الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق
تأليف
شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية
(٦٦١ - ٧٢٨ هـ)
تحقيق
عبد الله بن محمد المزروع
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
مقدمة
الحمد لله الذي جَعَلَ في كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَه، ينفونَ عن العلم تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين، وتأويلَ الجاهلين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين. أما بعد:
فهذا سفرٌ نفيسٌ من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ يرى النور لأول مرة، بعد أن حفظ الله قطعة منه من عوادي الزمان، ومن خصوم الشيخ حيث ترصدوا لمؤلفاته في عصره وبعد ذلك (^١)؛ فإنه (لَمَّا حُبِسَ تفرَّقت أتباعُهُ، وتفرَّقت كتبُهُ، وخوَّفوا أصحابه من أنْ يُظهروا كتبه = ذهبَ كلُّ أحدٍ بما عنده وأخفاه ولم يُظْهروا كتبه، فبقي هذا يَهرب بما عنده، وهذا يبيعه أو يَهَبُهُ، وهذا يُخْفيه ويودعُهُ، حتى إنَّ منهم مَنْ تُسْرق كتبه أو تُجْحَد، فلا يستطيع أنْ يَطلبها! ولا يَقدر على تحصيلها! فبدون هذا تتمزق الكتب والتصانيف كلَّ تمزق) (^٢)، وقد ذكر المَقريزي (٨٤٥) (^٣) أنَّ (أكثر مصنفاته مسوَّدات لم تُبَيَّض، وأكثر ما يوجد منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير، فإنَّهُ أُحرق منها شيءٌ كثير، ولا قوة إلا بالله).
ومع كلِّ هذه الأسباب التي تؤدي إلى ضياع كتب الشيخ إلا أنَّ الله حفظ
_________
(^١) انظر: كتب التراث بين الحوادث والانبعاث، للدكتور حكمت بن بشير ياسين (ص ٤٠ - ٩٣).
(^٢) العقود الدُّرِّيَّة (ص ١٠٩).
(^٣) في المقفَّى الكبير (ص ٥١٣ الجامع).
المقدمة / 5
كثيرًا منها؛ وفي هذا يقول تلميذه ابن رُشَيِّق (٧٤٩) (^١): (ولولا أنَّ الله ــ تعالى ــ لَطَفَ وأعانَ، وَمَنَّ وأَنْعَمَ، وخرق العادة في حفظ أعيان كُتبه وتصانيفه لَمَا أمكنَ أحدًا أنْ يجمعها.
ولقد رأيتُ من خَرْقِ العادة في حفظ كتبه وجمعها، وإصلاح ما فَسَدَ منها، وَرَدِّ ما ذهبَ منها= ما لو ذكرتُهُ لكان عجبًا؛ يعلم به كلُّ منصفٍ أنَّ لله عنايةً به وبكلامه، لأنه يَذُبُّ عن سنة نبيه ﷺ تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
والفضل في وقوفي على الكتاب يعود بعد الله للشيخ الدكتور/ عبد السلام بن إبراهيم الحصين ــ وفقه الله ــ، حيث عثر على الكتاب أثناء بحثه عن كتاب (التحقيق في مسألة التعليق) للسبكي، وبعد أن اطَّلعَ على نسخته ظهر له أنَّ الكتاب ليس للسبكي وإنما لابن تيمية (^٢)، ثم يسَّر الله أنْ اجتمعتُ به في مجلسٍ فعرض عليَّ فكرة تحقيق الكتاب وزوَّدني ــ مشكورًا ــ بصورةٍ منه (^٣)، وبعد أنْ أخذته واطَّلعتُ عليه وتيقَّنت صحةَ نسبتِهِ إلى
_________
(^١) كما نقل ذلك ابن عبد الهادي في العقود (١٠٩ - ١١٠)، وقد رأيت عددًا من الباحثين يَنسب هذا الكلام لابن عبد الهادي، والذي يَظهر أنه تتمة كلام ابن رُشيِّق، والله أعلم.
(^٢) والشيخ عبد السلام الحصيِّن ــ زاده الله توفيقًا ــ ممن له عناية بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية، فرسالته العالمية (الماجستير) والعالمية العالية (الدكتوراه) تدور حول تراث ابن تيمية، وقد أعدَّ قائمةً بمؤلفات شيخ الإسلام المطبوعة نشرها في موقعه على الشبكة المعلوماتية.
(^٣) وإتمامًا للعناية بالكتاب قمتُ بتحميل مخطوطته على الشبكة المعلوماتية بموقع (ملتقى أهل الحديث) لمن أراد الاطلاع عليها، والتأكد من بعض المواضع المشكلة.
المقدمة / 6
ابن تيمية ﵀ عقدتُ العزمَ على العنايةِ به، ثم حاولتُ الحصولَ على نسخٍ أخرى للكتاب تتميمًا للنقص الحاصل في أوله، والخلل الموجود في وسطه، وإعانةً على قراءة ما يُشكلُ منه، فبدأت مرحلة البحث عن الجزء المفقود وعن نسخةٍ أخرى من الكتاب استمرت بضعة أشهر إلا أني لم أصل إلى نتيجةٍ مع بذلي ما في وسعي، ولعل ذلك يتيسَّر لي أو لغيري فيما بعد.
وهذا الكتاب الذي بين يديك ــ أيها القارئ الكريم ــ يعتبر من أطول ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في مسألة تعليق الطلاق؛ فآراؤه وحججه التي بَنَى عليها قولَهُ وردوده على أدلة مخالفيه= مبسوطة في هذا الرد، بينما وردت في فتاويه ورسائله الأخرى مختصرة.
وتأتي أهمية هذا الكتاب ــ أيضًا ــ في كونه جوابًا عن اعتراضِ فقيهٍ من كبار فقهاء الشافعية في زمانه، بل قد بلغَ رُتبةَ الاجتهاد (^١)، وهذا الاعتراض يُعتبر من أقوى ما كُتِبَ في الردِّ على فتوى ابن تيمية في هذه المسألة، حتَّى وَصَفَ ابن تيمية ردَّه هذا مقارنة بردود غيره بقوله (^٢): (... كما ادَّعى هذا المعترض ــ أي: السبكي ــ الذي بَرَّزَ على أقرانه، وظهر فضلُهُ عليهم في فِعْلِهِ ما يَعجزون عن فِعْلِهِ)، وقال في موضعٍ آخر (^٣): (وما سلكه من (التحقيق في التعليق) ــ كما سمَّى بذلك مصنفه ــ ودقق فيه من المعاني، وذكر فيه من الآثار، وأتى فيه من النقل والبحث بما برَّز به على غيره) (^٤).
_________
(^١) وصفه بذلك غير واحدٍ من أصحابه ومحبيه، كما سيأتي في (ص ١٥).
(^٢) (ص ٧٨٩).
(^٣) (ص ٩٣٣).
(^٤) وقال الصفدي في الوافي بالوفيات (٢١/ ٢٥٥) في تَعداده تصانيف السبكي: (والتحقيق في مسألة التعليق، ردًّا على العلامة تقي الدين ابن تيمية في الطلاق، وكان الناس قد عملوا عليه ردودًا ووقف عليها، فما أثنى على شيءٍ منها غير هذا، وقال: هذا ردُّ فقيهٍ). وقال ولي الدين العراقي في الأجوبة المرضِيَّة عن الأسئلة المكِّيَّة (ص ٩٩) عن ردِّ السبكي: (وقد ردَّ عليه فيهما ــ مسألة الزيارة والطلاق ــ معًا الشيخ الإمام تقي الدين السبكي، وأفرد ﵀ ذلك بالتصنيف، فأجاد وأحسن).
المقدمة / 7
ولهذا لم أجد مَنْ أشار إلى أنَّ ابن تيمية قد ردَّ على ابن الزَّمْلَكَاني ــ مثلًا ــ مع أنَّ الأخير قد ردَّ على ابن تيمية ردًّا مطوّلًا في مجلد كبير (^١) إلا أنَّ ابن تيمية لم يَرُدَّ عليه ولا على غيره، رُبَّما اكتفاءً بما ردَّ به على السبكي، أو أَنَّ اعتراض ابن الزَّمْلَكَاني لم يكن بقوةِ اعتراض السبكي ــ من وجهة نظر شيخ الإسلام كما قد يُشير إليه كلامه الذي نقلته قبل قليل ــ، أو أنَّه لم يطَّلع على رد ابن الزَّمْلَكَاني، أو لغير ذلك من الأسباب؛ إلا أنَّ القارئ لهذا الكتاب سيكون على يقين بأنه يُعتبر نقضًا لكلِّ أو أغلب حجج مَنْ اعترض عليه، وبيانًا لقوة ما اختاره ﵀.
ومن جهةٍ أخرى؛ فإنَّ هذا الرد يحتوي على مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ لمسألة هي من مضايق الخلاف، والتي تتقاصر همم كثيرٍ من العلماء عن الولوج في خضمها استدلالًا وترجيحًا، مما دفعَ بعضهم إلى الاكتفاء بحكاية الإجماع دون التحقيق في مدى صحة هذه الدعوى، أو الركون إلى التقليد، تاركين خوض غمار البحث في الأدلة التي من خلالها يتبيَّن القول الراجح من المرجوح (^٢).
_________
(^١) كذا وصفه ابن كثير في البداية والنهاية (١٨/ ٢٨٦).
(^٢) قال أبو الوليد الأزدي في المفيد للحكام (٤/ ٩٩): (ولا يَنبغي أَنْ تُتَلقَّى المسألة هكذا تلقيًا تقليديًا مِن غير أَنْ يَسِمَهَا قويُّ الفَهم، ويوضحها لسان البرهان ... ولا يَنبغي لحاكم ولا لغيره أَنْ يَمُدَّ القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني، فإنَّ الحكم إنْ لم يَقَع مستوضحًا على نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل؛ والتوفيق بيد الله).
المقدمة / 8
ومما يُبيِّنُ أهميةَ هذا الكتاب: أنه مع ما تقدَّم من مخالفة رأي ابن تيمية لجمهور العلماء أو للإجماع المحكي وإعراض كثيرٍ من العلماء عن بحث هذه المسألة= إلا أنَّ كثيرًا من كبار الفقهاء الذين كتبوا قوانين الأحوال الشخصية المبنية على الشريعة الإسلامية في الدول العربية قد أخذوا برأي ابن تيمية في الطلاق المعلَّق (^١)،
وأفتى به كثيرٌ من المتصدِّين للإفتاء في هذا
_________
(^١) قال الشيخ علي الطنطاوي في فتاواه (ص ١٩٢): (ولكن الذي تَمشي عليه المحاكم الشرعية في مصر وسوريا، وأكثر البلاد التي انفصلت عن الدولة العثمانية: أنَّ ذلك منوطٌ بنيته). قال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الفتاوى الشاذة (ص ٩٨ - ١٠٠): «آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذ مدرسته في قضايا الطلاق وشئون الأسرة، التي قُوبلت في زمنه وبعد زمنه بالرفض، والاتهام بالشذوذ، وتشديد الإنكار عليه، واتهامه بمخالفة الإجماع، واتباعه غير سبيل المؤمنين، إلى آخر ما عرفناه من قائمة الاتهامات السوداء، حتى حاكمه علماء زمنه من أجلها، وتسببوا في دخوله السجن ... والآن في عصرنا؛ أصبحت هذه الآراء في فقه الأسرة، وفي أمر الطلاق هي طوق النجاة من انهيار الأسرة وتشتيتها، بسبب تَبَنِّي الأحكام التقليدية المشهورة في شأن الأسرة ... ولقد تبنَّى آراء ابن تيمية كثيرٌ من العلماء في عصرنا، منهم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في زمانه، في مشروعه الذي قدَّمه لإصلاح قانون الأحوال الشخصية في مصر، ومنهم العلامة الفقيه الكبير مصطفى الزرقا ومعه عدد من كبار الفقهاء في مصر وسوريا، في قانونهم لأحوال الأسرة الذي أعدُّوه أيام وحدة مصر وسورية ... وكذلك اعتمدت قوانين الأسرة أو الأحوال الشخصية في عدد من البلاد العربية آراء ابن تيمية ومدرسته سبيلًا للإصلاح والتجديد» ..
المقدمة / 9
الزمان (^١)؛
وما ذاك إلا لحاجة الناس إلى ما نَصَرَه ابن تيمية (^٢)؛ ومع هذا لم يكتب في هذه المسألة ما تستحقُّه من البحوث العميقة المستقصية؛ مما يدعو إلى إبراز أدلة هذا القول الذي نَصَرَه ابن تيمية، والنظر في قوته وضعفه، والجواب عن أدلة المخالفين له (^٣).
_________
(^١) فمنهم: الشيخ حسنين محمد مخلوف ﵀ (مفتي الديار المصرية) حيث أشار في فتاويه إلى أنه بعد صدور القانون رقم (٢٥) لعام ١٩٢٩ م والذي نصَّ في المادة الثانية منه على أنَّ (الطلاق غير المنجَّز لا يقع إذا قَصَدَ به الحَمْلَ على فعلِ الشيء أو تركه لا غير)؛ فالفتوى على ما جرى عليه العمل في القضاء الشرعي مع مخالفته للمذهب الحنفي. ومنهم: الشيخ أحمد شاكر ﵀ (القاضي بالمحاكم الشرعية ثم عضو المحكمة العليا) في كتابه نظام الطلاق (ص ٧٦) إلى تَبَنِّي رأي ابن حزم في المسألة. ومنهم: الشيخ عبد العزيز ابن باز ﵀ (مفتي المملكة العربية السعودية) فقد كان يأخذ بقول ابن تيمية في القضاء والإفتاء.
وأتمنى أن يقوم أحد طُلَّاب العلم الجادِّين بجمع أسماء المفتين بهذا القول قبل وبعد ابن تيمية على غرار ما قام به الشيخ الدكتور سليمان بن عبد الله العمير في كتابه (تسمية المفتين بأنَّ الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ طلقة واحدة).
(^٢) وقد بَرَّ الله قَسَمَ ابن مُرِّي حيث قال في رسالةٍ أرسلها لبعض تلاميذ شيخ الإسلام يستحثهم على العناية بكتب ابن تيمية وانتساخها (ص ١٠٢ من الجامع): (ووالله ــ إنْ شاء الله ــ ليقيمنَّ الله سبحانه لِنَصْرِ هذا الكلام ونَشْرِهِ وتدوينِهِ وتفهمهِ واستخراج مقاصدِهِ واستحسان عجائبه وغرائبِهِ رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه هي سنة الحياة الجارية في عباده وبلاده، والذي وقَعَ من هذه الأمور في الكون لا يُحصِي عددَهُ غير الله تعالى).
(^٣) ومما يدعو إلى إبراز قول ابن تيمية في المسألة وأدلته أنَّ قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية صدر بالأغلبية بوقوع الطلاق المعلَّق، ومع ذلك ففتوى مَنْ تقلَّد منصب الإفتاء على خلاف هذا القرار، ومثله ما فعله مفتي الديار المصرية السابق كما مرَّ قريبًا.
المقدمة / 10
ولعلك تقف معي متأملًا هذا النص الذي يُظهر شيئًا من إشكالية المسألة، حيث يُرجِّح الباحث قول الجمهور ثم ما يَلبث حتى يقول بقول ابن تيمية! فقد ذكر الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه الفقه الإسلامي وأدلته (٧/ ٤٥١) الخلافَ في المسألةِ وأدلةَ كُلِّ قولٍ، ثم قال: (وفي تقديري أَنَّ القول الأول هو الأصح دليلًا (^١)، لكن يلاحظ أَنَّ الشُّبَّان غالبًا يستخدمون اليمين بالطلاق للتهديد لا بقصد الإيقاع، وهذا يجعلنا نميل إلى القول الثالث (^٢)، لا سيما وقد أخذ به القانون في مصر رقم (٢٥ لسنة ١٩٢٩)، وفي سورية؛ فنصت المادة الثانية من القانون الأول والمادة (٩٠) من القانون الثاني (^٣) على الأخذ برأي ابن تيمية وابن القيم: لا يقع الطلاق غير المنجَّز إذا لم يقصد به إلا الحث على فعل شيء، أو المنع منه، أو استعمل استعمال القَسَم لتأكيد الإخبار لا غير).
كما تأتي أهمية هذا الكتاب من أنَّ مؤلِّفه إمام من كبار أئمة المسلمين، وتمكُّنه العلمي يَشهد به الموافق والمخالف (^٤)، وتراثه ﵀ من أنفس ما
_________
(^١) وهو قول الجمهور، والذي نَصَرَهُ السبكي.
(^٢) وهو القول الذي اختاره ابن تيمية.
(^٣) القانون الأول المراد به: القانون المصري. والقانون الثاني المراد به: القانون السوري.
(^٤) قال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص ٢٦٩ الجامع): (فأصحابه وأعداؤه خاضعون لعلمه، مقرُّون بسرعة فهمه، وأنه بحرٌ لا ساحل له، وكنزٌ لا نظير له). وقال في تذكرة الحفَّاظ (ص ٢٧٤ من الجامع): (كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهَّاد الأَفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد. أثنى عليه المُوافقُ والمخالف). وقال ابن حجر في سؤال وجوابه ملحق بآخر الرد الوافر (ص ٣٠٩): (وقد أثنى عليه، وعلى علمه، ودينه، وزُهْدِهِ جميع الطوائف من أهل عصره، حتى ممن كان يُخالفه في الاعتقاد). وغيرها كثير.
المقدمة / 11
سَطَّرَهُ علماء الإسلام لما فيه من التحقيق والتدقيق والتحرير للمسائل العلمية، والكلام في هذه المسألة لا يَصْلُحُ إلا له ولأمثاله من الكبار الأفذاذ.
وقد قدمت بين يدي تحقيق الكتاب عدة فصول ومباحث؛ هي كالتالي:
الفصل الأول: ذكر بعض المسائل الممهدة.
الفصل الثاني: أهم الكتب المصنفة في مسألة تعليق الطلاق، وقد قسمت هذه الكتب إلى ثلاث مجموعات في ثلاثة مباحث هي كالتالي:
المبحث الأول: مؤلفات ورسائل وفتاوى ابن تيمية.
المبحث الثاني: المؤلفات في الرد على ابن تيمية.
المبحث الثالث: مؤلفات ورسائل غير ابن تيمية، أو الرَّادِّين عليه.
الفصل الثالث: دراسة الكتاب، ويشتمل على مباحث:
المبحث الأول: تحقيق اسم الكتاب.
المبحث الثاني: توثيق نسبته لابن تيمية.
المبحث الثالث: سبب تأليفه، وعلاقته بالسبكي.
المبحث الرابع: تأريخ تأليفه.
المبحث الخامس: منهج ابن تيمية في هذا الكتاب.
المبحث السادس: وصف النسخة الخطية.
المبحث السابع: منهجي في العناية بالكتاب، ونماذج النسخ.
المقدمة / 12
الفصل الأول
ذكر بعض المسائل الممهدة
رأيتُ أنَّ تسويد صفحات في ترجمة ابن تيمية والسبكي لا يضيف للقارئ شيئًا، فشهرتهما تغني عن ذكر طرفٍ من حياتهما لا يُقدِّم جديدًا؛ فاكتفيتُ بإلقاء الضوء على بعض القضايا التي أرى أهميتها كمدخل لقراءة هذا الكتاب (^١)؛ فأقول مستعينًا بالله:
المسألة التي وقع فيها الخلاف:
قسَّم الفقهاء الطلاق باعتبار حال الصيغة إلى أقسام متفاوتة من حيث العدد، وذلك بسبب إدخال بعض الأقسام في بعض أو التفصيل فيها؛ وهي في الجملة كالتالي:
القسم الأول: الطلاق المنجَّز: وهي الصيغة المطلقة، كقول الرجل لامرأته: أنتِ طالقٌ. ويُدْخِلُ فيها بعض العلماء ما إذا عَلَّقَ الرجلُ الطلاقَ على أمرٍ محقق الوجود، كقول الرجل لزوجته: أنتِ طالقٌ إنْ كانت السماء فوقنا.
القسم الثاني: الطلاق المضاف: وهي الصيغة المضافة إلى زمنٍ ماضٍ أو مستقبل، كقول الرجل لامرأته: أنت طالقٌ غدًا. أو قوله: أنتِ طالقٌ أمس.
_________
(^١) وأشيد بما كتبه الشيخ ياسر بن ماطر المطرفي في كتابه (حركة التصحيح الفقهي) عن تجربة ابن تيمية في مسار التصحيح الفقهي، وقد اقتصرت على بعض ما كنتُ أنوي كتابته في المقدمة اكتفاء بما ذكره، فقد أتى بما في النفس وأكثر.
المقدمة / 13
القسم الثالث: الطلاق المعلَّق: وهو ما رُتِّبَ وقوعُهُ على حصول أمرٍ في المستقبل بأداةٍ من أدوات الشرط؛ وهذا على نوعين:
النوع الأول: أن يقصد وقوع الجزاء عند وجود الشرط، فهو مريدٌ وقوعه؛ وهذا تحته صورٌ متعددة، ولكلِّ صورةٍ حكمها الخاص.
النوع الثاني: أَنْ يقصد به الحث أو المنع مع كراهة وقوع الجزاء ــ وهو الطلاق هنا ــ، فهذه الصورة هي محل البحث في اعتراض السبكي وجواب ابن تيمية، ورُبَّما انجرَّ البحث إلى القسم الرابع.
القسم الرابع: الطلاق المحلوف به: وهو ما أتى بصيغة القسم دون وجود تعليق لفظي، كقول الرجل لامرأته: الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا. وبعضهم يجعل هذا القسم داخلًا في القسم السابق باعتبار أنه تعليق معنوي.
المنزلة العلمية للمجيب والمعترض:
تَبَوَّأَ كل من ابن تيمية والسبكي درجةً عَلِيَّةً في العلم، حتى قال فيهما الصفدي في أعيان العصر (^١): (وعلى الجملة؛ فكان الشيخ تقي الدين أحدَ الثلاثة الذين عاصرتهم ولم يكن في الزمان مثلهم، بل ولا قبلهم من مائة سنة؛ وهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي)، كما أنَّ المزِّي ﵀ لم يكتب بخطِّهِ
_________
(^١) الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص ٣٦٦).
ولبيان موقف الصفدي نفسه من ابن تيمية والسبكي يراجع ما كتبه الباحث الفاضل أبو الفضل القونوي في كتابه «موقف خليل بن أيبك الصفدي من شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية».
المقدمة / 14
(شيخَ الإسلام) إلا لثلاثة هم: ابن تيمية والسبكي وشمس الدين ابن أبي عمر (^١).
ولم يَقتصر الحال على أنْ يكونا من أفذاذ العلماء فحسب، بل قد وُصِفَ كلُّ واحدٍ منهما بأنه قد استحقَّ رتبة الاجتهاد (^٢)، إلا أنَّ ابن تيمية كان أعلى كعبًا وأدقَّ نظرًا في العلم بشهادة معاصريهما وغيرهم (^٣)،
كما أنه أكثر استعمالًا
_________
(^١) ذكر ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (١٠/ ١٩٥).
وقد قال شيخ الإسلام البُلقيني الشافعي في تقريظه للردِّ الوافر (ص ٢٧٦): (ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي ــ رحمه الله تعالى ــ في ترجمة أبيه تقي الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه، بأنَّ الحافظ المزي لم يكتب بخطِّه لفظ (شيخ الإسلام) إلا لأبيه، وللشيخ تقي الدين ابن تيمية، وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر. فلولا أنَّ ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل ما قَرَنَ ابن السبكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها!).
(^٢) فابن تيمية قد ذكر غير واحدٍ ــ كما في الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص ٧٥٨) ــ بأنَّه قد اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وبالنسبة لتقي الدين السبكي فقد أشار إلى ذلك ابنه في ترجمته من طبقات الشافعية الكبرى (١٠/ ١٤٠)، وفي (١٠/ ٢٢٦) ذكر جملةً من المسائل التي اختارها، ووصفه الصفدي في الوافي بالوفيات (٢١/ ٢٥٣) بأنه أوحد المجتهدين، وذكر ابن النقيب ــ كما نقله السيوطي في تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد (ص ٥٥) ــ أنه جلس بمكة بين طائفة من العلماء فشرعوا يقولون: لو قَدَّرَ الله تعالى بعد الأئمة الأربعة في هذا الزمان مجتهدًا عارفًا منهاجهم أجمعين يُرَكِّبُ لنفسه مذهبًا من الأربعة بعد اعتبار هذه المذاهب المختلفة كلها، لازدان الزمان به، وانقاد الناس؛ فاتفق رأينا على أنَّ هذه الرتبة لا تعدوا الشيخ تقي الدين السبكي ولا ينتهي لها سواه.
(^٣) فقد قال المزي كما في مختصر طبقات علماء الحديث (ص ٢٥١ من الجامع): (ما رأيتُ مثله، ولا رأى هو مثلَ نفسه). ونقل ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (ص ٤٦٨ من الجامع) عن الذهبي قولَهُ: (فلا يَبلغ أحدٌ في العصر رتبته ولا يُقاربه). وقال الذهبي في ذيل تاريخ الإسلام (ص ٢٦٩): (وإلا فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم المجاملة وحسن المكالمة؛ لكان كلمة إجماع). وقال ابن سيِّد الناس اليَعْمَري (ص ١٨٨ من الجامع): (بَرَّزَ في كلِّ فنٍّ على أبناء جنسه، ولم تَرَ عينُ مَنْ رآه مثله، ولا رأت عينُهُ مثلَ نفسِهِ) .. وقال الشيخ السيد أحمد بن الصديق الغماري ــ كما في در الغمام الرقيق (ص ٢٢٧) ــ: (إنَّ بين السبكي وابن تيمية بونًا كبيرًا في العلم وقوة الاستدلال، وأنَّ الثاني ــ وهو ابن تيمية ــ أعلم بمراحل). والثناء على الشيخ وعلى تقدُّمه في العلم على معاصريه كثير جدًا تجد طرفًا منه في الجامع لسيرة شيخ الإسلام (ص ٧٦٦ - ٧٧٠)، ويكفي في هذا الباب كتاب (الرد الوافر) لابن ناصر الدين، وكتاب (الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية) لمرعي الكرمي.
المقدمة / 15
لأدوات الاجتهاد التي توفرت لديه عند نظره في المسائل الشرعية؛ ولهذا تجد ابن تيمية أكثر خروجًا عن مذهبه الحنبلي الذي دَرَسَ في مدارسه وتلمذ لشيوخه، بل رُبَّما قال بأقوالٍ خارجةٍ عن المذاهب الأربعة (^١)، بخلاف السبكي فغاية ما ذكره ابنه أنه انتحل أقوالًا يعترف بأنها خارج المذهب الشافعي وإن
_________
(^١) وما أجمل ما ذكره برهان الدين ابن القيم في أول اختيارات ابن تيمية (ص ١٢١): (لا نَعرف له مسألةً خَرَقَ فيها الإجماع، ومن ادَّعى ذلك فهو إما جاهلٌ، وإما كاذبٌ؛ ولكن ما نُسِبَ إليه الانفراد به يَنقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: ما يُستغرب جدًّا؛ فَيُنسَبُ إليه أنه خالف الإجماع، لِنُدُورِ القائل به، وخفائه على كثيرٍ من الناس، ولحكاية بعض الناس الإجماع على خلافه.
الثاني: ما هو خارجٌ عن مذاهب الأئمة الأربعة؛ لكن قد قاله بعض الصحابة أو السلف أو التابعين، والخلاف فيه محكيٌّ.
الثالث: ما هو خارجٌ عن مذهب الإمام أحمد ﵁ الذي اشتَهَرَ هو ــ أعني شيخ الإسلام ــ بالنسبة إليه، لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم.
الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد، وإنْ كان محكيًّا عنه وعن بعض أصحابه).
المقدمة / 16
كانت ربما وافقت قولًا ضعيفًا في المذهب أو وجهًا شاذًّا فيه (^١).
علاقة ابن تيمية بالسبكي:
تربط ابن تيمية بتقي الدين السبكي علاقة مبنيَّةٌ على التعظيم والتقدير المتبادل؛ فقد كان ابن تيمية لا يُعَظِّمُ أحدًا من أهل عصره كتعظيمه للسبكي (^٢)، وفي المقابل فقد أثنى السبكي على ابن تيمية في الرسالة التي أرسلها جوابًا لرسالة الذهبي (^٣) حيث ذكر تَبَحُّرَ ابن تيمية في العلم وفرط ذكائه، وأنَّ قَدْرَهُ في نفسه أكبر من ذلك وأَجَلُّ (^٤).
لكن هذا التعظيم والتقدير يشوبه بعض الشوائب بسبب الاختلاف العقدي والفقهي بينهما (^٥)، حتى يصل إلى كلامٍ شديد للسبكي في حقِّ ابن تيمية، واتهامات لا تَليق بمقام السبكي ــ رحم الله الجميع ــ من مثل قوله في فتاواه (٢/ ١٦٣): (وهذا الرجل ــ أي: ابن تيمية ــ كنتُ رددتُ عليه في حياته، في إنكاره السفر لزيارة المصطفى ﷺ، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حَلَفَ بِهِ،
_________
(^١) طبقات الشافعية الكبرى (١٠/ ٢٢٦ وما بعدها).
وانظر ما قاله العراقي في الغيث الهامع (ص ٧٢٠) في سبب بقاء السبكي شافعيًا مع أنه حاز علوم الاجتهاد واستكمل آلاته!
(^٢) نقل ذلك التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (١٠/ ١٩٤).
(^٣) حيث أرسل الذهبي رسالةً يَعتبُ فيها على السبكي بسبب كلامٍ وَقَعَ منه في حقِّ ابن تيمية.
(^٤) نقل ذلك ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة (ص ٤٧٠ من الجامع)، وابن حجر في الدرر الكامنة (ص ٥٤٨ من الجامع)، وابن العماد في شذرات الذهب (ص ٦٣٣ من الجامع) وغيرهم.
(^٥) انظر: الدُّرَّة المضية (ص ٦ - ٨).
المقدمة / 17
ثم ظهر لي من حاله ما يَقتضي أنه ليس ممن يُعتمد عليه في نقلٍ يَنفرد به؛ لمسارعته إلى النقل بفهمه، كما في هذه المسألة ــ وهي مسألة قول الواقف: وقفتُ على أولادي، ثم أولاد أولادي ــ، ولا في بحثٍ يُنشئه؛ لِخَلْطِهِ المقصود بغيره، وخروجه عن الحدِّ جدًّا، وهو كان مكثرًا من الحفظ، ولم يتهذَّب بشيخ، ولم يَرْتَض من العلوم؛ بل يأخذها بذهنه، مع جسارته، واتساع خياله، وشَغَبٍ كثيرٍ!
ثم بلغني من حاله ما يَقتضي الإعراضَ عن النظر في كلامِهِ جملةً، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للردِّ عليه، وحُبِسَ بإجماعِ المسلمين وولاة الأمور على ذلك! ثم مات) (^١).
وفي المقابل؛ فقد تكلم ابن تيمية في السبكي بكلام شديد من نحو تجهيله واتهامه بتحريف الكلم عن مواضعه ... ونحو ذلك؛ كما سيأتي في كتابنا هذا.
ولست في مقام المحاكمة بين ابن تيمية والسبكي، فقد (مضى ــ ابن تيمية ــ لسبيله راجيًا من الله أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون) (^٢).
موقف السبكي من مسألة تعليق الطلاق:
كانت الفتوى السائدة المنتشرة هي القول بوقوع الطلاق المعلَّق مطلقًا، سواء قصد منه القائل حثًّا أو منعًا أو لم يقصد، وسواء أكان كارهًا وقوعه
_________
(^١) انظر تعليق ابن عبد الهادي على هذا الكلام مما نقله صاحب كتاب الفواكه العديدة (١/ ٤٨٦ - ٤٩٠)، وجلاء العينين للآلوسي، وكتاب (ابن تيمية رَدُّ مفتريات ومناقشة شبهات) للدكتور خالد العبد القادر، وما ذكره المؤرخون والعلماء يردُّ هذا الكلام الذي ذكره السبكي ــ عفا الله عنه ــ.
(^٢) إعلام الموقعين (٣/ ٣٦٣).
المقدمة / 18
وغير مريدٍ له أم لا، حتى أفتى ابن تيمية ﵀ في مسألة تعليق الطلاق عِدَّةَ فتاوى انتشرت في الآفاق واطلع عليها أهل العلم في زمانه، فرَّق فيها بين من يقصد الحث أو المنع وهو كارهٌ وقوعَ الطلاق وبين من يَقصد وقوع الطلاق عند الشرط، وكانت هذه الفتاوى سببًا في امتحانه ومنعه من الإفتاء في هذه المسألة، وانتهت هذه المحنة بسجنه بضعة أشهر (^١).
وقد تصدَّى للردِّ عليه اثنان من كبار الفقهاء في زمانه هما: ابنُ الزَّملكاني وتقي الدين السبكي، وكان للسبكي اليد الطولى في محاربة هذا القول والقائلين به، ابتداءً بابن تيمية إلى تلاميذه المتأثرين برأيه في هذه المسألة خصوصًا (^٢).
وكان دافع السبكي ﵀ في هذا الحماس (خوفًا على محفوظ الأنساب، ومحظوظ الأحسابِ؛ لِمَا كانت تؤدي إليه هذه العظيمة، وتَستولي عليه هذه المصيبة العميمة) (^٣)، وهذا الظنُّ بمثله في كبير علمه وديانته (^٤).
وقد كتب في الرد على ابن تيمية في هذه المسألة ستة ردود (^٥)، هي كالتالي:
_________
(^١) انظر: العقود الدرية (ص ٣٩٣ فما بعدها).
(^٢) قال النعمان الآلوسي في جلاء العينين (ص ٣١): (إن أكثر المنتقدين من المعاصرين وأشدهم في الوقوع فيه: الإمام السبكي).
(^٣) كما ذكر ذلك ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار (٥/ ٧٤٤).
(^٤) انظر: المعجم المختص (ص ١٦٦)، أعيان العصر (٣/ ٤١٧)، مرآة الجنان (٤/ ٢٢٥)، البداية والنهاية (١٨/ ٤١٠)، بغية الوعاة (٢/ ١٧٦).
(^٥) وربما تعقَّبه بأكثر من ذلك، لكن هذا ما وقفتُ عليه.
المقدمة / 19
الردُّ الأول: وهو ردٌّ مختصر أسماه (رافع الشقاق في مسألة الطلاق).
الردُّ الثاني: وهو ردٌّ موسَّعٌ أسماه (التحقيق في مسألة التعليق)، وقد ذكر هذا الردّ والذي قبله التاج السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى (١٠/ ٣٠٨).
ويظهر أنَّ (رافع الشقاق) ألَّفه التقي أولًا، ثم بسط الاعتراض على ابن تيمية في كتابه (التحقيق)؛ كما أشار إلى ذلك ابن تيمية في ردِّه هذا بقوله (ص ٥٩٣): (ولكن ــ والله أعلم ــ كان قد اعترض أولًا اعتراضًا مختصرًا ذكر فيه هذا الكلام، ثم بسط الاعتراض بما تقدم ذكره له أولًا؛ فلهذا تكرر هذا منه)، وقال في (ص ٧٠٩): (ولما لم يكن الكلام فيه ــ أي: في الفتوى المعترض عليها ــ مستوفًى ظَنَّ هذا المعترض وأمثاله أَنَّ هذا هو غاية ما في المسألة من النقل والبحث، فَطَمِعَ مثل هؤلاء في رَدِّ ذلك، وإِنْ كانوا مع قلته لم يردوه بحق، فلمَّا انتشر الكلام فيها وظهر لهم بعد هذا من النقل والدليل ما لم يكن في هذا الجواب = تكعكع مَنْ كان يتحدى بما عنده من العلم والبيان، وكتموا ما كانوا كتبوه في حكم هذه الأيمان، وبلغني أَنَّ المعترض لَمَّا رأى بعض ما ذُكِرَ ــ غَيْرَ الجواب المختصر ــ بَسَطَ هذا الاعتراض هذا البسط؛ ولهذا وقع فيه ما وقع من التكرار، وأنه لما رأى ما هو أبلغ من ذلك استعفى عن معاودة الاعتراض).
الردُّ الثالث: وهو كتابةٌ مختصرةٌ جدًّا، ليست كحال الردود، انتخبها السبكي من كتابه (التحقيق)، وجعلها في مقاصد خمسة (^١).
_________
(^١) نشرت مصورتها ضمن مخطوطات الأزهر على الشبكة المعلوماتية.
المقدمة / 20
وهذه الردود الثلاثة السابقة على فتوى واحدة لابن تيمية (^١).
الردُّ الرابع: (الدُّرَّةُ المضيَّة في الرد على ابن تيمية).
الردُّ الخامس: مؤاخذات تقي الدين السبكي على رسالة ابن تيمية (الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق)، انتهى من تأليفها بكرة نهار الأربعاء عشري شهر رمضان سنة ثماني عشرة وسبعمائة.
الردُّ السادس: النظر المحقق في الحلف بالطلاق المعلَّق (^٢)، وهذه الرسالة ليست ردًّا على فتوى معيَّنة، كتبها ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من محرم سنة خمسٍ وعشرين وسبعمائة.
وهذه الردود تُبيِّن حجم المسألة التي وقعَ فيها النزاع، ومدى الجهد الذي بَذَلَه السبكي في تتبع فتاوى ابن تيمية والردِّ عليها؛ فقد (جَرَّدَ سيفه، وأَرْهَفَ ذُبَابَيهِ، وردَّ القِرْنَ وهو ألدُّ خَصيم، وشدَّ عليه وهو يَشُدُّ على غيرِ هَزيم، وقابَلَهُ وهو الشمس التي تُعْشِي الأبصار، وقاتلَهُ ــ وكم جَهِدَ ــ ما يَثْبُتُ البطلُ لعليٍّ وفي يَدِهِ ذو الفَقار) (^٣).
وكان السبكي يحتفي بردِّه على ابن تيمية في مسألة تعليق الطلاق، فقد أَنشدَ لنفسهِ أبياتًا ذكر فيها ردَّ ابن تيمية على ابنِ المطهِّر الرافضي وما عابه
_________
(^١) هي المنشورة في مجموع الفتاوى (٣٣/ ١٨٧).
(^٢) سيأتي وصف هذه الكتب، والإشارة إلى ما طبع منها وما لم يطبع.
(^٣) كذا وصف ابن فضل الله العمري ردود السبكي على ابن تيمية في مسألة الطلاق والمنع من شدِّ الرحل (٥/ ٧٤٥).
المقدمة / 21
عليه، ثم قال عن ابن تيمية (^١):
لو كانَ حيًّا يَرَى قولي ويفهمُهُ ... رددتُ ما قال أَقْفُو إِثْرَ سَبْسَبِهِ
كما رددتُ عليه في الطلاقِ وفي ... تَرْكِ الزيارةِ ردًّا غيرَ مشتبِهِ
وبعدَه لا أرى للردِّ فائدةً ... هذا وجوهرُهُ مما أَضِنُّ بِه
وأهمُّ ردوده وأقواها وأطولها هو ردُّه المسمى بِـ (التحقيق)، فقد صار عمدةً يُحيل عليه في بعض كتبه الأخرى، كما فعل في مؤاخذاته على رسالة (الاجتماع والافتراق) لابن تيمية (^٢)، وانتخب منه وريقات كما تقدم في الرد الثالث.
وقال التاج السبكي عن ردِّ والده المسمَّى (التحقيق) (^٣): (وقد أطال الشيخ الإمام الوالد الكلام على هذا، وحَرَّرَ مخالفته للإجماع في كتابه الرد على ابن تيمية في مسألة الطلاق كتاب (التحقيق) الذي هو مِنْ أَجَلِّ تصانيفِ الشيخِ الإمامِ)، كما أثنى على ردِّه هذا خصوصًا غير واحدٍ ــ كما تقدم ــ منهم منازعه ابن تيمية (^٤).
وقد دوَّن السبكي في ردِّه هذا بعض العبارات التي لا تخلو من اتهام
_________
(^١) انظر: طبقات الشافعية الكبرى (١٠/ ١٧٦ - ١٧٧). وقد تعقَّب قصيدة السبكي هذه كلٌّ من: يوسف بن محمد السُّرَّمُرِّي الحنبلي، ومحمد بن جمال الدين الشافعي؛ وستأتي الإشارة إليهما في (ص ٥٦ - ٥٧).
(^٢) فتاوى السبكي (٢/ ٢٧٢). وقد أشار له في الدُّرَّة المضية (ص ١٥، ٤١) دون تصريح باسم كتابه.
(^٣) طبقات الشافعية الكبرى (٢/ ٦٥).
(^٤) انظر (ص ٧ - ٨) من هذه المقدمة.
المقدمة / 22
ودخولٍ في النيات من مثل ما قاله بعد نَقْلِهِ فتاوى لابن عبد السلام تُخالف ما نَسَبَهُ إليه ابن تيمية: (... فمن كان هذا كلامَهُ؛ كيف ينقلُ عنه أنه كان يُفتي بعدم وقوع الطلاق؟! ولا يَحلُّ لمسلمٍ ــ فضلًا عن فقيهٍ [... يُنَصِّبُ] (^١) نفسه منصب الإمامة أَنْ يَعتمد في دين الله ــ تعالى ــ على مثل هذه التُّرهات الباطلة، ولا أنْ يَكتفي في نقلِ الأحكام الشرعية (^٢) بكلِّ ما بلغه، فكفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمع (^٣)؛ ولهذا يقال: لا يكونُ إمامًا مَنْ حَدَّثَ بكلِّ ما سمع، وليس ابن تيمية ممن يَخفى عليه مثل هذا، ولكنه لَمَّا رَأَى أمرًا شُغِفَ بِنُصْرَتِهِ والإكثار مما يَستند إليه من حقٍّ وباطلٍ؛ لِيَنْفُقَ ذلك عند الضَّعَفَةِ وَمَنْ لا تمييز له؛ حتى يقع في أنفسهم أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف ...) (^٤).
وهذا يُشير إلى الحماس الشديد الذي بلغ بالسبكي في إنكار هذا القول على ابن تيمية، وقد بيَّنَه هو في رسالته التي أرسلها إلى النبي ﷺ ــ إنْ صحَّت عنه ــ حيث قال فيها: (... ثم عاد إلى الشام ــ أي: ابن تيمية ــ، ثم بلغنا كلامه في الطلاق، وأنَّ مَنْ علَّق الطلاق على قصد اليمين ثم حنث لا يقع عليه طلاق، ورددت عليه في ذلك ... لكن الطلاق والزيارة أنا شديد
_________
(^١) هكذا قرأتها.
(^٢) كررها الناسخ.
(^٣) أخرج أبو داود في سننه (٤٩٩٤) عن أبي هريرة ﵁ مرفوعًا: «كفى بالمرء إثمًا أنْ يُحدِّث بكلِّ ما سمع» وقال: ولم يذكر حفصٌ أبا هريرة. ثم قال: ولم يسنده إلا هذا الشيخ يعني علي بن حفص المدائني. وقد أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (برقم ٥) عن حفص بن عاصم مرفوعًا «كفى بالمرء كذبًا أَنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع» ثم ساق إسناده من طريق علي بن حفص بذكر أبي هريرة مرفوعًا. وصححه ابن حبان (برقم ٣٠).
(^٤) التحقيق في مسألة التعليق (١١ / أ)، وانظر: (٢٦ / أ).
المقدمة / 23