ثم تتغير الدنيا مرة أخرى، ويأتلف المختلفون ويتفق المختصمون، فإذا عبد العزيز يغشى مجالس السعديين وأنديتهم كما كان يغشى مجالس العدليين وأنديتهم. ولكنه على كل هذا التنقل وعلى كل هذا الاضطراب بين أحياء القاهرة كان يثبت على مكان واحد يختلف إليه مهما تكن الظروف والأحداث ليلقى فيه علي إبراهيم وأصحابه ساعة من ليل.
وفطرت نفسه على حب التنقل المعنوي، فكان يشارك في علوم الأزهر طائعا أو كارها، وماذا يصنع وهو ابن شيخ الإسلام وقد سلكه أبوه رحمه الله مع الأزهريين في نظام واحد. وكان يشارك في أدب القدماء وفي أدب المحدثين، وكان يلم بالأدب الأجنبي إلماما قصيرا من بعيد. وكان يحاول أن يتعلم اللغة الفرنسية ويعرف منها أطرافا ويتندر بها في حديثه العذب. وكان قد أدمن قراءة «الأغاني»، ففصح لسانه إلى أبعد غاية من غايات الفصاحة، وآثر في حديثه جزالة اللفظ، وأعانه صوته المتين المليء على التضخيم والتفخيم والترصين. وكان من أروع ما يروعك حين تسمع إليه متحدثا بلغة الجاحظ وأبي الفرج أن تستخفك اللفظة الفرنسية قد انزلقت من بين هذا الكلام العربي الرصين المتين من حيث لا تدري أنت ولا يدري هو.
ثم يريد الله أن تعدو العوادي، وأن تدلهم الخطوب، وأن نفقد عبد العزيز على غير توقع لفقده، وإذا نحن نحرم هذا المتاع الغريب النادر الذي كنا نجده حين نتحدث إليه ونستمع له، وإذا نحن مضطرون إلى أن نستحضر حديثه بقراءة ما ترك لنا من الآثار، نقرأ ويخيل إلينا أننا نسمعه يتحدث، فنجد في ذلك مزاجا غريبا من اللذة الأليمة والسرور الحزين.
ثم يتحدث إلي أحد أصدقائي ذات يوم بأن لعبد العزيز آثارا لم تجمع في كتاب، نشر بعضها في المجلات وأذيع بعضها في «الراديو» وأعد بعضها للنشر أو للإذاعة، وكان عبد العزيز يهيئها كلها لتجمع في سفر أو سفرين، فأعجله الموت عن ذلك، فلا أكاد أسمع هذا النبأ حتى ألح على صديقي في أن يصل الأسباب بيني وبين هذه القطوف، فيتاح لي ذلك، فلا أقرأ ولا أستقصي، وإنما أزمع نشر هذه الفصول؛ وفاء بما لهذا الأديب العظيم من حق، ورعاية لما لهذا الصديق الكريم من حرمة.
لا أقرأ ولا أستقصي إجلالا لآثار عبد العزيز أن تقرأ أو تستقصى قبل أن تقدم إلى المطبعة، فقد كان راضيا عنها، وهذا يكفي. ثم تطبع هذه القطوف وترسل إلي في فرنسا، فأخلو إليها في هذه القرية النائية من قرى الجبل أياما، فلا أشك في أني لم أخطئ حين وثقت برأي عبد العزيز في قطوفه، فهي الأدب كل الأدب، وهي الفن كل الفن، وهي الكلام الذي يجمع إلى رصانة الأدب القديم وجزالته خصب الأدب الحديث وثروته. وهي على ذلك كله - إذا ضمت إلى ما جمع من آثار عبد العزيز - صورة فذة لا نظير لها في الأدب المعاصر، فهي فصل مستقل من تاريخنا الأدبي، يصور لونا من ألوان هذا التاريخ لا نجده عند كاتب آخر من كتابنا المعاصرين، لا أكاد أستثني منهم إلا صديقنا المازني.
فعبد العزيز أشد كتابنا المعاصرين عكوفا على حياتنا المصرية، وعلى حياة القاهرة خاصة، وعلى حياة الطبقة الوسطى من أهل القاهرة بنوع أخص، وهو أشد كتابنا نفوذا إلى دقائق هذه الحياة وسرائرها، وأشدهم تمثلا لخلاصتها، قد خالطت نفسه، ومازجت دمه، وانطلقت على لسانه حين كان يتحدث، وجرت مع قلمه حين كان يكتب، فهي أصدق مرآة وأصفاها للحياة المصرية في عصر الانتقال. وقد كان عبد العزيز رحمه الله يحب أن يصور المعاصرين ويجلو صورهم في فصول رائعة كانت تنشر بعنوان «في المرآة» ثم جمعت بعد ذلك في سفر أرجو ألا يكون قد انقطع من أيدي الناس.
فاقرأ «قطوفه» هذه، فسترى في كل فصل من فصولها مرآة مصقولة صافية صادقة أدق الصدق، لا تعكس صورة فرد من الأفراد، وإنما تعكس صورة بيئة من البيئات، أو جماعة من الجماعات، أو لون من ألوان التفكير المصري، أو فن من فنون السيرة المصرية في هذا الطور أو ذاك من أطوار الحياة، فإذا فرغت من قراءة هذه «القطوف» فقد استقرت في نفسك صورة كاملة شاملة دقيقة لحياة مصرية ذهب أكثرها وبقي أقلها، ولحياة مصرية جديدة ناشئة لم يتم تكوينها بعد، ولكن عبد العزيز سبق بذكائه النافذ وملاحظته الدقيقة إلى التنبؤ بحقائقها وبما سيختلف عليها من الأطوار.
وكنت أقدر أن رعاية حرمة الأدب والوفاء بحق الصديق هما اللذان قد دفعاني إلى نشر هذا السفر، فإذا أنا أقرأ ثم لا أشك في أني قد أهديت بنشره طرفة من أقوم الطرف وأشدها إمتاعا إلى المثقفين من قراء العربية عامة وإلى الشباب منهم خاصة، فما أعرف أن كاتبا من الكتاب المعاصرين أتيح له من التوفيق مثل ما أتيح لعبد العزيز في هذه الفصول التي تسجل من حياتنا ما كاد يضيع، وتسجله في أروع لفظ وأبرعه وأجزله وأمثله. وما أشك في أن كثيرا من هذه القطوف لو ترجم إلى بعض اللغات الأوربية لفتن به كثير من أهل الغرب فتونا.
ولو علمت أني أستطيع أن أشير على وزارة المعارف فتسمع مني وتقبل مشورتي لأشرت عليها في أن تجعل كتب عبد العزيز البشري، وهذا الكتاب منها خاصة، بين الكتب التي تدرس في المدارس الثانوية، فما أعرف أقدر منه على تحبيب الأدب العربي إلى الشباب وتزيينه في قلوبهم، وإقناعهم بأن لغتنا الفصيحة القديمة تستطيع أن تؤدي من المعاني والأغراض ما تقتضيه الحياة الحديثة دون أن يمسها من ذلك نصب أو لغوب.
رحم الله عبد العزيز، وهيأ للأدب العربي من يقوم مقامه، ولولا الثقة بالله لقلت كما قال الجحاف في العصر القديم: «وما أراه يفعل»، ولكن قدرة الله وسعت كل شيء، ورحمته وسعت كل إنسان، فليعوض الله من عبد العزيز خيرا، وليسبغ الله على عبد العزيز رحمة ونعمة وثوابا.
Unknown page