رباه! وجدت نفسها وجها لوجه أمام فرعون؛ فرعون نفسه بعزته وجلاله، مرنرع الثاني دون غيره من الخلق!
رباه! لقد زعزعت المفاجأة كيانها، فأخذت قهرا، وغلبت على أمرها. ترى أهي في حلم من الأحلام! ولكنها تعرف حق المعرفة هذا الوجه الأسمر، والأنف الأشم الطويل. إنها لا يمكن أن تنساه أبدا، لقد رأته مرتين، فنفذ إلى ذاكرتها بقوة، وحفر صفحتها حفرا عميقا لا يزول، ولكنها لم تحسب حساب هذا اللقاء، ولا أخذت أهبتها له، لم ترسم له خطة من خططها الرابعة. وهل كانت رادوبيس تلقى فرعون لقاء ارتجاليا، وهي التي تعد العدة للقاء تجار النوبة؟! أخذت على غرة، فقهرت قهرا! ومنيت بالهزيمة الساحقة، وبادرت تنحني لأول مرة في حياتها، وتقول بصوت متهدج: مولاي.
وكانت عيناه ترسلان نظرة عميقة، فتستقر على وجهها الجميل، وكان يلاحظ ارتباكها واضطرابها بلذة غريبة، ويشاهد السحر الذي تنفثه قسماتها بنشوة فاتنة، فلما حيته قال لها بصوته ذي النبرات الواضحة واللهجة العالية: أتعرفينني؟
فقالت بصوتها العذب الموسيقي: نعم يا مولاي .. هكذا شاء حظي السعيد أمس.
وكان لا يشبع من النظر إلى وجهها. وأخذ يحس بتخدير عام يعتور حواسه وعقله، فلم يعد يأبه لإرادته، واندفع قائلا: إن الملوك قوامون على الناس، يسهرون على أرواحهم، وعلى أموالهم، ولهذا جئت إليك لأرد لك أمانة ثمينة.
ولم يبال الملك أن يدس يده تحت وشاحه، فيخرج فردة الصندل ويقدمها لها وهو يقول: أليس هذا صندلك؟
وتبعت عيناها يد فرعون، وشاهدت فردة الصندل تبرز من تحت وشاحه بعينين مرتاعتين لا تكادان تصدقان مما تريان شيئا، وتمتمت بانفعال شديد: صندلي!
فضحك الملك ضحكة عذبة، وقال وعيناه لا تتحولان عنها: بعينه يا رادوبيس، أليس هذا اسمك؟
فأحنت رأسها، وتمتمت قائلة: نعم يا مولاي. وكانت مضطربة فلم تزد، أما الملك فاستدرك: إنه لصندل جميل، وأعجب ما فيه هذه الصورة المنقوشة على باطنه، وكنت أحسبها زخرفا جميلا حتى وقعت عليك عيناي، فعلمت أنها حقيقة رهيبة، وعلمت حقيقة أجل، وهي أن الجمال كالقضاء يباغت الإنسان بما لا يقع له في حسبان.
فشبكت كفيها، وقالت: مولاي .. ما كنت أحلم قط أن تشرف قصري بذاتك، أما أن تحمل صندلي .. رباه! ماذا أقول؟ .. لقد فقدت جناني. غفرانك يا مولاي! ويحي نسيت نفسي يا مولاي، وتركتك واقفا.
Unknown page