٤٤
٤. البدر الطالع للشوكاني ٢/٦٣
٥. النجوم الزاهرة ٩/٢٧١
1 / 5
ﷺ في شيء من سنته، وأنه لا يسوغ لمسلم أن يطغى في واحد منهم، أو ينقص من قدره، وأنهم جميعا متفقون إتفاقا يقينياعلى وجوب إتباع ما صح من النصوص وسلم من المعارضة، وأنه لا يجوز تقديم قول أحدهم على حديث رسول الله ﷺ.
وقد بسط الأسباب التي دعت المجتهد إلى عدم الأخذ بالنص، وإلتمس له العذر. ثم ذكر أن عذر الإمام ليس عذرا للمقلد إن تبين له الحق. كما ذكر حال العامي الجاهل الذي لايستطيع، وأن مذهبه مذهب مفتيه، وأن عليه التقليد ما دام جاهلا وهذا كله للجاهل الذي لا يفرق، وأما من أدلرك من العلم شيئا فعليه العمل به، ولا يجوز لأحد التعصب مهما كانت دواعيه.
وهذه الرسالة على صغر حجمها تدل على ورع هذا الإمام، وكمال فقهه في إحترام أقوال العلماء السابقين، وأئمة المذاهب الأربعة. فرحم الله إمرءا عرف قدر هذا الإمام وغيره من أئمة الإسلام، وأنزلهم في المنزلة التي يليقون بها.
وقد سبق لهذه الرسالة أن طبعت عدة مرات، وكان أخرها الطبع البيروتية في الشام بتحقيق الشيخ زهير الشاويش، إلا أن هذه الطبعة مع ما تتميز به من
1 / 6
الزيادات كتخريج بعض الأحاديث- كثرت فيها الأخطاء الإملائية، والمطبعية، لهذا رأينا إعادة طبعها من جديد، بعد أن قمنا بمراجعتها، وتصحيح الإخطاء الإملائية، إضافة إلى ترجمة المؤلف.
هذا ورئاسة إدارات البحوث العلمية- وهي حاملة لواء الدعوة في هذا البلاد تامقدسة- إذ تقدم هذه الرسالة القيمة في طبعتها الجديدة ليسرها أن توزعها مجانا على طلبة العلم، مساهمة منها في نشر العلم النافع، وأثار السلف الصالح، راجية من الله تعالى أن ينفع بعا المسلمين في كل مكان إنه نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الناشر
1 / 7
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى آلَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ صَلَاةً دَائِمَةً إلَى يَوْمِ لِقَائِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَبَعْدُ: فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ -بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ تعالى وَرَسُولِهِ ﷺ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ. خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ، الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ، يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (١) . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ.
إذْ كَلُّ أُمَّةٍ -قَبْلَ مَبْعَثِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا، إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ ﷺ فِي أُمَّتِهِ، والمحيون لِمَا مَاتَ مِنْ سُنَّتِهِ. بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ، وَبِهِ قَامُوا، وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا.
وَلِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ -الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا- يَتَعَمَّدُ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَيْءٍ مِنْ سُنَّتِهِ؛ دَقِيقٍ وَلَا جَلِيلٍ.
_________
(١) يقصد بها الثوابت من النجوم، كالجدي، والثريا وغيرها.
1 / 8
فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينِيًّا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ﷺ. وَعَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ، إلَّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ لِوَاحِدِ مِنْهُمْ قَوْلٌ قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِخِلَافِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عُذْرٍ فِي تَرْكِهِ. وَجَمِيعُ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَهُ.
وَالثَّانِي: عَدَمُ اعْتِقَادِهِ إرَادَةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: اعْتِقَادُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ.
وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ تَتَفَرَّعُ إلَى أَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ:
أَن لا يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ لَمْ يُكَلَّفْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمُوجَبِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَهُ -وَقَدْ قَالَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ بِمُوجَبِ ظَاهِرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ آخَرَ؛ أَوْ بِمُوجَبِ قِيَاسٍ؛ أَوْ مُوجَبِ اسْتِصْحَابٍ- فَقَدْ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ تَارَةً، وَيُخَالِفُهُ أُخْرَى.
وَهَذَا السَّبَبُ: هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يُوجَدُ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ مُخَالِفًا لِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ.
فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ تَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْأُمَّةِ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحَدِّثُ؛ أَوْ يُفْتِي؛ أَوْ يَقْضِي؛ أَوْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ؛
1 / 9
فَيَسْمَعُهُ أَوْ يَرَاهُ مَنْ يَكُونُ حَاضِرًا، وَيُبَلِّغُهُ أُولَئِكَ -أَوْ بَعْضُهُمْ- لِمَنْ يُبَلِّغُونَهُ، فَيَنْتَهِي عِلْمُ ذَلِكَ إلَى مَنْ شَاءُ اللَّهُ تعالى مِنْ الْعُلَمَاءِ، مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: قَدْ يُحَدِّثُ، أَوْ يُفْتِي، أَوْ يَقْضِي، أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا، وَيَشْهَدُهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَيُبَلِّغُونَهُ لِمَنْ أَمْكَنَهُمْ. فَيَكُونُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ.
وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ الْعُلَمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ أَوْ جَوْدَتِهِ.
وَأَمَّا إحَاطَةُ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ ادِّعَاؤُهُ قَطُّ.
وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ﵃ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِأُمُورِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ، خُصُوصًا الصِّدِّيقُ ﵁ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُفَارِقُ رسول الله ﷺ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَعَهُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، حَتَّى إنَّهُ يَسْمَرُ عِنْدَهُ بِاللَّيْلِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁، فَإِنَّ رسول الله ﷺ كَثِيرًا مَا كان يَقُولُ: (دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) وَ(خَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) .
1 / 10
ثُمَّ إنه -مَعَ ذَلِكَ- لَمَّا سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ ﵁ عَنْ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ قَالَ: ﴿مَالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وَمَا عَلِمْت لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ شَيْءٍ، وَلَكِنْ اسْأَلْ النَّاسَ﴾ فَسَأَلَهُمْ. فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مسلمة ﵄ فَشَهِدَا ﴿أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَعْطَاهَا السُّدُسَ﴾ (١) وَقَدْ بَلَّغَ هَذِهِ السُّنَّةَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ ﵁ أَيْضًا.
وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْخُلَفَاءِ ﵃ ثُمَّ قَدْ اخْتَصُّوا بِعِلْمِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي قَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا.
وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ سُنَّةَ الِاسْتِئْذَانِ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِهَا أَبُو مُوسَى الأَشْعريُّ ﵁ وَاسْتَشْهَدَ بِالْأَنْصَارِ (٢) . وَعُمَرُ أَعْلَمُ مِمَّنْ حَدَّثَهُ بِهَذِهِ السُّنَّةِ.
وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ ﵁ أَيْضًا يَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، بَلْ يَرَى: أَنَّ الدِّيَةَ لِلْعَاقِلَةِ، حَتَّى
_________
(١) رواه أبو داود، والترمذي، من حديث قبيصة بن ذؤيب مرسلًا، وله طرق مرسلة، منها حديث عمران بن حصين.
(٢) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري ﵁. انظر "فتح الباري" (١١ \ ٤٣) .
1 / 11
كَتَبَ إلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ ﵁ -وَهُوَ أَمِيرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَعْضِ الْبَوَادِي- يُخْبِرُهُ ﴿أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ- ﵁ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا﴾ (١) فَتَرَكَ رَأْيَهُ لِذَلِكَ، وَقَالَ: ﴿لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا بِخِلَافِهِ﴾ . وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ حُكْمَ الْمَجُوسِ فِي الْجِزْيَةِ، حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: سَنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ (٢) .
وَلَمَّا قَدِمَ سَرْغ (٣) وَبَلَغَهُ أَنَّ الطَّاعُونَ بِالشَّامِ، اسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ مَعَهُ، ثُمَّ الْأَنْصَارَ، ثُمَّ مُسْلِمَةَ الْفَتْحِ، فَأَشَارَ كُلٌّ عَلَيْهِ بِمَا رَأَى، وَلَمْ يُخْبِرْهُ أَحَدٌ بِسُنَّةٍ، حَتَّى قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ﵁ فَأَخْبَرَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الطَّاعُونِ، وَأَنَّهُ قَالَ: ﴿إذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا
_________
(١) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(٢) رواه الشافعي في (مسنده) مرسلا، وله طرق مرسلة بهذا اللفظ، وروى أحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي: عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر. اهـ
(٣) موضع في آخر الشام وأول الحجاز، بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام. وقيل: على ثلاث عشرة مرحلة من المدينة المنورة. "معجم البلدان".
1 / 12
فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ﴾ (١) .
وَتَذَاكَرَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵃ أَمْرَ الَّذِي يَشُكُّ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿أنَّهُ يَطْرَحُ الشَّكَّ، وَيَبْنِي عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ﴾ (٢) .
وَكَانَ مَرَّةً فِي السَّفَرِ، فَهَاجَتْ رِيحٌ فَجَعَلَ يَقُولُ: ﴿مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنْ الرِّيحِ؟﴾ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَلَغَنِي وَأَنَا فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَحَثَثْت رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْته، فَحَدَّثْته بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحِ (٣) .
فَهَذِهِ مَوَاضِعُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا عمر ﵁ حَتَّى بَلَّغَهُ إيَّاهَا مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ، وَمَوَاضِعُ أُخَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ مَا فِيهَا مِنْ السُّنَّةِ فَقَضَى فِيهَا أَوْ أَفْتَى فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
_________
(١) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عوف ﵁.
(٢) رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، ولكن عن أبي سعيد الخدري ﵁، وأما رواية عبد الرحمن بن عوف، فرواها أحمد، والترمذي، وابن ماجة ولفظه (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر، أو واحدة صلى، أم اثنين، فليجعلهما واحدة،....) وليس فيها أن يطرح الشك ويبني على ما استيقن، كما ذكر المؤلف ﵀.
(٣) وهو ما روى مسلم في "صحيحه" عن عائشة ﵂ قالت: كان النبي ﷺ إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) . =
1 / 13
مِثْلَ مَا قَضَى فِي دِيَةِ الْأَصَابِعِ: أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ مَنَافِعِهَا، وَقَدْ كَانَ عِنْد أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَبَّاسٍ ﵃ -وَهُمَا دُونَهُ بِكَثِيرِ فِي الْعِلْمِ- عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ﴿هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ يَعْنِي الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ﴾ (١) فَبَلَغَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ معاويةَ ﵁ فِي إمَارَتِهِ فَقَضَى بِهَا، وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ عَيْبًا فِي حق عُمَرَ ﵁ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ.
وَكَذَلِكَ كَانَ ينْهى الْمُحْرِمَ عَنْ التَّطَيُّبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ؛ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَة، ِ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ- ﵄ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ ﵂: ﴿طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ﴾ (٢) .
_________
= وما روى أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (الريح من روح الله. تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها) وهو حديث حسن صحيح كما قال الحافظ ابن حجر.
(١) رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة عن عبد الله بن عباس ﵄.
(٢) متفق عليه من حديث عائشة ﵂.
1 / 14
وَكَانَ يَأْمُرُ لَابِسَ الْخُفِّ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَخْلَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ أَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ الَّتِي صَحَّتْ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي الْعِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ صَحِيحَةٍ (١) .
وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ ﵁ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ فِي بَيْتِ الْمَوْتِ، حَتَّى حَدَّثَتْهُ الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري ﵄ بِقَضِيَّتِهَا لَمَّا تُوُفِّيَ عنها زَوْجُهَا، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهَا: ﴿اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾ (٢) فَأَخَذَ بِهِ عُثْمَانُ. وَأُهْدِيَ لَهُ مَرَّةً صَيْدٌ كَانَ قَدْ صِيدَ لِأَجْلِهِ، فَهَمَّ بِأَكْلِهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَلِيٌّ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ
_________
(١) رواه أحمد ومسلم، من حديث علي ﵁ ورواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديث خزيمة بن ثابت ﵁، ورواه النسائي، والترمذي وابن خزيمة وصححاه، من حديث صفوان بن عسال ﵁، ورواه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث ﵁، فهذه الأحاديث تدل على توقيت المسح على الخفين، يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر. وقال الترمذي: وهو قول أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسام والتابعين من بعدهم من الفقهاء.
(٢) أخرجه أصحاب "السنن" وصححه الترمذي. وابن حبان، والحاكم وغيرهم، من حديث فريعة بنت مالك ﵂ انظر "المسند" ٦ \ ٣٨٠.
1 / 15
رَدَّ لَحْمًا أُهْدِيَ لَهُ (١) .
وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ ﵁ قَالَ: كُنْت إذَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْته، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْته، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ -وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- وَذَكَرَ حَدِيثَ صَلَاةِ التَّوْبَةِ الْمَشْهُورَ (٢) . وَأَفْتَى هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّ: الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَعْتَدُّ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سبيعة الأسلمية ﵂ وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة، حَيْثُ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ ﷺ بِأَنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَا (٣) .
_________
(١) رواه أحمد في "المسند" انظر الحديث رقم (٧٨٣ - ٧٨٤) . طبع المكتب الإسلامي.
(٢) روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة: أن أبا بكر ﵁ سمع النبي صلى الله قال: (ما من رجل يذنب ذنبا، فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين. ثم يستغفر الله، إلا غفر الله له) ثم قرأهذه الآية: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله....) الآية. آل عمران: ١٣٥ - وقال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث جيد الإسناد.
(٣) رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، بألفاظ متقاربة، عن سبيعة الأسلمية ﵂.
1 / 16
وَأَفْتَى هُوَ وَزَيْدٌ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ ﵃ بِأَنَّ الْمُفَوَّضَةَ ﴿إذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا﴾ وَلَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَرْوَع بِنْتِ وَاشِقٍ ﵂ (١) .
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَبْلُغُ الْمَنْقُولُ مِنْهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَدَدًا كَثِيرًا جِدًّا.
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ مِنْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ أُلُوفٌ.
فَهَؤُلَاءِ كَانُوا أَعْلَمَ الْأُمَّةِ وَأَفْقَهَهَا، وَأَتْقَاهَا وَأَفْضَلَهَا، فَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْقَصُ؛ فَخَفَاءُ بَعْضِ السُّنَّةِ عَلَيْهِم أَوْلَى فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ.
فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ قَدْ بَلَغَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، أَوْ إمَامًا مُعَيَّنًا فَهُوَ مُخْطِئٌ خَطَأً فَاحِشًا قَبِيحًا.
وَلَا يَقُولَن قَائِلٌ: إن الْأَحَادِيثَ قَدْ دُوِّنَتْ وَجُمِعَتْ؛ فَخَفَاؤُهَا وَالْحَالُ هَذِهِ بَعِيدٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الدَّوَاوِينَ الْمَشْهُورَةَ فِي السُّنَنِ إنَّمَا جُمِعَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ انْحِصَارَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي دَوَاوِينَ مُعَيَّنَةٍ.
ثُمَّ لَوْ فُرِضَ انْحِصَارُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
_________
(١) رواه الإمام أحمد وأصحاب "السنن" وصححه الترمذي. وزوجها هو: هلال بن مرة الأشجعي.
1 / 17
فيها، فَلَيْسَ كُلُّ مَا فِي الْكُتُبِ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ، وَلَا يَكَادُ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِأَحَدِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الدَّوَاوِينُ الْكَثِيرَةُ وَهُوَ لَا يُحِيطُ بِمَا فِيهَا.
بَلْ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ جَمْعِ هَذِهِ الدَّوَاوِينِ كانوا أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ بِكَثِيرِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّا بَلَغَهُمْ وَصَحَّ عِنْدَهُمْ قَدْ لَا يَبْلُغُنَا إلَّا عَنْ مَجْهُولٍ؛ أَوْ بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ؛ أَوْ لَا يَبْلُغُنَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَتْ دَوَاوِينُهُمْ صُدُورَهُمْ الَّتِي تَحْوِي أَضْعَافَ مَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ عَلِمَ الْقَضِيَّةَ.
وَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا. لِأَنَّهُ إنِ اشْتُرِطَ فِي الْمُجْتَهِدِ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَفَعَلَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ: فَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ على هذا مُجْتَهِدٌ، وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَالِمِ: أَنْ يَعْلَمَ جُمْهُورَ ذَلِكَ وَمُعْظَمَهُ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ التَّفْصِيلِ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ ذَلِكَ الْقَلِيلَ مِنْ التَّفْصِيلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ.
السَّبَبُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ.
إمَّا لِأَنَّ مُحَدِّثَهُ، أَوْ مُحَدِّثَ مُحَدِّثِهِ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ رِجَالِ الْإِسْنَادِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ أَوْ مُتَّهَمٌ أَوْ سَيِّئُ الْحِفْظِ.
1 / 18
وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ مُسْنَدًا بَلْ مُنْقَطِعًا؛ أَوْ لَمْ يَضْبُطْ لَفْظَ الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ لِغَيْرِهِ بِإِسْنَادِ مُتَّصِلٍ، بِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ يَعْلَمُ مِنْ الْمَجْهُولِ عِنْدَهُ الثِّقَةَ، أَوْ يَكُونُ قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أُولَئِكَ الْمَجْرُوحِينَ عِنْدَهُ؛ أَوْ قَدْ اتَّصَلَ مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَقَدْ ضَبَطَ أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ؛ أَوْ لِتِلْكَ الرِّوَايَةِ مِنْ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ مَا يُبَيِّنُ صِحَّتَهَا. وَهَذَا أَيْضًا كَثِيرٌ جِدًّا، وَهُوَ فِي التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ إلَى الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، أَوْ كَثِيرٌ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ كَانَتْ قَدْ انْتَشَرَتْ وَاشْتَهَرَتْ، لَكِنْ كَانَتْ تَبْلُغُ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ بَلَغَتْ غَيْرَهُمْ مِنْ طُرُقٍ صَحِيحَةٍ غَيْرِ تِلْكَ الطُّرُقِ، فَتَكُونُ حُجَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الْوَجْهِ الآخر.
وَلِهَذَا وُجِدَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَعْلِيقُ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ، فَيَقُولُ: ﴿قَوْلِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذَا وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بِكَذَا؛ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ قَوْلِي﴾ .
السَّبَبُ الثَّالِثُ:
اعْتِقَادُ ضَعْفِ الْحَدِيثِ بِاجْتِهَادِ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ غَيْرُهُ، مَع
1 / 19
قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّوَابُ مَعَهُ، أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، أَوْ مَعَهُمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: ﴿كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ﴾ .
وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ:
مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا؛ وَيَعْتَقِدُهُ الْآخَرُ ثِقَةً. وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ عِلْمٌ وَاسِعٌ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمُصِيبُ مَنْ يَعْتَقِدُ ضَعْفَهُ؛ لِاطِّلَاعِهِ عَلَى سَبَبٍ جَارِحٍ، وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ الْآخَرِ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ غَيْرُ جَارِحٍ؛ إمَّا لِأَنَّ جِنْسَهُ غَيْرُ جَارِحٍ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْجَرْحَ. وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ.
وَلِلْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَأَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُلُومِهِمْ.
وَمِنْهَا: أن لا يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ، وَغَيْرُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَمِعَهُ لِأَسْبَابِ تُوجِبُ ذَلِكَ مَعْرُوفَةٍ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَدِّثِ حَالَانِ: حَالُ اسْتِقَامَةٍ، وَحَالُ اضْطِرَابٍ. مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِطَ، أَوْ تَحْتَرِقَ كُتُبُهُ، فَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ صَحِيحٌ، وَمَا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاضْطِرَابِ ضَعِيفٌ، فَلَا يُدْرَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ مِن
1 / 20
أَيِّ النَّوْعَيْنِ؟ وَقَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مِمَّا حَدَّثَ بِهِ فِي حَالِ الِاسْتِقَامَةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ قَدْ نَسِيَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِيمَا بَعْدُ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ به، مُعْتَقِدًا أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ تُوجِبُ تَرْكَ الْحَدِيثِ. وَيَرَى غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِجَازِيِّينَ يَرَوْنَ أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ عِرَاقِيٍّ أَوْ شَامِيٍّ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: ﴿نَزِّلُوا أَحَادِيثَ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَنْزِلَةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ، لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ﴾ .
وَقِيلَ لِآخَرَ: سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حُجَّةٌ؟ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ فَلَا.
وَهَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ ضَبَطُوا السُّنَّةَ، فَلَمْ يَشِذَّ عَنْهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِيهَا.
وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ يَرَى أَلَّا يُحْتَجَّ بِحَدِيثِ الشَّامِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى تَرْكِ التَّضْعِيفِ بِهَذَا.
فَمَتَى كَانَ الْإِسْنَادُ جَيِّدًا كَانَ الْحَدِيثُ حُجَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْحَدِيثُ حِجَازِيًّا، أَوْ عِرَاقِيًّا، أَوْ شَامِيًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
1 / 21
وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو داود السجستاني ﵀ كِتَابًا فِي مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ مِنْ السُّنَنِ، بَيَّنَ مَا اخْتَصَّ بِهِ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ مِنْ السُّنَنِ الَّتِي لَا تُوجَدُ مُسْنَدَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ، مِثْلَ الْمَدِينَةِ؛ وَمَكَّةَ؛ وَالطَّائِفِ؛ وَدِمَشْقَ، وَحِمْصَ؛ وَالْكُوفَةِ؛ وَالْبَصْرَةِ؛ وَغَيْرِهَا. إلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ غَيْرِ هَذِهِ.
السَّبَبُ الرَّابِعُ:
اشْتِرَاطُهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ الْحَافِظِ شُرُوطًا يُخَالِفُهُ فِيهَا غَيْرُهُ. مِثْلَ اشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ عَرْضَ الْحَدِيثِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ فَقِيهًا إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ، وَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ انْتِشَارَ الْحَدِيثِ وَظُهُورَهُ إذَا كَانَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ.
السَّبَبُ الْخَامِسُ:
أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ قَدْ بَلَغَهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ لَكِنْ نَسِيَهُ.
وَهَذَا يَرِدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِثْلَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ ﴿سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُجْنِبُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَجِدُ الْمَاءَ؟ فَقَالَ:
1 / 22