82

فنظرت إليه نظرة عميقة وقالت: سيأتي يوم قريب تحتاج فكرتي إلى قوتك لتحقيقها، وتتويجها بالنجاح والفوز.

فأحنى الرجل رأسه وقال: شكرا لك على ثقتك الغالية.

وصمتت المرأة قليلا. كان طاهو وقورا رزينا جادا لا كما عهدته قديما، ولم تكن تنتظر منه غير ذلك واستشعرت نحوه بطمأنينة وثقة. وكانت تلح عليها رغبة قوية في أن تفاتحه في الموضوع القديم، وأن تسأله العفو والنسيان، ولكن خانها البيان ولم تدر ما تقول، وغلبتها الحيرة فأشفقت من الزلل، وتركت هذا الحديث كارهة حائرة، ورأت في اللحظة الأخيرة أن تعلن له عواطفها الطيبة بطريقة أخرى، فمدت له يدها وقالت وهي تبتسم إليه: أيها القائد الجليل، إني أمد لك يد التقدير والصداقة.

فوضع الرجل يده الغليظة في يدها الرخصة الرقيقة، وبدا عليه التأثر فلم يحر جوابا، وانتهت عند ذلك المقابلة القصيرة الفاصلة.

وفي طريق العودة إلى السفينة تساءل محموما: لماذا دعتني هذه المرأة؟ ترك العنان لعواطفه التي كبح جماحها في حضرتها فاختل توازنه، وانكفأ لونه، وارتجفت أوصاله، ومضى يفقد عقله ورشده بسرعة فائقة. وضربت المجاديف جانب الماء وهو يترنح كالثمل، كأنه عائد من معركة خاسرة أفقدته حكمته وشرفه. وخال النخيل المنطلق على الشاطئ يرقص رقصا جنونيا، والجو يعفره غبار ثائر خانق. وكان الدم يتدفق في عروقه ساخنا هائجا مجنونا مسموما، ووجد إبريقا من الخمر على خوان المقصورة، فصبه في فمه حتى أتى عليه في استهتار جنوني، وارتمى على الديوان في حالة يأس قاتل.

وفي الحقيقة لم يكن نسيها، ولكنها كانت تكمن في سرداب خفي من نفسه ما فتئ يسده بالعزاء والصبر وشعوره القوي بالواجب، فلما وقع نظره عليها بعد غياب عام، انفجر المستودع المختفي في نفسه، وتصاعد لهيبه حتى حرق روحه جميعا، وأحس بالعذاب والهوان واليأس والكبرياء الذبيح، فذاق الهزيمة والعذاب مرتين في معركة واحدة منتهية. وأحس بدوار في رأسه المختل، وجعل يحدث نفسه في غضب كاسر، إنه يعلم لماذا عنيت باستدعائه. دعته لتستوثق من إخلاصه، ليطمئن قلبها على سيدها ومولاها الحبيب، وفي سبيل ذلك تكلفت مودته وتملقه، يا للغرابة! إن رادوبيس العابثة القاسية تجد وتحنو وتتعلم ما الحب وما مخاوفه وآلامه، وتشفق من خيانة طاهو، الذي كان يوما يلتصق بنعلها كالتراب، ثم نفضته في حالة تقزز وملل، الويل للسماء والأرض، والويل للدنيا جميعا. إنه يشعر باليأس المميت والغضب القاتل، وبغيظ خانق يطحن نفسه الجبارة. إنه يغضب غضبا جنونيا جارفا، ويشعل دمه نارا موقدة، يضغط على سمعه فلا يكاد يسمع شيئا، ويخضب عينيه فيرى الدنيا شعلة حمراء.

وما إن رست السفينة إلى سلم القصر الفرعوني، حتى غادرها مسرعا، وسار يترنح في الحديقة لا يلتفت إلى تحيات الجنود، متجها إلى حجرة قائد الحرس بالثكنات، وفي أثناء سيره اعترض طريقه رئيس الوزراء سوفخاتب. وكان عائدا من جناح الملك. وقابله الوزير بابتسامة تحية، ولكنه وقف حياله جامدا كأنه لا يعرفه. وعجب سوفخاتب لجموده، وقال له: كيف حالك أيها القائد طاهو؟

فقال طاهو بسرعة غريبة: أنا .. كأسد واقع في شراك .. أو كسلحفاة راقدة على ظهر فرن موقدة!

فبدا الإنكار على وجه سوفخاتب وقال: ما هذا الكلام؟ .. أي شبه بين الأسد والسلحفاة، أو بين الشراك والفرن؟

فقال طاهو في ذهوله: أما السلحفاة فتعمر طويلا، وتتحرك في بطء وتنوء بحمل ثقيل، وأما الأسد فينكمش ويزأر ويثب في عنف فيقضي على فريسته.

Unknown page