كان يغني البلد في أعقاب الجيل الماضي من أعلام المغنين المرحومين عبده الحمولي، ويوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، ومحمد الشنتوري، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي، وغيرهم. وكان لكل من هؤء طريقته في الغناء وأسلوبه، ولكل منهم شيعته ومؤثروه على غيره، يلتمسون مجلس غنائه أنى كان ، ويطلبونه مهما جشمهم الأمر من الجهد والمشقة، ويرددون تنغيمه إذا خلوا إلى أنفسهم أو إذا خلا الصحاب من أهل المراح إلى الصحاب، ومع هذا لم يزعم أحد أن غناء غير من يؤثر ينشز على سمعه أو يخمش مزاجه، أو يفرق ذوقه، كما هو حادث الآن؛ بل لقد كان يسمع جميع الناس من جميع هؤلاء فيستريحون إلى غنائهم، وقد يذهب بهم الطرب كل مذهب، وذلك بأن اختلافهم إنما كان في حدود هذا الذوق العام فهو لا يعدو إيثار فن على فن، واستجادة مذهب أكثر من استجادة غيره، على أنه في كل حال مستملح مستجيد، كانت تلاحين الملحنين قارة مطمئنة تجري على قوانين مرسومة، وتجول في حدود معلمة مقسومة، وكانت الأذواق كذلك قارة مطمئنة لا حئول فيها ولا اضطراب، فلا يكاد غناء المغني المجيد يقرع السمع حتى تراه قد سال من فوره في النفس، ونفذ إلى مجامع العاطفة، فأشاع طربا وبعث أريحية أو حرك شجى وأثار شجنا.
وأرجو ألا تفهم من كلامي هذا أن الغناء في ذلك العهد كان جامدا لا يتحرك، واقفا لا يتقدم، عاتيا لا يلين لتلوين ولا تجديد، بل لقد كان مفتنا متلونا متجددا، ولكن في تلك الحدود التي رسمها الذوق العام، ولهذا كان التجديد يجري في لباقة ورفق، فلا ينشز على الأسماع، ولا تأذى به الأذواق، وناهيك بما صنع عبده الحمولي في هذا الباب، وما صنع جد كثير!
وكيفما كان الأمر، فلقد كان بين ذلك الغناء وبين الذوق المصري إلف وبينه وبين النفس ود، حتى لكأنه لاحق بالفطرة، موصول بالطبع!
الموسيقى الحديثه
والآن حق علينا أن نميل بالحديث إلى صفة الجديد، وكيف جاءنا هذا الجديد؟
لهذا الانقلاب العنيف في الموسيقى المصرية سببان:
أحدهما طبيعي، والآخر صناعي، أما الطبيعي فهو تلك الثورة التي زلزلت عندنا كل شيء، فلم تدع شيئا من العادات، والتقاليد، والأخلاق، وآداب السلوك، والأزياء، والفن والأدب، وغير ذلك من مظاهر حياتنا إلا ترجمته بقدر كبير، وجمهور الناس مهرول مغذ إلى تقليد الغربيين في كل جليل ودقيق ، فكان من الطبيعي أن يقلدوهم في موسيقاهم، كما يقلدونهم في غيرها من شئون الحياة.
أما السبب الصناعي، فقد انبعث في هذا البلد شاب موسيقي جمع إلى العلم بالفن رهافة الحس، ودقة الشعور، والقدرة القادرة على الابتكار والتجديد وأعني به المرحوم الشيخ سيد درويش.
كان المرحوم سيد درويش يلمح النبرة تقع في بعض التنغيم الأجنبي، شرقيا كان أو غربيا، فيدرك أنها مما لو سوي بعض التسوية لأمكن إدماجها في موسيقانا، ولكان لها حلاوة في الآذان وطرب للنفوس، وعلى ذلك أدخل على موسيقانا كثيرا من التناغيم الأجنبية وطبعها فيها، وسرعان ما تقبلتها الأذواق في غير قلق ولا نفور.
كذلك أراد - رحمة الله عليه - أن يترجم بالموسيقى عن بعض المحسوسات فتقدم، وكان علاجه لما عالج من هذا في غاية الرفق والتواضع، وكذلك قدر له فيما أراد النجاح، ويطوي الردى سيد درويش، ويطوف بالبلاد طائف ذلك الانقلاب العنيف، ويأبى الملحنون والمغنون إلا الموسيقى إفرنجية لا يشوبها شيء مما ألفت الآذان من قديم الزمان، وعلى ذلك راحوا يحاكون الموسيقى الغربية التي يسمعونها هنا وهناك، ولكن كيف يحاكونها ولا علم لأكثرهم الكثير بما تتكئ عليه هذه الموسيقى الإفرنجية من القواعد والأصول؟
Unknown page